المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ألهانا التكاثر حتى زرنا المقابر


هيفولا
04-15-2015, 10:54 PM
ألهانا التكاثر حتى زرنا المقابر

كتبته: أبرار بنت فهد القاسم

من العجائب أن ترى محتضرة روحها تغرغر وهي تُصّبر أهلها،
وتواسيهم وتثبتهم، وتذكرهم بالله!

الله أكبر على هذا الثبات..

الله أكبر على هذه العزة بالتوحيد..

الله أكبر على ما وقر في قلبها من الرضا والتسليم..

الله أكبر حين نطقت مودعة (أنا بخير.. أنا بخير لا تزعلوا علي)

تلكم هي خالتي منى أم عبدالعزيز – رحمها الله ووسع قبرها –

لحظات الوداع علقم، وأشد مرارة منها أن ترى حبيبتك تحتضر بين يديك ولا تستطيع مساعدتها،
أو التخفيف عنها ونحن نسمعها تردد “إن للموت لسكرات، أشهد أن الموت حق، والجنة حق،
ربي اجعلني من التوابين، ربي إني راضية فارض عني،
يا من بيده مفاتيح الفرج لا تطول الشدة وعندك الرخاء، الحمد لله على قضائك”.

يوم الأحد 9 /6/ 1436هــ كان يوماً عصيباً شاقاً، أرانا الله فيه ما يُثبت عقيدة التوحيد في نفوسنا،
ما زادنا إيمانا بسكرات الموت وما بعده من بعث وجزاء، ما زادنا معرفة بحقيقة الدنيا وأنها دار ممر لا مقر لنا فيها،
وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما زادنا تصديقاً بكلام ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم،
رأينا الروح تغرغر، والأنفاس تتصَعّد، والشفاه تيبس، والأطراف تذبل،
سمعناها – قدس الله روحها – تذكر أسماء الأموات واحداً تلو الآخر، رأيت فلاناً وفلاناً.. رأينا الغيب شهادة!

سمعناها تقول: (ماني خايفة.. والله ماني خايفة)
فسألت الله أن يجعلها ممن {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

رأت – رحمها الله – ابنتها تبكي فأخذت تصبرها وتذكرها بالرضا وتحذرها من الجزع..

لم يفتر لسانها عن قراءة القرآن وذكر الله طوال احتضارها رغم أنه ثقل عن الكلام العادي..

أحبابها من حولها يقرؤون القرآن ويذكرون الله بأصوات تخالطها العبرات والدموع،
هذا يرقيها وتلك تبلل شفاهها بقطن مبلل بماء، وتلك تقرأ القرآن عند رأسها والآخر تحت أقدامها،
وتلك ترفع صوتها بشهادة التوحيد، حتى صعب عليها التنفس وبلغت روحها التراقي،
ولم ينفعها الراقي، وأيقنا أنه الفراق.. لكنا لم نيأس من شفائها ومن عافيتها رغم أن أمارات خروج الروح ظاهرة لأصغر واحد فينا،
إلا أن ضوء الفأل لم يخبت نوره، ما إن تسلل صوت الأذان إلى مسامعنا (الله أكبر) حتى حول ألمنا أملاً بعافيتها،
فالله أكبر من كل مرض وسقم، الله أكبر من كل هم وكرب، الله أكبر من كل شدة وضيق..

والحمد لله الذي كان عند حسن ظننا، تغشانا لطف اللطيف،
ورحمنا برحمته التي وسعت كل شيء فلم تُقبض روحها في تلك الأثناء،
فنفوسنا المنهكة، وأرواحنا المتعبة لم تعد تتحمل.

التف حولها الأطباء وأخبرونا بأن ما حل بها بسبب هبوط في السكر حاد، وارتفاع في الضغط
وماء على الرئة سبب لها ضيقاً في التنفس، أنهوا إجراءاتهم وأعطوها منوماً،
وطلبوا من الجميع العودة لمساكنهم إلا مرافقاً واحداً فبقيت ابنتها – وفقها الله – معها.

