المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دخلت سنة ثمان و ستين


adnan
01-01-2015, 11:54 PM
الأخ / مصطفى آل حمد



دخلت سنة ثمان وستين
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله

ففيها‏:‏
رد عبد الله أخاه مصعباً إلى إمرة البصرة، فأتاها فأقام بها، واستخلف
على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، قباع، واستعمل
على المدينة جابر بن الأسود الزهري‏.‏وعزل عنها عبد الرحمن بن الأشعث
لكونه ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطاً، فإنه أراد منه أن يبايع
لابن الزبير فامتنع من ذلك فضربه، فعزله ابن الزبير‏.‏

وفيها‏:
‏ هلك ملك الروم قسطنطين بن قسطنطين ببلده‏.‏

وفيها‏:‏
كانت وقعة الأزارقة‏.‏

وذلك أن مصعباً كان قد عزل عن ناحية فارس المهلب بن أبي صفرة،
وكان قاهراً لهم وولاه الجزيرة، وكان المهلب قاهراً للأزارقة، وولى
على فارس عمر بن عبيد الله بن معمر، فثاروا عليه فقاتلهم عمر
بن عبيد الله فقهرهم وكسرهم، وكانوا مع أميرهم الزبير بن ماحوز،
ففروا بين يديه إلى اصطخر فاتبعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا ابنه‏.‏

ثم ظفر بهم مرة أخرى ثم هربوا إلى بلاد أصبهان ونواحيها، فتقووا
هنالك وكثر عَدَدهم وعُدَتهم، ثم أقبلوا يريدون البصرة، فمروا ببعض بلاد
فارس وتركوا عمر بن عبيد الله بن معمر وراء ظهورهم‏.‏

فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبيد الله
بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر بن عبيد الله في آثارهم،
فبلغ الخوارج أن مصعباً أمامهم، وعمر بن عبيد الله وراءهم، فعدلوا
إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى،
ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم‏.‏فقصدهم نائب الكوفة الحارث بن أبي ربيعة
ومعه أهلها وجماعات من أشرافها، منهم ابن الأشتر، وشبت بن ربعي،
فلما وصلوا إلى جسر الصراة قطعه الخوارج بينه وبينهم، فأمر الأمير
بإعادته، ففرت الخوارج هاربين بين يديه، فاتبعهم عبد الرحمن بن مخنف
في ستة آلاف فمروا على الكوفة، ثم صاروا إلى أرض أصبهان فانصرف
عنهم ولم يقاتلهم‏.‏ثم أقبلوا فحاصروا وعتاب بن ورقاء شهراً، بمدينة جيا،
حتى ضيقوا على الناس فنزلوا إليهم فقاتلوهم فكشفوهم وقتلوا أميرهم
الزبير بن الماحوز وغنموا ما في معسكرهم، وأمرت الخوارج عليهم
قطري بن الفجاءة، ثم ساروا إلى بلاد الأهواز‏.‏فكتب مصعب بن الزبير إلى
المهلب بن أبي صفرة -وهو على الموصل - أن يسير إلى قتال الخوارج
وكان أبصر الناس بقتالهم، وبعث مكانه إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر
فانصرف المهلب إلى الأهواز فقاتل فيها الخوارج ثمانية أشهر قتالا
ً لم يسمع بمثله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏
وفي هذه السنة كان القحط الشديد ببلاد الشام بحيث لم يتمكنوا معه
من الغزو لضعفهم وقلة طعامهم وميرتهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏
وفيها‏:‏ قتل عبيد الله بن الحر وكان من خبره أنه كان رجلاً شجاعاً تتقلب
به الأحوال والأيام والآراء، حتى صار من أمره أنه لا يطاع لأحد من
بني أمية ولا لآل الزبير‏.‏وكان يمر على عامل الكورة من العراق وغيره
فيأخذ منه جميع ما في بيت المال قهراً، ويكتب له براءة ويذهب فينفقه
على أصحابه‏.‏وكان الخلفاء والأمراء يبعثون إليه الجيوش فيطردها
ويكسرها قلت أو كثرت، حتى كاع فيه مصعب بن الزبير وعماله ببلاد
العراق، ثم إنه وفد على عبد الملك بن مروان فبعثه في عشرة نفر وقال‏:
‏ ادخل الكوفة وأعلمهم أن الجنود ستصل إليهم سريعاً‏.‏فبعث في السر إلى
جماعة من إخوانه فظهر على أمره فأعلم أمير الكوفة الحارث بن عبد الله
فبعث إليه جيشاً فقتلوه في المكان الذي هو فيه، وحمل رأسه إلى الكوفة،
ثم إلى البصرة، واستراح الناس منه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏
وفيها شهد موقف عرفة أربع رايات متباينة، كل واحدة منها لا تأتم
بالأخرى، الواحدة‏:‏ لمحمد بن الحنفية في أصحابه، والثانية‏:‏ لنجدة
الحروري وأصحابه، والثالثة‏:‏ لبني أمية، والرابعة‏:‏ لعبد الله بن الزبير‏.‏
وكان أول من دفع رايته ابن الحنفية، ثم نجدة، ثم بنو أمية، ثم دفع
ابن الزبير فدفع الناس معه، وكان عبد الله بن عمر فيمن انتظر دفع
ابن الزبير، ولكنه تأخر دفعه، فقال ابن عمر‏:‏ أشبه بتأخره دفع الجاهلية‏.‏

