المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة النبي يوسف عليه السلام


adnan
09-29-2014, 06:20 PM
الأخت / الملكة نـــور



قصة النبي يوسف

الإيجاز البلاغي في قصة النبي يوسف
ياسر محمود الأقرع
يشكل الإيجاز ، بوصفه صورة من صور البلاغة القرآنية ، سمة من
سمات كتاب الله (عز وجل) إذ يتميز النص القرآني عموماً بالتركيز
والتكثيف، و الوصول إلى جوهر المعنى عبر القول الموجز و الإشارة
الدالة .تُستثنى من ذلك بعض الآيات التي اقتضى البيان الإلهي أن تأتي
بشكل مفصّل ، لكنه تفصيل لا يُحَمِّلَ التركيبَ فوق ما يحتمل المعنى أو
يقتضيه . و في ذلك كله بلاغة استدعت الإطناب والتفصيل في موضع ،
و الإيجاز و التكثيف في موضع آخر .

تتجلى ظاهرة الإيجاز في قصة سيدنا يوسف (عليه السلام)
في عنصرين أساسيين هما :
1 - الإيجاز في اللفظ
2 - الإيجاز بالحذف

و هذان العنصران متداخلان ، متشابكان ، لا ينفصل أحدهما عن الآخر ،
و لذا فإن الحديث عن الإيجاز في القصة يقتضي بالضرورة دراسة هذين
العنصرين في سياق واحد .لكن الوقوف على مواطن الإيجاز جميعها في
قصة يوسف (عليه السلام ) والإشارة إلى ما تحمله من دلالات بلاغية
أمر متعذر، فكل جملة ( لا في القصة وحدها بل في القرآن الكريم كله)
تحتاج إلى وقفة مطولة ، دراسة و تحليلاً ، فهماً و تدبراً ، إذا ما أردنا
دراسة جانب من جوانب تركيبها البلاغي .و لذلك نرى أن نقف على بعض
مواطن الإيجاز في القصة ، علنا نجد فيه مثالاً لما يذخر به النص القرآني
من الإيجاز البلاغي الذي يمثل جانباً من جوانب إعجاز القرآن الكريم ،
مما لا يكون لبشر قط مهما أوتي من فصاحة القول وبلاغة المعنى .
و لابد أن نشير أولاً إلى أن قصة يوسف (عليه السلام) جاءت في السورة
عبر مجموعة من المشاهد ، التي ترتبط فيما بينها ترابطاً عضوياً ،
فالانتقال من موقف إلى آخر في القصة يتم – غالباً – دون رابط سردي ،
غير أن الارتباط برابط السببية بين المشاهد ، يغني عن السرد المحذوف ،
و يقوم بدوره ، و يخلق في الوقت ذاته حالة من الحركية التعبيرية .
من هنا كان تناولنا قضية الإيجاز في القصة يقوم على التقاط بعض
المشاهد منها، ومن ثم دراستها دراسة تحليلية تبين دور الإيجاز
في صياغة القصة صياغة فنية رفيعة .

قضية الرؤيا :

{ إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }

بذكر قضية الرؤيا تبدأ قصة يوسف ( عليه السلام ) ، هكذا دون تمهيد
أو مقدمات غالباً ما تحفل بمثلهما القصص الأدبية ، و في حذفهما هنا ،
و البدء بذكر قضية الرؤيا إشارة بليغة إلى أنها قضية جوهرية و محور
رئيس في البناء القصصي ، و بذلك يكون البدء بذكرها أدعى إلى لفت
النظر إليها ، و التركيز عليها ، و هذا ما لا يكون لو أنّ ذكرها سبق
بتمهيد أو مقدماتو قول سيدنا يوسف " إني رأيت " ثم توكيده بـ "
رأيتهم" ليس فيه ما يشير إلى أن ما رآه كان على وجه الحقيقة / من
الرؤية / و ذلك من قبيل المعجزة التي لن تكون غريبة على بيت النبوة ،
أو أنه في المنام / من الرؤيا / ذلك أن الفعل ( رأيت) يصلح في حالتي
( الرؤية ) و ( الرؤيا) .و لكن يأتي قول سيدنا يعقوب

{ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ }

إذ لم يقل (رؤيتك) ليدلّنا على أن الرؤيا كانت في المنام ، و لو ذكر سيدنا
يوسف ذلك لكان في قول أبيه تكرار لما سبق ذكره ، فكان حذف السابق
لدلالة ما سيأتي عليه ، و هذه سمة من سمات الأسلوب القصصي في
سورة يوسف ( عليه السلام ) كما سيتضح لاحقاً .