يوم الاثنين بقيت نائمة ولم تفق إلا دقائق معدودة،
رأتنا وكلمتنا بصعوبة، كانت تتنفس بعسر شديد، ودعناها وخرجنا،
منا من خرج الساعة 9 ومنا 10 ومنا 11 م، وبقيت معها ابنتها.

اشتد تعبها فلم ترد البنت البارة أن تفجع والدها – حفظه الله – فاتصلت بأخيها الحنون البار – حفظه الله – وجاء من فوره
ووقف على رأسها يرقيها، حتى فاضت روحها وأسلمت لباريها في تمام الساعة 6:30 صباح الثلاثاء الموافق 11/6/1436هــ
رحمها الله وغفر لها ورحمنا إذا صرنا إلى ما صارت إليه.

في تمام الساعة 7 والربع كنا عندها في المستشفى، حرصتُ أن أدخل لغرفتها قبل والدتي وخالاتي
ولساني يلهج بأن يربط الله على قلوبنا جميعاً وأن يأجرنا في مصيبتنا ويخلف علينا خيراً،
فأسرعت الخُطى إليها والحمد لله الذي وفقني،
دخلت ورأيت زوجها الصابر المحتسب – حفظه الله – مطرقاً يتمتم بالدعاء،
ثم رأيت بناتها – وفقهن الله – حولها يبكين ويدعين لم أعزهن ولم أتكلم بكلمة،
حتى كشفت عن وجهها فأشرقت أنواره وتهلل ضياؤه، وأسفرت عن ابتسامة عريضة لا نراها إلا على وجوه الشهداء..
كبرت وهللت وحمدت الله على خاتمتها،
وقبلت ذاك الجبين الذي مرغته على الأرض سجوداً وذلاً لربها..

وصلت والدتي – حفظها الله – ومن خلفها خالاتي وخالي وزوجة خالي – حفظهم الله -:
فاستقبلتهم بالبشارة: ابشروا خالتي رحلت لربي مبتسمة.

سجدت أمي شكراً ثم تتابع السجود على الأرض حمداً وشكراً لله على هذه الخاتمة التي تُغبط عليها.

بقينا حولها نكفكف دموع الفراق، وندعو الله لها بالثبات، ونستعين بالصبر والصلاة على المصاب الذي نزل بنا،
حتى أنهوا إجراءاتها، فلم نشعر بوحشة الأموات، كأنها نائمة بابتسامة براقة، ثم نقلت مباشرة إلى المغسلة،
كما تمنت رحمها الله أن لا تدخل الثلاجة.

قبل دخولي لمغسلة الأموات كنت أحمل هم تقليبها – رحمها الله – وخشيتُ أن نؤذيها،
فذاك الجسد الذي هده المرض وأنهكه، بلغ وزنه بالأربعين وربما أقل لكنها قبل موتها – رحمها الله – بثلاثة أسابيع،
تورمت أقدامها ورما شديداً، وثَقُل حملها،
حتى أني رأيت 7 رجال يتعاونون على حمل لحافها من تحتها لينقلوها من سريرها إلى سرير الإسعاف –
جعل الله ما أصابها كفارة ورفعة درجات.

دخلتُ المغسلة وأنا أدعو القوي أن يقويني ويثبتني، فما أن كشفت المغسّلة عن ذاك الوجه الباسم
حتى رأيت ما زادني عجباً على عجب، ذهبت آثار الكيماوي من جسدها، عاد لون بشرتها كما لم تكن مريضة،
ومما أبهرني وجعلني أتمنى خاتمتها بعفو وعافية أنها رفعت السبابتين اليمنى واليسرى بالتشهد –
تقبلها الله في الشهداء وأنزلها منازل الحامدين الشاكرين.

ما كنت أخشاه زال بفضل الله، تلك الأقدام المتورمة التي أجهدني حملها قبل سويعات من خروج روحها أثناء ما كنت أدهنها بالزيت،
هاهي بين يدي كالريشة في خفتها..

طبت حية وميتة يا خالتي، خفيفة في كل شيء: في موتها وتغسيلها وتكفينها وعزائها وجَمع ثيابها،
كانت أحسبها ولا أزكيها تُعِد لهذا اليوم عدته، وللكفن أُهبته..

فإن للكفن الأبيض هيبة في النفوس، من رآه هانت عليه زينة الحياة الدنيا وبهرجها وزخرفها،
رؤيته تحرك العزيمة، وتُشعل الهمة، وتُحطم التسويف، فكفى بالموت واعظاً،
وبالكفن مذكراً، هنيئاً لمن تزود وأعد العدة.. فالموت كأس سنشرب منه جميعاً
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ, وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها…. . إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه…. . وإن بناها بشرٍ خاب ثاويـــــــــــها

لكل نفسٍ وإن كانت على وجلٍ…. . من المنيــــــــــة آمــــــــال تقويــــــها

فالمرء يبسطها والدهر يقبضها…. . والنفس تنشرها والموت يطويها


والحمد لله الذي أرانا من حسن خاتمتها ما يعزينا في مصابنا بفقدها
– رحمها الله ونور قبرها –

لكن ثمة أسئلة تفرض نفسها:

بم نالت تلك الخاتمة الحسنة؟

بم نالت ثناء الناس، ودعواتهم التي انهالت عليها ممن يعرفها ومن لا يعرفها؟

بم استحقت كل تلك الأوقاف التي أُوقفت لها والصدقات التي أُخرجت عنها بعد موتها؟

لعلي أكشف لكم عن بعض أعمالها في حياتها – رحمها الله –:

تميزت بسلامة الصدر ونقاء السريرة وبراءة القلب،
فلم تحمل غلاً على مسلم طوال حياتها
حتى أثناء احتضارها كانت تقول: (أنا راضية عنكم وعن الجميع)،
وكل من عزانا بها ممن يعرفها ذكرها بهذه الصفة التي تُميزها،
وأحسبها ورثتها عن جدتي – رحمهما الله – بحسب كلام الناس وثنائهم، ونحن شهداء الله في الأرض
كما ثبت في الصحيح “هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار،
أنتم شهداء الله في الأرض”.

أسأل الله أن يفتح لهما في قبريهما باباً إلى الجنة، ويصيبهما من روحها وطيبها، ويُفسّح لهما.
عرفت ببرها وصلة رحمها وإحسانها لزوجها وأهله، كانت بارة بوالدتها رحمها الله
حتى أن الله أكرمها وماتت جدتي – رحمها الله – بين يديها وغسلتها وكفنتها
ولم يقتصر برها على أمها بل حتى جدي – رحمه الله – الذي لم نره كانت دائما ما تدعو له وتذكر مناقبه،
ويمتد برها وإحسانها لأرحامها في حياتهم بصلتهم وبعد موتهم بوصل أهلهم والدعاء لهم – رحم الله من مات منهم –
وكانت شديدة البر بخالها عبدالله – رحمه الله – الذي لم نره فعرَفتنا به لكثرة ما تذكره،
مات رحمه الله قبل زواجه ولم يُخلّف عقباً يدعون له، فكانت دائماً تذكرنا بالدعاء له،
وكانت كما قالت خالاتي – حفظهن الله -: أشدنا براً بخالي عبدالله – رحمهما الله
– فكانت تقلم أظفاره وتقدم له ما يحتاجه لأنه لم يكن له زوجة ولا ذرية،
وأحسبها بهذا العمل – رحمها الله – نالت فوق بر أبنائها بر أبناء إخوانها وأخواتها بها في حياتها وبعد موتها.