فدفع ابن عمر فدفع ابن الزبير، وتحاجز الناس في هذا العام فلم
يكن بينهم قتال‏.‏وكان على نيابة المدينة جابر بن الأسود بن عوف
الزهري من جهة ابن الزبير، وعلى الكوفة والبصرة أخوه مصعب،
وعلى ملك الشام ومصر عبد الملك بن مروان، والله أعلم‏.‏

وممن توفي فيها من الأعيان
عبد الله بن يزيد الأوسي، شهد الحديبية،
وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث‏.‏
وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي، ابن أخي عمر بن الخطاب،
أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالمدينة عن نحو سبعين سنة‏.‏
عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري‏.‏
عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن امرئ القيس، صحابي جليل،
سكن الكوفة، ثم سكن قوميسيا‏.‏
زيد بن أرقم بن زيد صحابي جليل‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي
أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر
هذه الأمة، ومفسر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له‏:‏ الحبر والبحر‏.‏
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كثيراً، وعن جماعة
من الصحابة، وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله
مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله
وسعة فضله ونبل أصله، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏وأمه‏:‏ أم الفضل لبابة
بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو والد
الخلفاء العباسيين، وله أخوة عشرة ذكور من أم الفضل للعباس، وهو
آخرهم مولداً، وقد مات كل واحد منهم في بلد بعيد عن الآخر
كما سيأتي ذلك‏.‏

قال مسلم بن خالد الزنجي المكي‏:‏
عن ابن نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس‏.‏
قال‏:‏ لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب جاء
أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ يا محمد، أرى
أم الفضل قد اشتملت على حمل‏.‏
فقال‏:‏ ‏

(‏‏ ‏لعل الله أن يقر أعينكم ‏)‏‏‏‏.‏

قال‏:‏ فلما ولدتني أتى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
في خرقة فحنكني بريقه‏.‏

قال مجاهد‏:‏
فلا نعلم أحداً حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه غيره‏.‏

وعن عمرو بن دينار قال‏:‏
ولد ابن عباس عام الهجرة‏.‏

وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏‏:‏
عن ابن عباس قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مختون،
وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم‏.‏

وقال شعبة، وهشام، وابن عوانة‏:‏
عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏
قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين مختون‏.‏

زاد هشام‏:
‏ وقد جمعت المحكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
قلت‏:‏ وما المحكم‏؟‏قال‏:‏ المفصل‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏
عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة مختون،
وهذا هو الأصح ويؤيده صحة ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

ورواه مالك‏:‏ عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ أقبلت راكباً
على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت
وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف، فلم ينكر عليّ ذلك أحد‏.‏

وثبت عنه في ‏(‏الصحيح‏)‏ أنه قال‏:‏
كنت أنا وأمي من المستضعفين، كانت أمي من النساء، وكنت أنا
من الولدان، وهاجر مع أبيه الفتح فاتفق لقياهما النبي صلى الله عليه وسلم
بالجحفة، وهو ذاهب لفتح مكة، فشهد الفتح وحنيناً والطائف عام ثمان‏.‏

