المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات بسيطة كتبتها في حج هذا العام ١٤٣٤هـ


هيفولا
10-26-2013, 07:29 PM
مذكرات بسيطة

كتبتها في حج هذا العام ١٤٣٤هـ


اسأل الله أن ينفعني و إياكم بها





منذ اللحظة الأولى التي ودّعت فيها أطفالي و والديّ و أهلي
ذاهبة إلى الحج شعرت بغصة في حلقي،
لا لأني سأرحل عنهم ست ليال
فهناك لقاء سيحين قريبا
و لكني تذكرت حين أفارقهم بلا وداع ..
حين لا يمهلني الموت أن أقبّل هذا
و أوصي هذا و أعانق ذاك ..

كانت اللحظات صعبة على نفسي للغاية ..
إذ تجلّى لي ذلك الربط المهيب الذي جعلني أنسحب منهم بسرعة إلى السيارة
التي تُقلّني إلى المطار ..ذهبت هناك ..
بعد أن مسحت دموعي بطرف عبائتي و حاولت أن أتنفّس الصعداء
و أنسى حزني حين أُذكّر نفسي أني الآن أفِد إلى الله ..
فوفد الله ثلاثة .. حاج و معتمر و غازي ..

الآن فقط استشعرت هذا الحديث الذي كنت أدرسه في مجالس السنة ..
و بدأت أتأمل كل حرف .. وفد الله.. ياااااه ..
لقد اختصني الله بالوفادة إليه ..
فله الشكر و له الحمد و رجوته أن يجعلني ممن حسنت وفادتهم ..



توقفت السيارة عند بوابة المطار ..
أخذت أمشي و أنا أجر حقيبتي الصغيرة التي لا تحمل من الزاد إلا ما يُبلّغني ..
و دلفت صالة المطار لأجد الناس كلهم تمشي مثلي ..
يجرّون حقائبهم ..البعض بلا رفقة و البعض معه صاحب
و البعض وجهه وجِل و بعضهم يسرع خشية الفوات .


. يااااه عاد الموقف المهيب .. يوم أن نفِد إلى الله
.. في أرض المحشر ..
لن آتيه بأولادي و لا بأهلي.. سآتيه فردا !
أجر أعمالي فقط!
و سيفتشها الله .. عملا عملا ..
و لا أدري كم عمل صالح سيجده خالصا
و كم أعمال صالحة سيجدها
لكن بعد أن أفسدها الرياء و شيء من الدنيا ..

يالتلك اللحظات العصيبة .. حين أقبل على ربي ..
و معي بضاعة مزجاه ..
و يا لذلك الوجل الذي سيلثم ملامحي
و سيربك خطوي في أرض محشره ..



كانت صالة المطار تلفت انتباهي إلى ذلك الموقف ..
إلى القدوم على الله ..
بعضهم معه صاحب يشفع له و بعضهم بلا صاحب
بعضهم مطمئن و بعضهم خائف
و كانت أصوات المكبرات حين تعلن اسم الرحلة
التي حان دورها تُذكرني حين ينادي الرب جل جلاله بأسمائنا ..
حين يحين دورنا .
.و ينادي الرب على رؤوس الخلائق باسمي!




مشهد المطار أيقظ فيني ألف شعور ..
جعلني قريبة إلى ربي أكثر ..
جعلني أعرض عن هذه الدنيا و أفكر بالآخرة فقط..
و ليت ذلك الشعور يطول معي
و يدوم و لكنه الانسان يجهل و ينسى
و يغره طول الأمل ..




كنت على موعد مع صديقاتي "طالبات النجاح "
و مع موعد مع شيختنا ..
لنلتقي في المصلى حتى تحين الرحلة ..
و كان أن اجتمعنا هناك و رأيت الوجوه ضاحكة
مستبشرة أن ستذهب للحج ..
دعوت الله أن يُبقي وجوهنا ضاحكة مستبشرة حين نلقاه..
و كان التفافنا بشيختنا و كأننا متمسكات بها
كـ علم يدلنا و يرشدنا فسألته أن نلقاها هناك في أرض المحشر
علما نمشي خلفها بما علمتنا في الدنيا

و وجهتنا ..و نكون ظلها في الآخرة كما كنا ظلها في الدنيا ..


لحظات قصيرة
و أعلنت رحلتنا ..
و عندما وقفت أمام الطائرة و إذ بـ سلمين مختلفين
أحدهما لركاب الدرجة الأولى
و الثاني لركاب الدرجة السياحية ..

فـ طار بي الخيال إلى جنات عدن ..
لسنا كلنا إن كتب الله لنا الجنة سندخل جنة واحدة ..
إنها جناااان .. و إنها سلالم سنرقاها ..
فـ منّا من ارتفع عمله و صلحت سريرته
حتى كان في جنة عالية قطوفها دانية
و منا من سيدخل الجنة لكنها جنة دون جنة !!



فـ في الدرجة الأولى حتى وجوه المضيفين تختلف..
يتبسمون و يبالغون بالضيافة
و الاحترام و كل شيء .. حتى دورات المياه تختلف ..
حتى الأرائك .. أقصد المقاعد ..
فـ من منّا في الآخرة لا يريد أعلى درجة ..
و لكننا في الدنيا تقصر هممنا
و نقول: المهم ندخل الجنة!