حرصها على الصلاة في أول وقتها حرصاً عجيباً،
كنا نتسامر ذات يوم حول موضوع الطرق المعينة على الاستيقاظ للصلاة وكان هذا قبل مرضها – رحمها الله –
فكل أدلى بدلوه، حتى نطقت رحمها الله بتجربتها التي ضحكت عجباً منها لموافقتها مقالاً قرأته قديماً،
قالت: اشربوا ماءً كثيراً قبل النوم حتى تضطروا للقيام لدورة المياه – أعزكم الله – فإذا قمتم من السرير ذهب ربع النوم،
وإذا ذكرتم الله ذهب الربع الثاني، وإذا فتحتم النور ذهب الربع الثالث، فإذا توضأتم ذهب النوم كله، وقمتم لصلاتكم نشيطين.
فحدثتها عن موافقة تجربتها للمقال الذي قرأته عن تجربة بعض الصينيين في تخفيف ساعات نومهم،
كانوا يكثرون من شرب الماء أو السوائل قبل النوم.

كانت صوامة قوامة،
لم تترك صيام الاثنين والخميس 25 سنة حتى ابتليت بمرض السرطان قبل 3 سنوات تقريباً،
قلبها معلق بالصلاة ولم تغفل عن سنة الضحى وعن قيام الليل حتى وهي تحتضر في ذاك اليوم العصيب
الذي مر بنا كانت تسألنا عن الساعة، وهل دخل وقت الصلاة أو لا،
فلما سمعت الأذان قالت: إذا خرجت روحي قبل أن أصلي وقد دخل وقت الصلاة فأستحلفكم بالله أن تصلوا عني!

فكنا نجيبها: سيمد الله في عمرك وستصلين، وكان بفضل الله ما قلنا وأعطانا ربي ما تلفظنا به،
فسألتني كيف أركع وأسجد وهي مسجاة على السرير لا تستطيع حتى رفع رأسها ولا تحريك رقبتها،
فقلت لها على حالك لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وديننا يسر لا مشقة فيه،
فتوضأت وصلت الفرض ثم الشفع والوتر.

عفيفة اللسان طويلة الصمت كثيرة ذكر الله،
أحسبها تمتثل حديث “فليقل خيراً أو ليصمت”،
لم أسمعها تشتم أو تلعن أو تقذف أو تتكلم بسوء، أو تذكر أحدا بغيبة،
وكثيراً ما قالت لي حين نجتمع ويكثر اللغو لو قلت لنا يا بنتي كلمة ترطب قلوبنا، وتعمر مجلسنا بالفائدة.

تحب مجالس الذكر وتحرص على حضورها،
كانت تحضر درساً أسبوعياً في شرح أسماء الله وصفاته، حتى اشتد بها المرض فحبسها عن الحضور،
فاستبدلته بسماع المحاضرات من التلفاز واليوتيوب وهي مسجاة على سريرها.

لها ورد ثابت من القرآن لا تتركه بحال، قبل مرضها وبعده،
والتحقت بدار تحفيظ قرآن لتصحح تلاوتها ولتقرأ كتاب ربها كما أُنزل، كنا إذا زرناها ولم تنه وردها تتمه ونحن حولها،
ولا تغلق المصحف حتى تنتهي حتى لو خرجنا من عندها قبل انتهائها فلا تغلقه،
تودعنا ثم تكمل قراءتها،
وإذا زارتنا في بيتنا ولم تنه وردها تنسل خفية لإحدى الغرف المجاورة لمكان جلوسنا لتأنس بكتاب ربها وتنهي وردها،
ولم تتوقف عن القراءة إلا قبل موتها بسبب ضعف البصر وتعبها الشديد،
ولم تستسلم للمرض بل استبدلت القراءة بالسماع،
فكانت تكثر سماعه – جعل الله القرآن أنيسها في قبرها –

ومن المواقف العالقة بالذهن ذهبنا قبل موتها – رحمها الله – بشهرين تقريباً لاستراحة
لأجل أن ندخل السرور على قلبها، فذهبت بعيداً عن الأصوات وفتحت المصحف،
أتيتها قبل انتهائها وقلت لها: يا خالة الغداء جاهز. قالت: تغدوا بالعافية،
قلت: سيبرد، كلي ما يقيم صلبك ويعينك على تحمل الأدوية ثم أكملي قراءتك،
قالت: ما ارتاح يا بنتي إلا إذا أنهيت وردي، تغدوا إن شاء الله ألحقكم.