وقيل‏:‏ كان في سنة تسع وحجة الوداع سنة عشر، وصحب النبي
صلى الله عليه وسلم حينئذ ولزمه، وأخذ عنه وحفظ وضبط الأقوال
والأفعال والأحوال، وأخذ عن الصحابة علماً عظيماً مع الفهم الثاقب،
والبلاغة والفصاحة والجمال والملاحة، والأصالة والبيان‏.‏ودعا له
رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم كما وردت به الأحاديث الثابتة
الأركان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بأن يعلمه التأويل،
وأن يفقهه في الدين‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏
حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء، عن زيد بن أسلم،
عن ابن عمر أنه قال‏:‏ إن عمر كان يدعو عبد الله بن عباس فيقر به
ويقول‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوماً فمسح
رأسك وتفل في فيك وقال‏:‏ ‏

(‏‏ اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏ ‏‏)‏‏.‏

وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏

(‏‏ ‏اللهم بارك فيه وانشر منه‏ ‏‏)‏‏.‏

وقال حماد بن سلمة‏:‏
عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏
قال‏:‏ بت في بيت خالتي ميمونة فوضعت للنبي صلى الله عليه وسلم
غسلاً، فقال‏:‏

‏(‏‏ ‏من وضع هذا‏؟‏‏ )‏

قالوا‏:‏ عبد الله بن عباس‏.‏
فقال‏:‏

‏(‏ ‏اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين‏ ‏‏)‏‏.‏

وقد رواه غير واحد عن ابن خيثم بنحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد وغيره‏:‏
حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا ورقاء، وسمعت عبيد الله بن أبي يزيد يحدث
عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت
له وضوءاً، فلما خرج قال‏:‏

(‏‏ من وضع ذا‏؟‏‏ )‏

فقيل‏:‏ ابن عباس‏.‏
فقال‏:‏

‏(‏‏ ‏اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل‏ )‏‏.‏

وقال الثوري وغيره‏:‏
عن ليث، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن ابن عباس أنه رأى جبريل
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بالحكمة، وفي رواية بالعلم، مرتين‏.‏

وقال الدار قطني‏:
‏ حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي وآخرون قالوا‏:‏ حدثنا العباس بن محمد،
حدثنا محمد بن مصعب بن أبي مالك النخعي، عن أبي إسحاق،
عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ رأيت جبريل مرتين، ودعا لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين‏.‏ثم قال‏:‏ غريب من حديث
أبي إسحاق السبيعي، عن عكرمة تفرد به عنه
أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:
‏ حدثنا هاشم، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏
قال‏:‏ ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏

‏(‏‏ ‏اللهم علمه الحكمة‏ ‏‏)‏‏.‏

ورواه أحمد أيضاً، عن إسماعيل بن علية، عن خالد الحذاء،
عن عكرمة عنه قال‏:‏ ضمني إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏

‏(‏‏ ‏اللهم علمه الكتاب‏ ‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث خالد،
وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة عنه به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏
حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏
حدثنا أبو سعيد، ثنا سليمان بن بلال، ثنا حسين بن عبد الله بن عكرمة،
عن ابن عباس‏.‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:

‏ ‏(‏‏ اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل‏ )‏‏.‏

تفرد به أحمد، وقد روى هذا الحديث غير واحد عن عكرمة بنحو هذا‏.‏
ومنهم من أرسله عن عكرمة، والمتصل هو الصحيح، فقد رواه غير
واحد من التابعين عن ابن عباس‏.‏وروى من طريق أمير المؤمنين
المهدي، عن أبيه، عن أبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد بن علي
بن عبد الله بن عباس - عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عباس‏.‏
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏

(‏‏ اللهم علمه الكتاب وفقهه في الدين‏ )‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏
حدثنا أبو كامل، وعفان المعني قالا‏:‏ ثنا حماد، ثنا عمار بن أبي عمار،
عن ابن عباس‏.‏قال‏:‏ كنت مع أبي عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده
رجل يناجيه‏.‏قال عفان‏:‏ وهو كالمعرض عن العباس، فخرجنا من عنده
فقال العباس‏:‏ ألم أر ابن عمك كالمعرض عني‏؟‏فقلت‏:‏ إنه كان عنده رجل
يناجيه‏.‏قال عفان‏:‏ قال عباس‏:‏ أوَكان عنده أحد‏؟‏قلت‏:‏ نعم‏.‏فرجع إليه فقال‏:‏
يا رسول الله هل كان عندك أحد آنفاً‏؟‏ فإن عبد الله أخبرني أنه كان عندك
رجل يناجيك‏.‏
قال‏:‏

(‏‏ ‏هل رأيته يا عبد الله‏؟‏‏ )‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم ‏!‏
قال‏:‏ ‏

(‏‏ ذاك جبريل عليه السلام ‏‏)‏‏.‏

ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل
وقال البيهقي‏:‏ أنبأ أبو عبد الله الحافظ، أنبأ عبد الله بن الحسن القاضي
بمرو، ثنا الحارث بن محمد، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ جرير بن حازم،
عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار‏:‏ هلم فلنسأل أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير‏.‏فقال‏:‏ يا عجباً لك يا
ابن عباس ‏!‏‏!‏ أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم‏؟‏قال‏:‏ فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ليبلغني الحديث
عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليّ
من التراب، فيخرج فيراني فيقول‏:‏ يا بن عم رسول الله ما جاء بك‏؟‏
هلا أرسلت إليّ فآتيك‏؟‏فأقول‏:‏ لا ‏!‏ أنا أحق أن آتيك‏.‏قال‏:‏ فأساله
عن الحديث‏.‏قال‏:‏ فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي
الناس يسألوني، فيقول‏:‏ هذا الفتى كان أعقل مني‏.‏

وقال محمد بن عبد الله الأنصاري‏:‏
ثنا محمد بن عمرو ابن علقمة، ثنا أبو سلمة، عن ابن عباس قال‏:‏ وجدت
عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار،
إن كنت لأقبل بباب أحدهم، ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي، ولكن
ابتغي بذلك طيب نفسه‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏
أنبأ محمد بن عمر، حدثني قدامة بن موسى، عن أبي سلمة الحضرمي
قال‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي
رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي
أحداً منهم إلا سر بإتياني إليه، لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فجعلت أسأل أبي بن كعب يوماً - وكان من الراسخين في العلم - عما نزل
من القرآن بالمدينة، فقال‏:‏ نزل سبع وعشرون سورة وسائرها مكي‏.‏

وقال أحمد‏:‏
عن عبد الرزاق، عن معمر قال‏:‏ عامة علم ابن عباس من ثلاثة‏:‏
من عمر، وعلي، وأبيَّ بن كعب‏.‏

وقال طاوس‏:‏
عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد من ثلاثين
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مغيرة‏:‏
عن الشعبي قال‏:‏ قيل لابن عباس‏:‏ أنى أصبت هذا العلم‏؟‏قال‏:‏ بلسان
سؤول، وقلب عقول‏.‏وثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يجلس ابن عباس
مع مشايخ الصحابة ويقول‏:‏ نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس‏.‏
وكان إذا أقبل يقول عمر‏:‏ جاء فتى الكهول، وذو اللسان السؤول،
والقلب العقول‏.‏وثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ أن عمر سأل الصحابة عن تفسير‏:‏

‏{ ‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏ }‏‏
[‏النصر‏:‏ 1‏]‏

فسكت بعض وأجاب بعض بجواب لم يرتضه عمر‏.‏ثم سأل ابن عباس عنها
فقال‏:‏ أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه‏.‏فقال‏:‏ لا أعلم منها
إلا بما تعلم، وأراد عمر بذلك أن يقرر عندهم جلالة قدره، وكبير منزلته
في العلم والفهم‏.‏وسأله مرة عن ليلة القدر فاستنبط أنها في السابعة
من العشر الأخير، فاستحسنه عمر واستجاده كما ذكرنا في التفسير‏.‏

وقد قال الحسن بن عرفة‏:‏
حدثنا يحيى بن اليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير
عن عمر أنه قال لابن عباس‏:‏ لقد علمت علماً ما علمناه‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏
قال عمر لابن عباس‏:‏ إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم عقلاً،
وأفقههم في كتاب الله عز وجل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏
عن الشعبي، عن ابن عباس قال‏:‏ قال لي أبي‏:‏ إن عمر يدنيك ويجلسك
مع أكابر الصحابة فاحفظ عني ثلاثاً‏:‏ لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده
أحداً، ولا يجربن عليك كذباً‏.‏

قال الشعبي‏:
‏ قلت لابن عباس‏:‏ كل واحدة خير من ألف‏.‏
فقال ابن عباس‏:‏ بل كل واحدة خير من عشرة آلاف‏.‏
قلت‏:‏ وشهد فتح إفريقية سنة سبع وعشرين مع ابن أبي سرح‏.‏

وقال الزهري‏:‏
عن علي بن الحسين، عن أبيه قال‏:‏ نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل
يمشي بين الصفين، فقال‏:‏ أقر الله عين من له ابن عم مثل هذا‏.‏

وقد شهد مع علي الجمل وصفين، وكان أميراً على الميسرة، وشهد معه
قتال الخوارج، وكان ممن أشار على علي أن يستنيب معاوية على الشام،
وأن لا يعزله عنها في بادئ الأمر، حتى قال له فيما قال‏:‏ إن أحببت عزله
فوله شهراً واعزله دهراً، فأبى علي إلا أن يقاتله، فكان ما كان مما قد
سبق بيانه‏.‏ولما تراض الفريقان على تحكيم الحكمين طلب ابن عباس
أن يكون من جهة علي ليكافئ عمرو بن العاص، فامتنعت مذحج
وأهل اليمن إلا أن يكون من جهة علي أبو موسى الأشعري، وكان من
أمر الحكمين ما سلف‏.‏وقد استنابه علي على البصرة، وأقام للناس الحج
في بعض السنين فخطب بهم في عرفات خطبة وفسر فيها سورة البقرة‏.‏
وفي رواية سورة النور، قال‏:‏ من سمعه فسر ذلك تفسيراً لو سمعته الروم
والترك والديلم لأسلموا‏.‏وهو أول من عرّف بالناس في البصرة، فكان
يصعد المنبر ليلة عرفة ويجتمع أهل البصرة حوله فيفسر شيئاً من
القرآن، ويذكر الناس من بعد العصر إلى الغروب، ثم ينزل فيصلي
بهم المغرب‏.‏وقد اختلف العلماء بعده في ذلك، فمنهم من كره ذلك وقال‏:
هو بدعة لم يعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه
إلا ابن عباس‏.‏ومنهم من استحب ذلك لأجل ذكر الله وموافقة الحجاج‏.‏
وقد كان ابن عباس ينتقد على علي في بعض أحكامه فيرجع إليه علي
ي ذلك، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن عكرمة
أن علياً حرق ناساً ارتدوا عن الإسلام‏.‏ فبلغ ذلك ابن عباس فقال‏:‏
لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:

‏ ‏(‏‏ ‏لا تعذبوا بعذاب الله‏ ‏‏)‏

بل كنت قاتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

(‏‏ ‏من بدل دينه فاقتلوه‏ )‏‏.‏

، فبلغ ذلك علياً فقال‏:‏ ويح ابن عباس‏.‏

وفي رواية ويح ابن عباس، إنه لغواص على الهنات، وقد كافأه علي فإن
ابن عباس كان يرى إباحة المتعة، وأنها باقية، وتحليل الحمر الأنسية‏.‏
فقال علي‏:‏ إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر‏.‏ وهذا الحديث
مخرج في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما، وله ألفاظ هذا من أحسنها،
والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وقال البيهقي‏:‏
أنبأ أبو عبد الله الحافظ قال‏:‏ سمعت أبا بكر بن المؤمل يقول‏:‏ سمعت
أبا نصر بن أبي ربيعة يقول‏:‏ ورد صعصعة بن صوحان على علي بن أبي طالب
من البصرة فسأله عن ابن عباس - وكان علي خلفه بها -‏.‏فقال صعصعة‏:‏
يا أمير المؤمنين، إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا
حدث، وبحسن الاستماع إذا حُدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف‏.‏
وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه‏.‏