لا يا نفس .. المهم أيضا أن نعمل لأعلى جنة
فـ والله إنها تختلف كما اختلفت درجات الطائرة بنا الآن ..
و الكيس الفطن الذي يريد الآخرة يسعى لها سعيها و هو مؤمن ..
و لا يتمنى فقط..





و أقلعت بنا الطائرة و الحمد لله..
و القلب قد طار لمكة قبل أن تطير به الطائرة
و الشوق فيني قد بلغ مبلغه
رباااااه .. أتيناك ملبّين طائعين..



و بعد الوصول .. كان كلّ منا يبحث عن راية الحملة
التي ستحملنا إلى مِنى ..
و كان منظرنا يوحي بشيء آخر .. !




ذلك الضجيج و تلك الأسئلة و أعيننا المترقبة
و نحن نبحث عن الشخص الذي يحمل الراية ..
و وجدناه و مشينا خلفه إلى الباصات ..
فتذكرت رايات يوم القيامة حين يقدمنا محمد ﷺ
و نكون تحت لوائه متمسكين به منقادين ..
و حولنا الأمم ..كلٌّ يبحث عن راية تقوده في موقف العرض ..

و كنا حتى بعد أن وجدنا الراية الكبرى للحملة
نبحث أيضا عن شيختنا ..
نراها راية تلي تلك الراية ..
رأيتنا لا نريد أن نضيع عنها أو تعدوها أعيننا ..
كلنا نسأل: وين الشيخة ؟
و كأنها راية تتبع راية و هكذا نحن يوم القيامة

فـ يا نفس استكثري من الصاحب الصالح في الدنيا
فهو الذي سيمسك بك يوم القيامة
و قد يشفع لك يوم يبحث الناس عن شفاعة ..



يتبع

هيفولا
10-26-2013, 07:31 PM
اييييييه ..
كانت مشاهد الآخرة تتجسد أمامي كل لحظة و في كل موقف
حتى بعد أن أدّينا العمرة و دخلنا المخيم في مِنى
دخلناه أخوات متماسكات!
أيدينا بأيدي بعضنا..

فسألت الله أن ندخل الجنة كذلك ..
إخوانا متحابين متماسكين..

دخلناها خيامنا و يا ألله ..
ما أحلى تلك الخيام .. كنا ننام متقابلين ..
و تلك الآية تراودني كل ليلة: (على سرر متقابلين)

و رغم الضيق الذي كنا نجده و رغم زحام حقائبنا و فرشنا
إلا أننا كنا نحلق في نعيم فتذكرت
(و نزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)


مرت بنا ليال جميلة قضيناها معا لحظة بلحظة ..
حتى النوم لم يكن كافيا لنا لأن الدروس تبدأ فتوقظ كل نائمة
و إن كانت لتوها أغمضت ..
يالذلك الحبور الذي كان يلثمنا في رقة متناهية .
.كيف يطير النوم من أعيننا رغم أننا لم نذق منه سوى ساعة أو ساعتين..
كيف نقوم بنشاط و قوة !
أكان للذكر دور في تقويتنا !


تذكرت فاطمة رضي الله عنها حين اشتكت للرسول
فأرشدها للذكر و علّق ابن القيم رحمه الله قائلا :

" إن الذكر يعطي الذاكر قوة
حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه"



و هذا ما وجدناه و لله الحمد و المنة ..
و مرت بنا الصباحات المشرقة التي يكون أول لحظة فيها
هي دخول شيختنا لتوقظ كل واحدة منا ..
تهز قدمها و هي تناديها باسمها: فلانة ، الفجر ..

فنتقافز حولها كلنا بفرح ..
بنفس النشاط الذي عهدتنا عليه
و بنفس الفرح الذي ينطق في وجوهنا دائما ..
و يمضي بنا اليوم رائعا فيه السكينة
و الطمأنينة و السعادة


و كان المبيت بِمنى له رونق خاص ..
تشعر في تلك الخيام أنك تركت الناس كلهم
أهلك و أولادك و أصحابك
تعتزلهم كلهم إلى ربك
تهاجر إليه بقلبك و بدنك
تنام في مكان ليس مكانك
تتحمل تغير المكان و الأكل و النوم من أجل الوفادة عليه..
و كنت في كل ليلة حين آوي إلى فراشي الصغير ..
الذي لا أكاد أتقلب فيه من ضيقه أتذكر القبر
و ضيقه ثم أتذكر الجنة و فسحتها و أنام بين الخوف و الرجاء..



و زاد أن كان مكان فراشي تحت لوحة
فيها آية كانت تهزني كلما أتيت لمكاني
لوحة كُتِب فيها : "و من أحسن قولا ممن دعا إلى الله و عمل صالحا "

كانت هذه الآية توقظ فيني كل إحساس

شعرت أن الكاتب الذي يحسن القول لابد أن يحسن العمل أيضا ..
و ظلت هذه الآية ترافقني طيلة مكثي هناك..



مرت أيام الحج و كان كل شيء في رحلة الحج يُذكر بالآخرة .
و لكن كانت هناك مواقف فرضت مشاعرها بقوة
و هيمنت حتى حركت قلبا غافلا ..
كنا نقف وقوفا طويلا أمام القطار ..
و كان الوقوف الشاق يذكرني بالوقوف بين يدي الله سبحانه و تعالى ..
و كنت أردد بيني
و بين أنفاسي المتعبة: رباه لا تطل وقوفنا بين يديك?
كنت أقولها و اللسان يواطئ القلب
إذ ذقت شيئا يسيرا من الوقوف في الدنيا
فكيف سيكون الوقوف هناك!


و لا أنسى ذلك اليوم الذي خرجنا فيه من مزدلفة
وقت شروق الشمس إلى الجمرات ..
كانت الجمرات بعيدة عنا و كنا نمشي إليها تحت الشمس
و كان العطش قد بلغ منا مبلغه
و التعب بعد يوم عرفة و مزدلفة قد أوهننا و أضعفنا ..
مشينا كلنا إلى الجمرات .. و الشمس كأنها تدنو منا ..
رأيت العرق يتصفد على الجباه ..
و الأنفاس لاهثة متقطعة و الخطى تبطأ في المسير ..
قد أتعبنا طول السير ..
كنت ألتفت فأرى من معه مظلة تظله عن الشمس و بعضهم لا ظل له..
و ألتفت فأجد من بيده ماء و بعضهم لا ماء معه ..
و ألتفت فأجد من هو مبتسم راض و من هو مكفهر حزين .. ياااااه ..
و يوما سنقف كلنا ..ستدنو الشمس من الخلائق فـ منّا من يظله الله
و منّا من لا ظل له ..!
يوما سنعطش فـ منّا من يرد الحوض
و منّا من يُذاد عنه .. !
يوما ستضحك وجوه و ستسود
و تسوء وجوه ..!
سبحان الله .. و كأن من يؤدي فريضة الحج
هو في رحلة مبسطة إلى الآخرة ..
علّه يتعظ .. علّه يستيقظ ..
و من لم يردعه الحج و هيبته فكيف سيرتدع!
حتى في الخيام.. منّا من هو في خيام مترفة
و منّا من هو دون ذلك و كذلك الجنة نسأل الله خيام الفردوس فيها
مرت أيام الحج و في كل التفاصيل ذكرى لنا و موعظة
حتى أتى اليوم الأخير الذي أعطانا أقوى درس و أبلغ موعظة
إذ كنّا من المتأخرين لا المتعجلين
و ما أجمل أن نتأخر لأن الله جعل المتقدمين استثناء
فقال: (و من تعجل في يومين)
و كأن الله يريد منا أن يكون الأصل التأخر و لذلك حكمة بالغة !
قال تعالى ( و من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى)
نعم
رأينا بأعيننا كيف فرغت المخيمات في لحظة!
رأينا أمتعة الرحيل التي استُغني عنها ..
رأينا الركام بعد الراحلين ..
رأينا أروقة فارغة و زهرة فانية ذابلة ..
يااااه هكذا هي الدنيا .. سنرحل عنها يوما ..
و نترك المتاع و لا نأخذ معنا إلا ما صلح من متاعنا ..
يوما ستكون الدنيا قاعا صفصفا ..
و هذه الجبال التي كنا نمر بها كل يوم في سيرنا للجمرات
سينسفها ربي نسفا ..
ليت شعري من منّا يعود من الحج و هو لم يتعظ!
من منّا يعود بنفس المشاعر و بنفس الإيمان!
و يأتي اليوم الأخير و اللحظة الأخيرة!
ذهبنا لطواف الوداع الذي هو واجب على كل حاج
و كنت أتسائل عن سر وجوبه !
حتى أنه لا يسقط عمن حُبس و لا يجبره دم و فدية!
فوجدت و أنا أودعه أني أملأ عيني منه !
و كأن الله يريدنا أن نخرج من الحرم
و آخر ما رأيناه كعبته الشريفة ..
و كأن الوداع الذي هو آخر العهد في البيت يشد علينا
أن نكون على اتصال دائم بربنا ..
و ذهبنا قافلين إلى أهلينا ..
و حين رأيت الأهل و الأولاد و الأحباب
بعد أن عدت سالمة إليهم و جمعني الله بهم
بعد فرقة تذكرت ذلك الوعد الرباني :
(والذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)
يالعظم الفضل و المن و الجود و الكرم ..
انتهت رحلة الحج كما بدأت
و ما انتهت تلك المشاعر التي عشناها
و كم نسأل الله أن يحيي قلوبنا كما أحياها في أيام خلت
و أن يُعرض بنا عن دنيا الفناء
إلى دنيا البقاء و اللقاء السرمدي في خيام الجنان..
هي مذكرات بسيطة كتبتها علي حين أقرأها بين الفينة و الفينة
توقظني من عظيم السبات و طول الأمل..


أمل الشقير
حج عام ١٤٣٤هـ