عزيزة النفس لا تطلب شيئاً تستطيع فعله،
حتى في مرضها ما كانت تطلب، فإذا عملنا لها ما يريحها أو تحتاجه،
قالت: جزاكم الله خيرا كنت محتاجة لهذا.. فإذا عتبنا عليها لم لم تخبرينا لم لم تطلبي؟!
قالت: لا أريد مشقتكم.

كانت حيية ستيرة محتشمة في لباسها – رحمها الله –
حتى مع اشتداد المرض وصعوبة تحريكها ليدها، كانت تقول استروني استروني حتى لا أتكشف،
بل حتى لحظة الاحتضار وهي طريحة الفراش لا يتحرك منها شيء حين دخل عليها والدي – حفظه الله –
ليرقيها مع أنها مغطاة بالبطانية لا يُرى منها إلا بطانيتها ومع ذلك كانت تقول غطوني بعباءتي،
تلك العباءة الساترة التي كانت تسدلها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها
فضفاضة واسعة سادة لا زينة فيها ولا قيطان ولا كلفة ولا دانتيل ولا موديل ولا ألوان ولا غيره،
عباءة للستر لا لتزين الجسد وإظهار مفاتنه،

بل حتى ليلة وفاتها – رحمها الله – دخل والدي – حفظه الله – عليها ورقاها هو وأبناء أختها – وفقهم الله –
وهي نائمة فلما أفاقت سألناها هل شعرت بهم حين دخلوا،
قالت: لم أشعر أهم شيء هل غطيتموني؟!


بعد دفنها – قدس الله روحها – أكبرت لها أثناء ترتيب ملابسها كيف كانت تبتكر الطّرق
لتُستر ملابسها حتى تظهر محتشمة وأنيقة.

أسأل الستير الذي سترها فوق الأرض أن يسترها تحت الأرض ويوم العرض، ويكسوها من الحرير والإستبرق.

كانت – رحمها الله – شخصية اجتماعية، تألَف وتُؤلف،
تختلط بالنَّاس، وتشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وتسعى لتفريج كرباتهم، والوقوف مع مصائبهم،
كسبت ببشاشتها ودماثة خلقها قلوب الصغار قبل الكبار،
كانت تحرص على إدخال السرور على قلوب من حولها،

ولها مع إدخال السرور على قلوب الأطفال حكايات ومواقف،
منها على سبيل المثال لا الحصر: أثناء تفريغ حقائبها اليدوية بعد موتها – رحمها الله –
كانت مملوءة بالحلويات التي اعتادت توزيعها على الأطفال،
ولها عادة عرفت بها أي أحد من أبناء وبنات إخوانها أو أخواتها يدخل المدرسة كانت تجمعنا جميعاً
وتجعل الطفل في وسطنا وتلقي عليه الحلوى، وسط زغاريد النساء وابتهاج الأطفال
كل هذا لتحببه في العلم وتشجعه وتحفزه للاجتهاد في دراسته،
أسأل الله لها بهذا العمل الذي كانت تدخل به السرور على قلوب الأطفال أن يسعدها في قبرها.

