المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ


adnan
07-23-2014, 11:25 PM
الأخت / الملكة نـــور


لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ

الشيخ العلامة محمد قطب
منذ فترة من الزمن، ظهر على ((الإنترنت)) كلام مسجوع من تأليف
عربي لا يدين بالإسلام، يعيش في أمريكا، يحاول فيه أن يقلد النسق
القرآني، من حيث تقسيم الكلام إلى عبارات مسجوعة تنتهي بحرف
الميم أو النون مسبوقة بمد يائي أو واوي.وظن المسكين أنه قد أتى بما
لم تستطعه الأوائل، كما قال الشاعر:

وإني وإن كنت الأخيرة زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل[1]

كما ظن أنه بعمله هذا قد أبطل التحدي الذي تحدى الله به الإنس
و الجن حين قال سبحانه :

{ قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ
لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [2]

و كأنه يقول :
هاأنذا قد أتيت بمثله ! و إذاً فقد أبطلت التحدي ، و أبطلت دعوى الإعجاز
القرآني الذي قامت عليه رسالة محمد صلى الله عليه و سلم . و إذاً
فالإسلام ليس من عند الله ، إنما هو صناعة بشرية قام بها
محمد صلى الله عليه و سلم !

ولعل المسكين لم يعلم أن مسيلمة الكذاب قد قام بمثل هذا العمل
من قبل ، و أتى بسجعات مثل سجعاته قال إنها مثل القرآن.
ومر الزمن و بطلت سجعات مسيلمة ، و بقي القرآن يتحدى
الإنس و الجن إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .

ولكن هذه الأضحوكة الساذجة التي قام بها مسيلمة المتأمرك - وإن لم
يدع بها النبوة كسلفه الجاهلي- حفزتني إلى أن أعاود الكتابة في موضوع
كنت قد أشرت إليه في كتاب سابق بعنوان((دراسات قرآنية)) ، و هو
موضوع الإعجاز الشامل للقرآن الذي لا ينحصر في الإعجاز البياني،
الذي توجه إليه الاهتمام الأكبر في كتابات الأقدمين،
لأسباب لا يصعب إدراكها .

لقد كان العرب في جاهليتهم قوما أولي فصاحة نادرة، وكانوا يعتزون
بفصاحتهم إلى الحد الذي أطلقوا على غير الناطقين بلغتهم لفظة
((العجم)) و وصفوهم بـ ((العجمة)) ، و فيها إشارة واضحة إلى أنهم
يعدونهم دونهم لا لسبب إلا لأنهم لا يستطيعون الكلام باللغة الفصيحة
- لغتهم هم- التي يتميزون بها !

و إذ كان ديدن الرسالات السماوية أنها تتحدى المنكرين بمعجزة تفوق
قدراتهم البشرية ، ليستيقنوا أنها من عند الله ، و لو جحدوها ظاهراً ،
إمعانا في الكفر و العناد كما قال سبحانه و تعالى عن موقف آل فرعون
من معجزات موسى عليه السلام :

{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [3] .

إذ كان هذا ديدن الرسالات، فقد تحدى الله سبحانه وتعالى كل قوم فيما
برعوا فيه وعدوه موضع فخرهم . فتحدى قوم فرعون بآيات تفوق السحر
الذي كانوا بارعين فيه ، و كانوا يستخدمونه لفتنة الناس عن ربهم،
وتأليه الفرعون بدلا من الله وتحدى قوم عيسى عليه السلام بآيات تفوق
براعتهم في الطب الذي كانوا يمارسونه و يعتزون بإتقانه ؛ فأعطاه القدرة
على نفخ الحياة في الطين ، و إحياء الموتى ، و إبراء الأكمة والأبرص
ليستيقنوا أنه من عند الله :

{ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إسرائيل أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ
وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}. [4] .