و لربما قيل :
لماذا لا يذكر الأمر أولاً ثم يحذف تالياً فينتفي بذلك التكرار؟
نقول : إن ذلك سيفقد القصة عنصر التشويق، و يلغي إثارة التساؤل ،
وتحفيز الفكر، وتحريض المخيلة، وتلك عناصر مهمة ومؤثرة في البناء
الفني للقصة، وكلما كان البناء الفني جيداً كان أقدر على إيصال الفكرة
وتحصيل الفائدة ، و إدامة الأثر .

بين يوسف وإخوته :

{ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا
إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

بهذا عقّب سيدنا يعقوب على ذِكْرٍ ابنه رؤياه، وفي قوله هذا ما قد يثير في
نفس يوسف (عليه السلام) حقداً على إخوته و كراهية لهم ، فأراد أبوه
أن ينسب أسباب الكيد إلى عداوة الشيطان للإنسان ، ليؤكد ليوسف أن كيد
إخوته له - فيما لو حدث - ليس صادراً عن طبع فيهم و سجية ، بل إنه
من وساوس الشيطان، فيدفع بذلك ما قد يثار في نفس يوسف على إخوته
، و جاء ذلك في قوله :

{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

فجاء في تلازم التحذير من إخوته وذكر عداوة الشيطان للإنسان في
سياق واحد ما يغني عن طول الشرح وكثرة التفصيل ولعلنا نلاحظ أن
تحذير سيدنا يعقوب ابنه يوسف من إخوته إنما جاء مقتضباً موجزاً ،
إذ لم يأتِ على ذكر الأسباب التي ستدفعهم - وهم إخوته - إلى الكيد له
وإظهار العداوة، ليأتي ذكر ذلك كله فيما بعد على لسان إخوة يوسف:

{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ
إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

و يجتمع إخوة يوسف للتشاور في أمره، وإيجاد طريقة
للتخلص منه، وتطرح الآراء :

{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ
وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ *قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ
وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }

هنالك ثلاثة آراء إذاً (اقتلوا يوسف - اطرحوه أرضاً - ألقوه في غيابة
الجب) ولا تشير الآية الكريمة، إلى الطريقة التي أجمعوا عليها ، والقرار
الذي توصلوا إليه، بل انتهى الأمر بهم في هذا المجلس حسب ما جاء في
الآية عند حدود طرح الآراء والتشاور الذي لم يأتِ من بعده اتفاق نهائي
أو إجماع مطلق، حسب نص الآية .... وهذا حذف يثير التساؤل حول ما
ينوون فعله ، و قد تضاربت آراءهم واختلفت ، لنكتشف ، فيما بعد ،
القرار الذي اتخذوه أثناء مشاوراتهم وأكدوه قبيل تنفيذه
وذلك في قوله تعالى :

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ }

فكلمة ( أجمعوا ) في هذا الموضع تدل على أن الأمر لم يكن مجمعاً عليه
تماماً حتى ذلك الوقت ، و ربما وجد بينهم من لم يكن راضياً عن هذا
القرار ، لكنه انصاع لرأي الأكثرية فصار الأمر إجماعاً .و من مواطن
الحذف ما يتجلى في عدم ذكر العذر الذي سيعود به إخوة يوسف إلى أبيهم
بعد التخلص من أخيهم ، إذ لا يعقل أن الأمر لم يكن موضع اهتمام و مدار
نقاش خلال مشاوراتهم ، لكن الحذف جاء لإثارة الفكر، والمحافظة على
عنصر التشويق من جهة ، ومنعاً للتكرار من جهة أخرى، ذلك أن
ادعاءهم بأن الذئب أكل أخاهم سيأتي في موقف آخر (عند لقائهم أباهم )
و قد عادوا دون أخيهم ، و لا شك أن تأجيل ذكر ما اتفقوا عليه إلى هذا
الموقف أكثر أهمية من ذكره في موضع سابق .

