المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درس اليوم 16.05.1435


adnan
03-18-2014, 09:47 PM
إدارة بيت عطاء الخير
درس اليوم
[ نقد منهج المتكلمين في إثبات الربوبية ]
[ المبحث الثاني : خطأ المتكلمين في إيجابهم
النظر على المكلف و دعواهم أن المعرفة
موقوفة عليه ]
https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=8c4e62fb9f&view=att&th=144caae7d9b41d46&attid=0.4&disp=emb&zw&atsh=1 تقرر في المبحث السابق اتفاق العلماء على بدعية الطريقة التي سلكها
المتكلمون في إثبات وجود الله تعالى، وأن هذه الطريقة فيها فساد كثير
في وسائلها ومقاصدها، فأما وسائلها فمع صعوبتها ففيها خطورة
ومزلات عظيمة، وأما مقاصدها فغايتها إثبات وجود الخالق جل وعلا
وتدبيره لهذا الكون وهذا الأمر قد فطر الناس عليه، فوجود الخالق
عز وجل أظهر من كل شيء على الإطلاق، فهو أظهر للبصائر من
الشمس للأبصار، وأبين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجوده، فما
ينكره إلا مكابر بلسانه، وأما قلبه وعقله وفطرته فكلها تكذبه .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، من جعل هذه الطريقة المعتاضة المبتدعة
أحد الطرق الموصلة إلى معرفة الله عز وجل، حتى زعم المتكلمون أن
من لم يعرفها، ويستدل بها على وجود الله تعالى لا يقبل ولا يصح إيمانه.
ومن ثم أوجبوا على المكلف الاستدلال بها لمعرفة الخالق جل وعلا، إذ إن
أول واجب على المكلف عندهم النظر، أو القصد إلى النظر المفضي – في
نظرهم – إلى قيام الاستدلال وصحة البرهان.

يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي:
إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل النظر المؤدي إلى
معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن
نعرفه بالتفكير والنظر

ويقول عبد القاهر البغدادي:
الصحيح عندنا قول من يقول: إن أول الواجبات على المكلف النظر
والاستدلال المؤديات إلى المعرفة بالله تعالى وبصفاته وتوحيده وعدله
وحكمته، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى جواز إرسال الرسل منه،
وجواز تكليف العباد ما شاء، ثم النظر المؤدي إلى وجوب الإرسال
والتكليف منه، ثم النظر المؤدي إلى تفصيل أركان الشريعة، ثم العمل
بما يلزمه منها على شروطه

ويقول الجويني:
أول ما يجب على العاقل البالغ – باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً –
القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم...

بل وذكر حكم من مات قبل أن يكتسب معرفة الله تعالى
عن النظر والاستدلال قائلا:
فمن اخترمته المنية قبل أن ينظر وله زمن يسع النظر المؤدي إلى معرفة
الله تعالى ولم ينظر مع ارتفاع الموانع، ومات بعد زمان الإنكار فهو ملحق
بالكفر، وأما لو أمضى من أول الحال قدراً من الزمان يسع بعض النظر
لكنه قصر في النظر ثم مات قبل مضي الزمان الذي يسع في مثله النظر
الكامل فإن الأصح في ذلك، الحكم بكفره لموته غير عالم مع بدء التقصير
منه فليلحق بالكفرة.

وقد اعتبر السنوسي النظر والاستدلال بالأقيسة المنطقية شرطاً للدخول
في الإسلام، ومن عاند في أدائه وجب استخراجه منه بالسيف إلى أن يموت .

وهكذا أضاف المتكلمون إلى بدعتهم السابقة بدعة أخرى، رتبوا عليها
أحكام شنيعة تقشعر منها الجلود، كتسميتهم من لم يتبع هذه الطريقة مقلداً
محكوماً عليه بالكفر والخسران أو الفسق، فيلزم من قولهم هذا أنهم هم
المؤمنون الناجون فقط دون سواهم، ويكون العوام – وهم أكثر المسلمين
– ليسوا بمؤمنين ولا ناجين من النار، بل حتى العلماء الذين لم يسلكوا
مسالكهم ويتبعوا طريقتهم! وفي هذا تحجير لواسع، وتضييق لرحمة الله،
وابتداع لقول لم يسبقوا إليه.