عاشت – رحمها الله – ببساطة وقناعة وكانت تحاول التخفف من الدنيا قدر ما تستطيع،
ولا أدل عل ذلك إلا قلة متاعها الذي خلفته بعد موتها – نور الله قبرها.
أحسبها ورعة تقية تراقب الله في كل حركاتها وسكناتها، تبتعد عن الشبهات،
ولا تقدم على أمر إلا وهي متيقنة من حله تماماً، دائماً كانت تستفتيني في أبسط الأمور وأصغرها
دلالة تقوى في قلبها أحسبها كذلك ولا أزكيها، إن كنت أنسى فلم أنس ولن أنسى هذا الموقف الذي حفر أخدوداً في الذاكرة،
اعتدت أن أطيبها وأبخرها طوال فترة بقائها في بيتنا، حين كان في بيتها ترميمات وإصلاحات،
فاقترح عليها أخواتها أن تتنقل بين بيوتهم حتى تنتهي إصلاحات بيتها لتسلم من أذية الرائحة والأصوات المزعجة،
رحبت بالفكرة، وكأنها تشعر بدنو أجلها فأرادت تودع أخواتها وأبناءهم،

صبيحة يوم الجمعة دخلت عليها كالعادة بيدي المبخرة والأطياب،
فطلبت مني أن ألا أطيبها! تعجبت من رفضها مع علمي بمحبتها للطيب، نزلت عند رغبتها دون سؤال،
دخل وقت العصر فلبست عباءتها وقالت لي: (بطلع أنا وبناتي تجين معنا
ودي أغير جو مللت السرير لن أتأخر برجع بإذن الله قبل المغرب،
و ما راح أنزل من السيارة، بس أبي أكحل عيني بخضرة الحديقة من زمان ما رأيت طبيعة،
وبخاطري أدعي ربي في عصر الجمعة بتلك الأجواء) اعتذرت منها، فلما عادت أعدت لها الطيب فقبلته،
علمت حينها سبب اعتذارها صباحاً حتى لا يجد سائقهم رائحة طيبها إذا ركبت معه عصراً..
هذا بعض ما أظهرنا الله عليه من ورعها وأسرارها مع ربها، وما خفي عنا أعظم،

وانتقلت رحمها الله قبل تمام إصلاحات بيتها، أبدلها الله مساكن طيبة في جنات عدن،
وأسكنها قصورها وخيامها وغرفها المبنية من فوقها الغرف تجري من تحتها الأنهار.
كانت محسنة لجاراتها إحساناً شديداً، ففي زمن نشاطها – رحمها الله – توفي زوج جارتها التي لم ترزق بأبناء
وقدر الله أن تُكسر يد الجارة بعد وفاة زوجها – رحمه الله – فكانت خالتي – نور الله قبرها –
تُنهي ترتيب بيتها الذي يخلو من خادمة وتَفرغ من تدريس أبنائها، وإعداد عشائهم، ثم تذهب لبيت جارتها
تنظفه لها وترتبه وتعد طعامها وتغسل ثيابها. ولها جارة أخرى أرملة كبيرة في السن لم ترزق إلا بابن واحد
وكل أقاربها في المنطقة الشرقية، فكانت تقوم على حاجتها وتذهب ببناتها معها
لتدخل السرور على قلبها وتؤنس وحشتها حتى جاء أقارب هذه العجوز وأخذوها معهم،
فلم تتوقف عن إحسانها بها فكانت تتعاهدها بالاتصال والزيارة كلما سافرت للشرقية.
عرفت بالكرم والصدقة والأمانة وكتمان السر، ولولا أن الحديث عن أمانات وأسرار وإلا لأفصحت.
شهد لها الجميع بالصبر ورباطة الجأش قبل مرضها وبعده، لم نعهد عليها شكاية أو تذمراً،
جعلت صدرها سجناً لأحزانها وهمومها، ولم نسمع منها إلا قول: (الحمد لله)
طوال رحلتها مع مرضها التي يقف قلمي عاجزاً عن تسطير كل الدروس المستفادة منها،

بدأت رحلة بلائها بمرض السرطان قبل قرابة ثلاث سنوات، لم تعلم بمرضها إلا بعد ستة أشهر،
ولم تشأ أن تحزنا بمرضها فبقيت صامتة، وبقينا صامتين ونحن نعلم بوضعها من خلال ملفها،
حتى صارحتها أمي – حفظها الله – بعد جلستها الثانية للكيماوي بمعرفتنا عن مرضها فزال هماً جاثماً على قلبها الحنون،
قالت: (ما ني خايفة من الموت، كل واحد بيموت باليوم اللي الله كاتبه له حتى لو كان بصحة وعافية
، لا مفر من الموت لكن الله يجعله على الشهادة والعبادة)، طوال رحلة علاجها
لم تخبرنا بأي شيء عن وضعها سوى أيام مواعيدها،
ما عداه كانت تقول (أنا بخير.. الوضع مستقر.. طيبة.. لا جديد.. عندي موعد يوم كذا)
أحيانا تخبرنا بأماكن الألم عندما نرقيها، وبقينا نتابع حالتها عبر ملفها، لأنها لا تسألهم عن وضعها،
وكلما قلت لها: يا خالة اسألي الطبيبة عن وضعك. ترد علي:
(يا بنتي أنا أدخل عليهم وهم يعرفون عملهم يعطوني الأدوية
أو ينقلون لي دم أو الكيماوي هذا وسعهم، ربي الشافي ليش أسألهم عن حالتي
هم بشر ما يعلمون الغيب وما يقدرون ينفعون أنفسهم حتى ينفعوني)
كانت أقوى من مرضها واجهته بقوة يقينها وبكتاب ربها، لم تترك سورة البقرة يوماً واحداً من حين علمت بمرضها طلباً لبركتها،
جمعت في علاجها بين الطب النبوي والطب البشري،
لكن الحكيم الرحيم رحمة منه ولطفاً قدر لها أن ينتقل المرض من القولون إلى الكبد ثم ينتشر في الجسد جميعاً،
حينها رفع الطب راية الاستسلام عاجزاً عن تقديم المساعدة، وكان ذلك قبل موتها – رحمها الله – بثلاثة أشهر،
فتدهورت حالتها الصحية من سيء إلى أسوأ حتى وافتها منيتها، تقبلها الله في الشهداء.
هذا فيض من غيض سيرتها العَطِرة، اللهم لا تفتنا بعدها واغفر لنا ولها..
والحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً.

ختاماً: كنت أرى فتح البيوت للعزاء لا فائدة منه لما رأيت من هدره للأوقات والأموال،
لكن بعد التجربة تبين لي أن مفعوله في التسلية عميق جداً، خصوصاً عندما نُواسَى بمن كُلِمَ بنفس كلمنا وفَقَد مثل فَقِدنا،
فنتسلى بأنا في طريق لسنا فيه بأوحد،
فيهون المصاب ولا يهون المفقود.. فجزى الله كل من واسانا في مصابنا بها (بزيارة أو اتصال أو إرسال أو دعاء) خير الجزاء وأوفاه.

تعزيتي لأمي – حفظها الله وسددها – ولأبناء خالتي – وفقهم الله – ولزوج خالتي – حفظه الله – ولأخوالي وخالاتي وأبنائهم – حفظهم الله -
: لله ما أخذ وله ما أعطى.. فاصبروا واحتسبوا.. إن في الله عزاء من كل فائت.. وخلفاً من كل هالك..
فبالله تقووا وإياه فارجو فإن المصاب من حرم الثواب.. وكفاكم فخراً وشرفا أنها خرجت من الدنيا وهي تقول لكم:
(أنا راضية عن الجميع، راضية عن أخواتي وإخواني، راضية عن زوجي، راضية عن أبنائي،
يا أبنائي أنتم بريتوا فيني)،
ربط الله على قلوبنا جميعاً وجبر كسرنا في فراقها، وغفر لها ورحمها وأبدلها داراً خيراً من دارها،
وأهلاً خيراً من أهلها، ووسع مدخلها وأكرم نزلها، وجمعنا بها وبمن مات من أحبابنا في مقعد صدق
مع نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته عند مليك مقتدر،
ورزقنا حسن الاستعداد للموت، وأخرجنا من الدنيا وهو راض عنا غير غضبان،
وقيض لنا حسنات تستمر بعد الممات.


هيفولا:o