المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ }


adnan
04-12-2013, 11:28 PM
الأخ الزميل / فاخر الكيالى



{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ }



تأخذ الحياة أحدنا يَمْنة ويَسرة سواء عقل ذلك أم لم يعقله؛

ففي غمرة البحث عن القوت، والانشغال بالذات والأولاد،

واللهث خلف الطموح والأمل، يجد الإنسان نفسه مقروعًا بآية قرآنية،

ومستبشرًا بأخرى؛ تحركه بواعث الخير لتطبيق آية،

ويمنعه صراحة النهي عن الإقدام في أخرى، فالمسلم إذن محظوظ بالقرآن؛

إذ يأخذك هذا الكتاب الرباني العظيم إلى عوالم أكبر وأعمق من مجرد

التفاصيل التافهة التي نشغل أنفسنا بها في هذه الحياة اللاهية.



ولا نكاد نحيط بهذه العظمة القرآنية إحاطة شبه كاملة، فدلالات الآيات تجعلنا

نعيش حياة الصمت والتفكر بين اللحظة والأخرى،

وإن أعجب العجب أن ترى رؤية الآخر للقرآن الكريم قد تداركت أعماق

الفؤاد وعرفته، وكشفت الغطاء عنه، وأثبتت حقيقة الإنسان والنفس والحياة

من خلال كلمات قد تكون غاية في البساطة لكنها كبيرة الأثر،

خليقة بتغيير الأنفس كافة؛ فتجربة المسلم في فهم الآية ومعايشتها لفظًا

ونفسًا ومعنى، ثم الإخبار عن هذه التجربة لمن أعظم العبر والدلالات

الصادقة لفهم النص القرآني المكتوب والملفوظ، شأنها في ذلك شأن كتاب

أو موقف غيّر مجريات التفكير والحياة النمطية عندنا.



على أن الاطلاع على ما كتبه رجال التفسير، والخوض في رحاب هذا العلم

الطاهر الزكي، ليأخذك إلى من فتحَ الله عليهم من نور ضيائه وعلمه

وحكمته، إلى شيء يبهرك ويجعلك عاجزًا أمام نفسك التي أوتيت من العلم

أقل من أقل القليل، فتعلم أمام نور الكلمات وضيائها أنك ما زلت بعيدًا..

إنك هناك في عالم التيه والبعد عن الله، الذي فتح أبوب العلم والفهم

أمام السلف الصالح، والخلف الطاهر النقي.



تلك الكلمات الآنفة كانت بسبب وقوفي أمام قول الله تعالى:



{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ }

[البلد: 4]

ذلك أنني أردت البحث عن ماهية الكبد الذي يعانيه كل البشر؛

غنيهم وفقيرهم، سعيدهم وشقيهم، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساؤهم

كما دلت الآية الكريمة، فهممت بالبحث عن تفسير هذه الآية في تفاسير

القرآن الكريم؛ وكان ترتيب بحثي كما يلي:

تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ثم تفسير الكشاف للزمخشري،

ثم تفسير الماوردي، ثم تفسير الفخر الرازي،

ثم تأنيت مع إمامنا شمس الدين القرطبي (ت 671هـ) في تفسيره الباهر

الجامع لأحكام القرآن، والتفسير وإن كان مهتمًّا بجمع الأحكام الفقهية

المستقاة والمستنبطة من الآيات القرآنية، إلا أنك ترى فيه نور العلم،

وبركة الفهم التي أنعم الله على عبده القرطبي،



فماذا قال القرطبي عن تفسير هذه الآية؟



لقد ساق -رحمه الله- أقوال أهل العلم والسلف في تفسير هذه الآية،

وأوضح المعاني المتفاوتة لكلمة (كبد)، لكنه ختم قوله بالذي أهاج فيَّ نار

الحقيقة، وماهية الحياة، وعلة الكَبد، قال رحمه الله:



قال علماؤنا: أول ما يكابد قطعَ سُرّته، ثم إذا قمط قماطًا، وشدَّ رباطًا،

يُكابدُ الضيق والتعب، ثم يكابدُ الارتضاع، ولو فاته لضاع،

ثم يكابد نَبْت أسنانه، وتحرّك لسانه، ثم يكابد الفِطام،

الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان،

ثم يكابد المعلِّم وصولته، والمؤدِّب وسياسته، والأستاذ وهيبته،

ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد،

ثم يكابد شُغل الدور، وبناء القصور، ثم الكِبر والهرم، وضعف الركبة والقدم،

في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس،

ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدَّين، ووجع السن، وألم الأُذن.

ويكابد مِحَنًا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس،

ولا يمضي عليه يوم إلا يُقاسي فيه شدة، ولا يُكابد إلا مشقة،

ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة المَلَك، وضغطة القبر وظلمته،

ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقرَّ به القرار،

إما في الجنة وإما في النار، قال الله تعالى:



{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي كَبَدٍ }

فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودلَّ هذا على أن له خالقًا دبّره،

وقضى عليه بهذه الأحوال، فليمتثل أمره .



ونحن بحول الله نجاهد في امتثال أمر الله تعالى وقدره،

ونصبر على هذه المشقة التي إنما كتبها الله على كل إنسان ذي عقيدة وثقافة

ومشرب مختلف عن الآخر، لنرجع إليه -نحن المسلمين خاصة- سبحانه،

ولنعلم أن الله واحد، وأن هناك نعيمًا مقيمًا يوم القيامة.

لكن ما لفت انتباهي في هذا الكلام الزكي النقي،

أن تجربة الإنسان في هذا الكون واحدة، وأنه مهما أوتي من السلطان

والعظمة والأبهة، ومهما أوتي من الفقر والذل والمهانة فهو ذو مشقة

وتعب، وأن هذه المشقة التي عبّر عنها الإمام القرطبي منذ أكثر من سبعة

قرون مضت، هي ذاتها التي نعاني منها في يومنا هذا؛

لنتأكد في نهاية المطاف أن الحق كل الحق، وأن الراحة كل الراحة،

وأن الحياة السرمدية الحقيقية التي أعلمنا الله بها إنما هي في الجنة،

وإننا على يقين أن الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.



ولنا مع القرطبي وقفة؛ لنعلم حقيقته وحياته عن قرب،

وسبب النور الذي نراه في كلماته العذبة الرقراقة،

فنسأل الله أن يحشرنا وإياه في زمرة

نبينا محمد صلى الله عليه وعلى وصحبه وسلم، اللهم آمين.

بقلم محمد شعبان


دعواتكم الطيبة / فاخر الكيالي