فلما بعث الله الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم في العرب ، كان من
المناسب أن تكون الآية التي يتحدى بها المنكرين فصاحة من نوع
و درجة لا يقدرون على الإتيان بمثلها ، لتستيقنها أنفسهم ولو جحدوا بها
ظاهراً كقوم فرعون ، فكانت معجزته الكبرى هي هذا القرآن ، الذي
تحداهم أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من
مثله فلم يستطيعوا، بصرف النظر عن المحاولة العابثة التي قام بها
مسيلمة الكذاب، والمحاولة الأخرى التي قامت بها المتنبئة سجاح، فلم
تستطع هذه ولا تلك أن تقنع العرب بأن القرآن يمكن أن يأتي أحد بمثله .
(هذا بالإضافة إلى أن الله قد أراد أن تكون معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم
باقية على الزمن ، لا تذهب بذهاب القوم الذين شاهدوها ، لأن الله أراد
أن يكون محمد صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين ، و أن تكون رسالته
هي الرسالة الخاتمة، الباقية إلى آخر الزمان) .

إذا أدركنا ذلك ، أدركنا سر اهتمام القدامى من الكتاب العرب بالإعجاز
البياني في القرآن ، حيث كان هو موضع التحدي، وحيث كان عجز العرب
- المعتزين بفصاحتهم - عن الإتيان بمثله ، دليلا يقينيا على أن هذا القرآن
هو كلام الله ، و ليس من كلام البشر ، و أنه - بهذه الصفة - هو دليل
صدق الرسول صلى الله عليه و سلم في رسالته .

نعم .. و لكن القرآن لم يكن معجزا في بنائه اللفظي وحده وإن كان إعجازه
اللفظي كافيا - وحده - للدلالة على أنه من عند الله ، و كافيا – وحده –
لإقامة التحدي أمام الإنس والجن إلى قيام الساعة ‍‍‍‍‍‍!

القرآن معجز في جميع مجالاته ، و على جميع أصعدته ..
و إذا كان القدامى - لأسباب مفهومة- قد وجهوا أكبر اهتمامهم للإعجاز
البياني، الذي تحدى القرآن به الجاهلية العربية وآلهتها المزيفة، فقد آن
لنا أن نتدبر جوانب الإعجاز الأخرى في هذا الكتاب المعجز ، التي لا تقل
إعجازا عن الإعجاز البياني ، و التي نحن في حاجة إلى تدبرها ، و بيانها
، و إبرازها ، لتحدى الجاهلية المعاصرة ، التي تتخذ صورة ((العلمانية))
، و ترفع شعارات((العلم)) و ((العقلانية)) و ((التنوير)) ؛ لتفتن الناس
عن ربهم و دينهم ، و تؤله ((الإنسان)) بدلا من الله ، و تسعى – بحماقة
- إلى تدمير الإنسان، بإبعاده عن مصدر النور الحقيقي :

{ الله نور السماوات و الأرض } [5] .

{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [6] .

و لن يفي كتاب واحد - مهما تضخمت صفحاته - بالحديث عن كل مجالات
الإعجاز في القرآن ، فهي في حاجة إلى أن يتفرغ لها كتاب و باحثون ،
بحيث تتكون من مجموع بحوثهم مكتبة كاملة من إعجاز القرآن ، سواء
الإعجاز البياني الذي لا تنفد عجائبه ، أو الإعجاز الدعوي ، بوصفه كتاب
دعوة قد أبرز عقيدة التوحيد الصافية كما لم يبرزها كتاب قط، ودخل بها
إلى قلوب البشر من جميع منافذها و أقطارها كما لم يفعل كتاب قط،
أو الإعجاز التشريعي الذي تضمن شريعة متكاملة وافية بحياة البشر
ومتطلبات وجودهم لا في زمان نزولها فحسب ، بل مهما امتد بهم الزمن
و تعددت مجالات الوجود، أو الإعجاز التربوي الذي أخرج خير أمة
أخرجت للناس ، أو الإعجاز العلمي الذي تتكشف آياته كلما زاد البشر
علماً بما حولهم من الكون ..

و لكن ضخامة الجهد المطلوب ، وسعة الميادين المفتوحة للدراسة
والبحث، لا تمنعني أن أدلي بجهدي المتواضع الذي لا أبغي به أكثر من
أن يكون مجرد إرشادات، لعلها تحفز الباحثين إلى أن يبحثوا، والمفكرين
إلى أن يتدبروا كما أمرهم الله:

{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [7] .

المصادر :
[1]البيت لأبى العلاء المعرى .
[2]سورة الإسراء : 88 .
[3]سورة النمل : 14 .
[4]سورة آل عمران : 49
[5] سورة النور:35 .
[6]سورة الصف (8،9) .
[7]سورة النساء (82) .