وعلى كل حال؛ فإن القول الحق في هذه المسألة، والذي تشهد له
النصوص، وعليه اتفاق السلف والأئمة – كما حكاه شيخ الإسلام عنهم
في أكثر من موضع – هو أن أول واجب على المكلف الشهادتان.
وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم – رحمهم الله
تعالى – وفي ذلك إبطال لما ذهب إليه المتكلمون في هذه المسألة، وأحد
أوجه الرد عليهم وتزيف لقولهم، ودحض لشبهتهم، وتخطئة لمنهجهم وطريقتهم.

نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع:
بين رحمه الله أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق
المذمومة عند السلف، بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلاً
عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بهذه الطريقة
المذمومة والتي أوجبها المتكلمون على المكلف للدخول في الإسلام

حيث يقول:
بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا يقف
على هذه الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر؛ بل بعض هذه الطرق
لا تفيد عندهم المعرفة فضلا عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه
عارف إلا بالطريقة المشهورة له من إثبات حدوث العالم بحدوث
صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف إلا بهذه الطريقة .

وقال أيضا:
وليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء
والمرسلين، ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في
الإسلام ابتدعه متكلموا المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف
الأمة وأئمتها على ذمهم .

وحكى اتفاق السلف – رحمهم الله تعالى – على تخطئة المتكلمين
في إيجابهم هذا النظر المعين على المكلف لتحصيل المعرفة،
وإيقافهم المعرفة عليه بقوله:
والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا: معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم
قالوا: لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام – الجهمية القدرية ومن
تبعهم – وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين
وغيرهم، على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم
أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول
صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به
بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة.

وقال بعد ذكره لأقوال المتكلمين ومن تبعهم في إيجاب هذا النظر:
كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة،
بل وباطلة في العقل أيضاً .

وأوضح اللوازم الفاسدة من إيقاف المتكلمون معرفة الله تعالى وتحصيلها
على هذا النظر المعين من الالتزام بالقول بعدم معرفة الصحابة والتابعين
وأئمة المسلمين بالله، والإيمان به، ولا شك أن هذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين،

وفي ذلك يقول:
إن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة
المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم
أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين .

وإذا كان قول المتكلمين بأن أول واجب على المكلف النظر المعين –
المستفاد من دليل الأعراض وحدوث الأجسام – فاسد مطرح مذموم عند
السلف، فما هو القول الصحيح الذي اتفق عليه السلف والأئمة، وتؤيده
النصوص والأدلة؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مجيبا عن هذا السؤال:
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد
الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد
ذلك عقب البلوغ .

وبين أن
الشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله، وأما مجرد الإقرار
بالصانع دون الإتيان بالشهادتين فهذا لا يصير به الرجل مؤمناً، بل
ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله،
ولا يصير مؤمناً بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال – في معرض نقده لمن أوجب النظر على المكلف،
وجعله أول الواجبات-:
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء،
ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان،
وبذلك أمر أصحابه .

وقال أيضاً – بعد أن ساق جملة من الأحاديث الدالة على أن أول
ما يدعى إليه الشهادتان وكذلك الأمر بقتال الناس حتى يأتوا
بالشهادتين -:
وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون
على ما علم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى
الشهادتين، سواء كان معطلا، أو مشركاً، أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر
مسلماً، ولا يصير مسلما بدون ذلك .

وقال أيضا:
أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفى منه بالإقرار بالشهادتين .

وقال كذلك:
وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر .

وقال في موضع آخر:
فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين .

ذكر من حكى الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام:
جاءت هذه المسألة نتيجة للمسألة السابقة والتي أكثر أهل الكلام الاشتغال
بها، فأحدثوا في دين الله ما لم يأذن به، ولم يرد عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولم يكن عليه سلفنا الصالح.

وقد اشتد نكير أهل العلم – رحمهم الله تعالى – على كلتا المسألتين،
ووسموا أهلها بالابتداع والضلال، وبينوا فساد ما ذهبوا إليه، وحذروا
من مغبة ما يؤول إليه. وقد استعرضنا جملة من أقوال أهل العلم –
رحمهم الله تعالى – عند الحديث عن المسألة الأولى.

استدلالهم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام، وها نحن نذكر جملة أخرى
تنضاف إلى ما سبق لتكون موضحة لموقف أهل العلم – رحمهم الله تعالى
– من المسألة الأصل وما نمى عنها.

فقد حكى الإمام أبو بكر بن المنذر الإجماع على أن الكافر إذا أقر
بالشهادتين وتبرأ من كل دين خالف دين الإسلام وهو بالغ صحيح
يعقل أنه يصير بذلك مسلماً حيث قال:
أجمع كل من أحفظ عنه على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله وأن محمداً
عبده ورسوله، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق،
وأبرأ من كل دين خالف الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل، أنه مسلم .

فانظر كيف تجرأ هؤلاء المتكلمون على خرق هذا الإجماع وإطراحه، ولا
غرو في ذلك فإن هؤلاء ليس لهم خبرة بأقوال الصحابة والتابعين وأقوال
أئمة المسلمين في مسائل أصول الدين، بل إنما يعرفون أقوال الجهمية
والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المحدث وهؤلاء كلهم مبتدعه عند سلف
الأمة وأئمتها .ولهذا تجد في كتب أهل الكلام ما يدل على غاية الجهل بما
قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال: كأن
هؤلاء نشأوا في غير ديار الإسلام ولا ريب أنهم نشأوا بين من لم يعرف
العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً
ولبسهم فتن ربي فيها الصغير وهرم فيها الكبير، وبدلت السنة بالبدعة
والحق بالباطل .

فمع وضوح هذا الإجماع وصراحته، إلا أنا نجد الجويني والإيجي يدعيان
الإجماع على أن أول واجب على المكلف النظر أو القصد إلى النظر
المؤدي إلى معرفة الله!

وبطلان هذا الإجماع المدعى ظاهر لكل من له من العلم أدنى نظر، إذ إن
فيه مخالفة لصحيح المنقول ولإجماع من يعتد بإجماعه من أهل العلم،
وحاشا أن تجتمع الأمة على أمر مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول
فإن هذا ضلال، والأمة لا تجتمع على ضلال.

ثم إن بعض المتكلمين أيضاً قد خالفوا الجويني والإيجي في هذا الإجماع
وقالوا بخلافه فكيف يدعيان الإجماع على ذلك إذن؟!

واسمع إلى ما قاله أبو جعفر السمناني
وهو من رؤوس الأشاعرة عن هذه المسألة:
إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع
عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي
التقليد في ذلك.

وقد استنكر ابن حزم على من جعل النظر والاستدلال أول الواجبات،
وسمى من خالف هذه الطريقة مقلداً لا يقبل إيمانه بقوله
... إن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم
الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به، ويقاتل من أهل الأرض من
قاتله، ويستحل سفك دمائهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وأخذ أموالهم
متقرباً إلى الله تعالى بذلك، وأخذ الجزية وإصغاره.

ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده، ويحكم له بحكم
الإسلام، وفيهم المرأة البدوية، والراعي، والراعية، والفلاح الصحراوي
الوحشي، والزنجي المسبي، والزنجية المجلوبة، والرومية، والجاهل،
والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا غيرهم قال له عليه السلام: إني
لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه...
ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم
عن آخرهم، ولا يختلف أحد في هذا الأمر.

ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام
أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصلح لأحد الإسلام إلا به،
ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتنبه له
هؤلاء الأشقياء!.

ومن ظن أنه وقع في الدين على ما لم يقع عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع،
وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم،
وجميع أهل الإسلام قاطبة) .

وقال ابن عبد البر:
إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد
وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا
في دين الله أفواجاً علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق
النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا من باب الكل
والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون
عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه، ولو
أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم
وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً أو من أخلاقهم معروفاً
لاستفاض عنهم ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات.

وممن نص على مخالفة المتكلمين فيما أوجبوه على المكلف لإجماع
المسلمين أبو المظفر السمعاني حيث يقول:
فإنهم – أي أهل الكلام – قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي
إلى معرفة الباري عز وجل وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من
السلف وأئمة الدين، ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في
شيء منها منقولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه وكذلك
من التابعين بعدهم.وكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدر
هذه الأمة والسفراء بيننا وبين رسول الله؟!.هذا وقد تواترت الأخبار أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين...
ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في
الشرع أن يدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة والإمهال أن لا يجاب
إلى ذلك...ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي
إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة
وخصوصاً إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة
يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين، ليتمكنوا من
النظر على التمام والكمال وهو خلاف إجماع المسلمين .

وممن عاب على المتكلمين إيجابهم النظر على المكلف
أبو حامد الغزالي بقوله:
من أشد الناس غلوا وإسرافاً طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين
وزعموا أن من لم يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتها
التي حررناها كافر.

فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولاً، وجعلوا الجنة وقفاً
على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جعلوا ما تواتر من السنة ثانياً،
إذ ظهر من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة حكمهم
بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشتغلين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا
بتعليم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه، ومن ظن أن مدرك الإيمان
بالكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد...وليت شعري متى
نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضار أعرابي أسلم
وقولهم له: الدليل على أن العالم حادث، أن لا يخلو عن الأعراض، وما
لا يخلو عن الحوادث فهو حادث... وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن
من تكلم بكلمة التوحيد أجرى عليه أحكام المسلمين، فثبت بهذا أن مأخذ
التكفير من الشرع لا من العقل، إذ الحكم بإباحة الدم، والخلود في النار
شرعي لا عقلي خلافاً لما ظنه بعض الناس .

ونص عبد القادر الجيلاني على أن أول ما يجب على من أراد
الدخولفي دين الإسلام التلفظ بالشهادتين، والبراءة من كل دين
يخالفه حيث قال:
الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام أولا أن يتلفظ
بالشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويتبرأ من كل دين غير
دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى.

وقال ابن الصلاح – في معرض كلامه على حديث ضمام بن ثعلبة
رضي الله عنه وفيه قال رضي الله عنه:
يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صد
ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:

( لئن صدق ليدخلن الجنة ). .

وفي الحديث دلالة على صحة ما ذهب إليه الأئمة العلماء في أن العوام
المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفي منهم بمجرد اعتقادهم الحق جزماً من غير
شك وتزلزل، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة.وبين وجه الدلالة من
الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قرر ضماماً على ما اعتمد عليه في
تعرف رسالته وصدقه صلى الله عليه وسلم من مناشدته ومجرد إخباره
إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك قائلا له: أن الواجب عليك أن تستدرك ذلك
من النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية التي تفيدك العلم .
مستند الإجماع: من تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها حافلة بذكر الأمر
الذي بعث الله عز وجل من أجله المرسلين، واجتمعت عليه كلمتهم
أجمعين، فكان ذلك الأمر هو أوجب الواجبات، أول الفرائض والمطلوبات
والذي شغل حيزاَ من حياتهم، بل كل حياتهم لتبليغه والدعوة إليه، فكان
وظيفتهم والحكمة من بعثتهم، ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له،
لا كما زعم المتكلمون أنه النظر المؤدي إلى معرفة الباري؛ فدونك الأدلة
على ذلك، من الكتاب والسنة:

فمن الكتاب: قول الله تعالى:

{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }
[النحل: 36].

وقوله تعالى:

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }
[الأنبياء: 25]

. ونظائرهما كثير.

ووجه الدلالة من هاتين الآيتين ظاهر وصريح في أن الرسل إنما بعثوا
لأمر الناس بعبادة الله ودعوتهم إلى ذلك، بل دلت الآية على حصر مهمتهم
ووظيفتهم في ذلك، ولو كان النظر أوجب الواجبات وأولها، لنبه عليه
الشارع الحكيم، ولكان على رأس الاهتمام من الأنبياء والمرسلين، ولما
لم يكن كذلك تبين بطلان ما ذهب إليه المتكلمون، وفساد طريقتهم ومسلكهم.

وأما السنة:
فقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

( لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو
أهل اليمن قال له إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن
أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى ) .

وفي رواية:

( ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله )

وعن سهل بن سعد:

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الراية عليا
رضي الله عنه يوم خيبر، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم
حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل
بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام... ) .

ووجه الدلالة من الحديثين بينة؛ إذ لو كان النظر إلى معرفة الله تعالى
واجباً كما يدعي المتكلمون لأمر صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه أولا،
ولما قدم عليها غيره، ومن ثم تظهر مخالفة المتكلمين لما جاء به
رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة أيضا ما أخرجه الشيخان من حديث
ابن عمر رضي الله عنهما:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ).

ووجه الدلالة ظاهر بين؛ إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق كفه عن
قتال الناس على شرط به يعصم المرء دمه وماله، ألا وهو التلفظ بالشهادتين
بخلاف ما سلكه المتكلمون من الحكم بسفك دم من لم يعرف الله تعالى
بالطرق والأقيسة العقلية التي ابتدعوها.فالرسول صلى الله عليه وسلم
دعا الناس إلى توحيد الله عز وجل وقبل إسلام من قال لا إله إلا الله محمد
رسول الله، وهؤلاء المتكلمون يدعون الناس إلى الاستدلال والدخول في
الإسلام بهذه الطريقة المبتدعة ويجعلونه أول واجب على المكلف ومن لم
يعرف أو عاند في تركه حكم بكفره وسفك دمه، فتأمل ما بين المنهجين
من البون الشاسع والفرق الكبير.