اتفق إخوة يوسف على التخلص منه، وبيّتوا عذراً يحملونه إلى
أبيهم بعد أن يتم لهم ما خططوا له، ولم يعد أمامهم إلا إقناع
أبيهم بأخذ يوسف معهم :

{ َقالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }.

انظر إلى البيان الإلهي ، و تأمل البلاغة القرآنية فيما ينطوي عليه قولهم
هذا من معانٍ متعددة تشير في مجملها إلى طبيعة العلاقة بين الأب وأبنائه
فيما يتعلق بشأن أخيهم يوسف، وأنها علاقة مبنية على فقد الثقة
وعدم الاطمئنان .

ففي قولهم :
مالك لا تأمنّا - على قلة ألفاظه - ما يدل على أن إخوة يوسف قد حاولوا
أكثر من مرة الانفراد بأخيهم وكان أبوهم يقف حائلاً بينهم و بين ذلك ،
لشعوره أن ابنه ( يوسف ) لن يكون في مأمن ما داموا منفردين به ،
وقولهم ( مالك لا تأمنا ) ، تدل على حال دائمة ، قائمة ، مألوفة ، و تدل
أيضاً – و قد جاءت على ألسنة إخوة يوسف - أنهم يدركون بأنهم ليسوا
موضع ثقة أبيهم ( في شأن يوسف على الأقل ) لذلك تجدهم حين عودتهم
دون أخيهم يقولون :

{ وَ مَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }

مؤكدين إدراكهم غياب الثقة عن نفس أبيهم تجاههم .

وما كان ردّ سيدنا يعقوب أمام ادّعاء أبنائه إلا أن :

{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }

انظر في قوله تعالى، حكاية عن سيدنا يعقوب : (سوّلت لكم أنفسكم) أي
زيّنت لكم ، فإنكم إنما مكرتم به ابتغاء منفعة تظنون ، واهمين ، أنكم
ستحققونها بفعلكم . لكنّ أنفسكم خدعتكم وغرّتكم وصورت لكم الأمور
على غير ما ستنتهي إليه .وهذا ما كان حقيقة ، فما فعلوه كان بقصد
تغييب يوسف ليخلو لهم وجه أبيهم ، ولينفردوا بمحبته إياهم ، لكن الأمر
سار على غير ما أرادوا، إذ ظلّ أمر يوسف يشغل بال أبيه مدة غيابه عنه
حتى ضجر منه مَن حوله و :

{ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا
أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ }

فانظر في قوله : سولت لكم أنفسكم ، كم استطاعت أن تعبر عن
المعنى المراد بإيجاز شديد .

إخراج يوسف من البئر :

{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ
قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

بهذه الآية الكريمة يصف الله تعالى إخراج يوسف من البئر، بواسطة
بعض المسافرين من التجار ، و قد جاء ذكر إخراج يوسف من البئر
موجزاً ، مختصراً ، لكنه إيجاز مذهل يغني عن السرد الطويل و الشرح
المفصّل .فقد تتالت الأفعال في الآية الكريمة تتالياً سريعاً ، رشيقاً ، بالفاء
العاطفة التي تفيد ترتيب حدوث الأفعال و تعاقبها دون فارق زمني يذكر ،
و هذا معناه أن المسافرين لما صاروا على مقربة من البئر أسرعوا في
إرسال من يجلب لهم الماء ( فأرسلوا واردهم ) ، فأسرع هذا بدوره ملبياً
حاجتهم إلى إحضار الماء بسرعة (فأدلى دلوه) و هنا تختفي (الفاء)
( قال يا بشرى ) و لم يقل الله سبحانه و تعالى ( فقال يا بشرى ) ذلك أن
البشرى تقتضي المفاجأة ، و هذا ما يتحقق بحذف الفاء لتأتي العبارة
مفاجئة، للدلالة على البشارة .... و تأمل - ضمن السياق
- قول الوارد مستبشراً: