المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثم دخلت سنة تسع وسبعين


adnan
01-10-2015, 09:14 PM
الأخ / مصطفى آل حمد





ثم دخلت سنة تسع وسبعين للهجرة النبوية الشريفة
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله


ففيها
وقع طاعون عظيم بالشام حتى كادوا يفنون من شدته، ولم يغز فيها أحد
من أهل الشام لضعفهم وقلتهم، ووصلت الروم فيها إنطاكية فأصابوا خلقاً
من أهلها لعلمهم بضعف الجنود والمقاتلة‏.‏

وفيها
غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل ملك الترك حتى أوغل في بلاده،
ثم صالحه على مال يحمله إليه في كل سنة‏.‏

وفيها
قتل عبد الملك بن مروان الحارث بن سعيد المتنبئ الكذاب، ويقال له
الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد الدمشقي، مولى أبي الجلاس العبدري،
ويقال مولى الحكم بن مروان، كان أصله من الجولة فنزل دمشق وتعبد
بها وتنسك وتزهد ثم مكر به ورجع القهري على عقبيه، وانسلخ من
آيات الله تعالى، وفارق حزب الله المفلحين، واتبع الشيطان فكان
من الغاوين، ولم يزل الشيطان يزج في قفاه حتى أخسره دينه ودنياه،
وأخزاه وأشقاه‏.‏ فإنا لله وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

قال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا عبد الوهاب نجدة الجولي،
حدثنا محمد بن مبارك، ثنا الوليد بن مسلم،
عن عبد الرحمن بن حسان، قال‏:‏
كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له
أب بالجولة، فعرض له إبليس، وكان رجلاً متعبداً زاهداً لو لبس جبة
من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع
السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة‏:‏
يا أبتاه أعجل عليَّ فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد
عرض لي، قال فزاده أبوه غيَّاً على غيه، فكتب إليه أبوه‏:‏ يا بني أقبل
على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول‏:‏

‏{‏ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏ }‏ ‏
[‏الشعراء‏:‏ 221 - 222‏]‏

ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد
رجلاً رجلاً، فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى
ما يرضى وإلا كتم عليه‏.‏

قال‏:‏ وكان يريهم الأعاجيب‏.‏ كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها
بيده فتسبح تسبيحاً بليغاً حتى يضج من ذلك الحاضرون‏.‏

قلت‏:‏ وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية رحمه الله يقول‏:‏
كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقاً‏.‏

قال ابن أبى خيثمة في روايته
وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في
الشتاء، وكان يقول لهم‏:‏ اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرج بهم إلى
دير المراق فيريهم رجالاً على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا
أمره في المسجد وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم
بن مخيمرة، قال فعرض على القاسم أمره وأخذ عليه العهد إن هو
رضي أمر قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له‏:‏ إني نبي‏.‏

فقال القاسم‏:‏ كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، ، ثم قام فخرج إلى
أبي إدريس - وكان على القضاء بدمشق - فأعلمه بما سمع من الحارث
فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك، وفي رواية
أخرى أن مكحولاً وعبد الله بن زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته
فكذباه وردا عليه ما قال، ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه
عبد الملك طلباً حثيثاً، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو
إلى نفسه سراً واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها
فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان يدخل على الحارث
وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل من عبد الملك أن يبعث
معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه، فأرسل معه طائفة وكتب إلى
نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به، فلما وصل
الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه، انتدب نائب القدس لخدمته
فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته،
فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة حتى
لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال
لبوابة‏:‏ استأذن على نبي الله، فقال‏:‏ في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى
يصبح، فصاح النصري أسرجوا، ‏‏ فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل
كأنه النهار، وهمَّ النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال
أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء،
قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه،
ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال‏:‏ فأخذوه فقيدوه، فيقال‏:‏ إن القيود
والجامعة سقطت من عنقه مراراً ويعيدونها وجعل يقول‏:‏ ‏

{ ‏قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي
وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏}‏
‏[‏سبأ‏:‏ 50‏]‏

وقال لأولئك الأتراك‏:‏

‏{ ‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ‏ }‏
‏[‏المؤمن‏:‏ 28‏]‏

فقالوا له بلسانهم ولغتهم‏:‏ هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات
قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلاً
فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك‏:‏ ويحك
أذكرت اسم الله حين طعنته‏؟‏فقال‏:‏ نسيت، فقال‏:‏ ويحك سم الله ثم اطعنه،
قال‏:‏ فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه
وأمر رجالاً من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من
الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك وهذا من تمام العدل والدين
وقد قال الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، فحدثني من سمع الأعور، يقول‏:‏
سمعت العلاء بن زياد العدوي‏.‏يقول‏:‏ ما غبطت عبد الملك بشيء
من ولايته إلا بقتله حارثاً

وقال الوليد بن مسلم‏:
‏ بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك‏:‏ لو حضرتك ما أمرتك
بقتله، قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ إنه إنما كان به المذهب فلو جوعته لذهب ذلك عنه،
وقال الوليد، عن المنذر بن نافع، سمعت خالد بن الجلاخ، يقول لغيلان‏:‏
ويحك يا غيلان ألم تأخذك في شبيبتك ترا من النساء في شهر رمضان
بالتفاح، ثم صرت حارثياً تحجب امرأته وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت
فصرت قدرياً زنديقاً‏.‏

وفيها
غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل ملك الترك الأعظم فيهم، وقد كان يصانع
المسلمين تارة ويتمرد أخرى، فكتب الحجاج إلى ابن أبي بكرة تأخذه بمن
معك من المسلمين حتى تستبيح أرضه وتهدم قلاعه وتقتل مقاتلته، فخرج
في جمع من الجنود من بلاده وخلق من أهل البصرة والكوفة ثم التقى مع
رتبيل ملك الترك فكسره وهدم أركانه بسطوة بتارة، وجاس ابن أبي بكرة
وجنده خلال ديارهم، واستحوذ على كثير من أقاليمه ومدنه وأمصاره،
وتبر ما هنالك تتبيراً، ثم إن رتبيل تقهقر منه وما زال يتبعه حتى اقترب
من مدينته العظمى، حتى كانوا منها على ثمانية عشر فرسخاً وخافت
الأتراك منهم خوفاً شديداً، ثم إن الترك أخذت عليهم الطرق والشعاب
وضيقوا عليهم المسالك حتى ظن كل من المسلمين أنه لا محالة هالك،
فعند ذلك طلب عبيد الله أن يصالح رتبيل على أن يأخذ منه سبعمائة ألف،
ويفتحوا للمسلمين طريقاً يخرجون عنه ويرجعون عنهم إلى بلادهم،
فانتدب شريح بن هانئ - وكان صحابياً، وكان من أكبر أصحاب عليَّ
وهو المقدم على أهل الكوفة - فندب الناس إلى القتال والمصابرة والنزال
والجلاد بالسيوف والرماح والنبال، فنهاه عبيد الله بن أبي بكرة فلم ينته،
وأجابه شرذمة من الناس من الشجعان وأهل الحفائظ، فما زال يقاتل بهم
الترك حتى فني أكثر المسلمين رضي الله عنهم، قالوا وجعل شريح
بن هانئ يرتجز، ويقول‏:‏
أصبحت ذا بثٍ أقاسي الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا
ثم أدركت النبي المنذرا * وبعده صدِّيقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا * والجمع في صفينهم والنهرا
هيهات ما أطول هذا عمرا *

ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه، وقتل معه خلق من أصحابه، ثم خرج من
خرج من الناس صحبة عبيد الله بن أبي بكرة من أرض رتبيل، وهم قليل،
وبلغ ذلك الحجاج فأخذ ما تقدم وما تأخر، وكتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك
ويستشيره في بعث جيش كثيف إلى بلاد رتبيل لينتقموا منه بسبب ما حل
بالمسلمين في بلاده، فحين وصل البريد إلى عبد الملك كتب إلى الحجاج
بالموافقة على ذلك، وأن يعجل ذلك سريعاً، فحين وصل البريد إلى الحجاج
بذلك أخذ في جمع الجيوش فجهز جيشاً كثيفاً لذلك على ما سيأتي تفصيله
في السنة الآتية‏.‏ بعدها وقيل‏:‏ إنه قتل من المسلمين مع شريح بن هانئ
ثلاثون ألفاً وابتيع الرغيف مع المسلمين بدينار وقاسوا شدائد، ومات
بسبب الجوع منهم خلق كثير أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ وقد قتل
المسلمون من الترك خلقاً كثيراً أيضاً قتلوا أضعافهم‏.‏

ويقال إنه في هذه السنة
استعفى شريح من القضاء فأعفاه الحجاج من ذلك وولى مكانه أبا بردة
ابن أبي موسى الأشعري، وقد تقدمت ترجمة شريح عند وفاته في السنة
الماضية والله أعلم‏.‏

قال الواقدي وأبو معشر وغير واحد من أهل السير‏:‏
وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان أمير المدينة النبوية، وفيها
قتل قطري بن الفجاءة التميمي أبو نعامة الخارجي، وكان من الشجعان
المشاهير، ويقال إنه مكث عشرين سنة يسلم عليه أصحابه بالخلافة،
وقد جرت له خطوب وحروب مع جيش المهلب بن أبي صفرة من جهة
الحجاج وغيره، وقد قدمنا منها طرفاً صالحاً في أماكنه، وكان خروجه في
زمن مصعب بن الزبير، وتغلب على قلاع كثيرة وأقاليم وغيرها، ووقائعه
مشهورة وقد أرسل إليه الحجاج جيوشاً كبيرة فهزمها، وقيل إنه برز إليه
رجل من بعض الحرورية وهو على فرس أعجف وبيده عمود حديد، فلما
قرب منه كشف قطري عن وجهه فولى الرجل هارباً فقال له قطري إلى
أين‏؟‏ أما تستحي أن تفر ولم تر طعناً ولا ضرباً‏؟‏ فقال‏:‏ إن الإنسان
لا يستحي أن يفر من مثلك، ثم إنه في آخر أمره توجه إليه سفيان
بن الأبرد الكلبي في جيش فاقتتلوا بطبرستان، فعثر بقطري فرسه فوقع
إلى الأرض فتكاثروا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى الحجاج، وقيل‏:
‏ إن الذي قتله سودة بن الحر الدارمي وكان قطري بن الفجاءة مع
شجاعته المفرطة وإقدامه من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة
والبلاغة وجودة الكلام والشعر الحسن، فمن مستجاد شعره قوله يشجع
نفسه وغيره ومن سمعها انتفع بها‏:‏

أقول لها وقد طارت شعاعاً * من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو طلبت بقاء يومٍ * على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً * فما نيل الخلود بمستطاعي
ولا ثوب الحياة بثوب عز * فيطوى عن أخي الخنع اليراعي
سبيل الموت غاية كل حيٍ * وداعيه لأهل الأرض داع
فمن لا يغتبط يسأم ويهرم * وتسلمه المنون إلى انقطاعي
وما للمرء خير في حياة * إذا ما عدَّ من سقط المتاعي

ذكرها صاحب الحماسة واستحسنها ابن خلكان كثيراً ‏(

وفيها توفي
عبيد الله بن أبي بكرة رحمه الله وهو أمير الجيش الذي دخل بلاد الترك
وقاتلوا رتبيل ملك الترك، وقد قتل من جيشه خلق كثير من شريح
بن هانئ كما تقدم ذلك، وقد دخل عبيد الله بن أبي بكرة على الحجاج مرة
وفي يده خاتم فقال له الحجاج‏:‏ وكم ختمت بخاتمك هذا‏؟‏ قال علي أربعين
ألف ألف دينار قال ففيم أنفقتها‏؟‏ قال‏:‏ في اصطناع المعروف، ورد
الملهوف والمكافأة بالصناع وتزويج العقائل‏.‏

وقيل‏:‏ إن عبيد الله عطش يوماً فأخرجت له امرأة كوز ماء بارد فأعطاها
ثلاثين ألفاً، وقيل‏:‏ إنه أهدي إليه وصيف ووصيفة وهو جالس بين
أصحابه فقال لبعض أصحابه‏:‏ خذهما لك، ثم فكر وقال‏:‏ والله إن إيثار
بعض الجلساء على بعض لشح قبيح ودناءة رديئة، ثم قال‏:‏ يا غلام ادفع
إلى كل واحد من جلسائي وصيفاً ووصيفة، فأحصى ذلك فكانوا ثمانين
وصيفاً ووصيفة‏.‏

توفي عبيد الله بن أبي بكرة ببست، وقيل‏:‏ بذرخ،
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحلم، والحمد لله رب العالمين‏.‏