المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بعنوان : واقع الأمة في ضوء آية سورة المائدة


حور العين
10-03-2015, 03:47 PM
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خُطَبّتي الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور سعود الشريم - يحفظه الله
خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
واقع الأمة في ضوء آية سورة المائدة
والتي تحدَّث فيها معاليه عن واقع الأمة التي نمرُّ به هذه الأيام،

من خلال إيراده لآية سورة المائدة:
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }

[ المائدة: 3 ]

مُبيِّنًا أن الدين قد اكتمل، ورادًّا على من يُشغِّبون ويُشوِّشون

بأن هناك في الواقع أشياء لا يصلُح الدين لحلِّها،

كما بيَّن أن الإسلام يتعرَّض لأكبر حملة تشويه في العصر الحاضر،

وعِظم الخطط التي تُحاكُ لديار الإسلام، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية

إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه ونتوبُ إليه،

ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له،

ومن يُضلل فلا هاديَ له،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،

وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

[ آل عمران: 102 ]

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا

وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ

إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }

[ النساء: 1 ]

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)

يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }

[ الأحزاب: 70، 71 ].
فيا أيها الناس .. ويا حُجَّاج بيت الله الحرام !

لقد أتمَّ الله لعباده أداء الرُّكن الخامس من أركان الإسلام،

بعد أن وقفُوا بعرَصات المناسِك، وقضَوا تفثَهم،

واطَّوَّفوا بالبيت العتيق، فله وحده - سبحانه - الفضلُ والمنَّة على التيسير والتمام،

كما يسَّره وأتمَّه على من قبلَنا.

ألا وإن هذا التمام المُبارَك - عباد الله - ليُذكِي في خلَدنا طيفَ إتمام الله هذا الدين،

على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في حجَّة الوداع،

التي نُعيَت إليه فيها نفسُه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ قال الله - جلَّ شأنُه -:

{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)

وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }

[ النصر: 1- 3 ].
إنها حجَّةٌ اجتمع فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم – أمران :

أولُهما: الإشارةُ إلى دنُوِّ أجله، والذي أوضحَه النبي صلى الله عليه وسلم

في حجَّة الوداع، بقوله:

( أيها الناس ! اسمَعوا قولي، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا )

والأمرُ الآخر: وهو إتمامُ هذا الدين وإكمالُه، فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم

أن تُقبضَ روحُه وهو لم يُبلِّغ رسالةَ ربِّه بتمامها، لئلا يكون للناس حُجَّةٌ

بأن الدين ناقِص .

لذلك قال سُفيان الثوريُّ - رحمه الله -:

من ابتدَعَ في الإسلام بدعةً يراها حسنةً، فقد زعمَ أن محمدًا خانَ الرسالة؛

لأن الله يقول:

{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }

[ المائدة: 3 ]

ولقد اتفق أئمةُ التفسير أن هذه الآية نزلَت في حجَّة الوداع،

غيرَ أن من المُخجِل - عباد الله - أن يغيبَ عن عقول بعض بني المُسلمين

حقيقةُ هذه الآية بقصدٍ أو بغير قصد، حتى لاكَت ألسنتُهم،

وخطَّت أقلامُهم لوثاتٍ وشُبُهات جادَلُوا بها، فلبَسُوا الحقَّ بالباطل،

واغترَّ بهم من الناس أغرارٌ وإمَّعون تكلَّموا فيما لا يعلَمون، وقرَّروا ما يشتَهون،

زاعِمين أن الإسلام لا يستطيع مُلاءَمة الواقع المُتجدِّد، والأحداث الحضارية المُترادفة،

وأن الخطاب الإسلامي ينبغي أن يتغيَّر، فهو غيرُ صالحٍ لكل زمانٍ ومكانٍ زعموا.

والواقعُ - عباد الله - إنه لعيبٌ كبير وشماتةٌ أيُّما شماتة

أن يكون غير المُسلمين أدرَى بمعنى تلكم الآية ممن وُلد في الإسلام، وترعرَعَ في كنَفِه.

ففي "الصحيحين" عن عُمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه :

أن رجُلاً من اليهود قال له: يا أمير المُؤمنين!

آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا - معشر اليهود - نزلَت لاتَّخذنا ذلك يوم عيدًا،

قال: أيَّ آية ؟

قال:

{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }

[ المائدة: 3 ]

قال عُمر:

قد عرَفنا ذلك اليوم، والمكان الذي أُنزلَت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -،

وهو قائمٌ بعرفة يوم الجُمعة

وإننا - عباد الله - بذكر ذلكم لا ندعُو إلى الاحتفال بذلكم النزول،

كما هي عادةُ من يحرِصون على الصور دون المعاني،

وإنما ندعُو إلى أن تكون تلك الآية نِبراسًا لنا - معاشر المُسلمين -،

وحُجَّةً دامغةً ندفعُ بها مُشاغباتِ أولئك المُتهوِّرين

الذين يُريدون أن يتسلَّلوا من الدين لِواذًا،

بحُجَّة أن في الواقع أمورًا ليس في الدين حلُّها.

وإن ما نسمعُه من أصواتٍ تفُوهُ بمثل ذلكم،

أو نراه بأقلامٍ لم ترقُم بضمير الخشية من الله،

ما هو إلا بعضٌ مما حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون في أعقابِ الزمن؛

فهو القائلُ - صلواتُ الله وسلامُه عليه -:

( إنه من يعِش منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا،

فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجِذ )

رواه أبو داود والترمذي.

ألا إن خيرَ الهدي هديُه - صلواتُ الله وسلامُه عليه -،

وهيهَات هيهَات أن يأتي الخلَف في أعقاب الزمن بخيرٍ

مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -،

وما كان عليه هو وأصحابُه - رضوانُ الله تعالى عليهم -.

وإن من غُربة الدين: أن تلتصِقَ به المُحدثات التي تُشوهِّه جمالَه، وتطمِسُ معالِم سُننه،

في حين إن الدين إنما هو دعوةُ كمالٍ بين تلك المُحدثات، فإذا ما تردَّد أحدٌ بين طريقَين،

دعاه الدينُ إلى خيرهما، وإذا تردَّد بين حقٍّ وباطلٍ، دعاه الدينُ إلى الحق.

فدينُ الإسلام هو أصعبُ الطريقَين، وأحزمُ الأمرَين بالنسبة لأهواء البشر؛

لأن الانحِدار مع الهوَى من السهولة بمكان لا يُحاكِي بها الصعودَ إلى العُلُوّ،

لأن فيه الجدَّ والاجتِهاد،

{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ }

[ المؤمنون: 71 ].

إن الله - جل وعلا - حينما أكملَ لهذا الأمةِ دينَها لم يدَع لها خيرًا إلا دلَّها عليه،

ولا شرًّا إلا حذَّرها منه، فإنه - سبحانه - بعلمِه وحكمتِه

قد أحاطَ ضروريات دين الأمة وحاجياتها وتحسينياتها بسياجٍ منيع،

حتى تبقَى تحت ظلٍّ وارِفٍ من الرِّضا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا،

وبمُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً .

فحينئذٍ لا يخلُصُ إليها ما يُعكِّرُ صفوَها، أو يُقوِّضُ بُنيانَها، فلا تنهشُها أنيابُ المُتربِّصين،

ولا تجرحُها مخالِبُ الماكِرين، شريطةَ أن يشيعَ بين ذَويها روحُ الإخاء، والعدل،

والإنصاف، والإيثار، والشفقة، والتواضُع لله ثم لدينه وخلقِه.

إنها بتحصيل ذلكم - عباد الله - تنجُو من مكر أعدائِها،

وتجتمعُ كلمتُها في الذَّود عن حياضِ الأمة؛

حيث تجمعُهم كلمةُ التوحيد "لا إله إلا الله، محمدٌ رسولُ الله"،

التي لا يُدانيها لغةٌ ولا عِرقٌ ولا أرضٌ ولا لونٌ.

وإنه متى شُوهِد بين بني الأُمة أماراتُ الحُمَّى والسهر

لما يُصيبُها من لأواءَ ومِحَن وتكالُب أعدائِها،

فإن ذلكم أكبرُ دليلٍ على أنها جسدٌ واحدٌ لم تُمزِّقه أدواءُ التنافُر، ولا عِللُ الأهواء،

ولقد صدقَ الله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً

وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }

[ البقرة: 208 ].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،

قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان،

وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ،

فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانه

فاتقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن ما أصابَ الأمةَ من وهنٍ ووهمٍ وهمٍّ

لم يكُن بِدعًا من الأمر، ولا طفرةً لم تُسبَق بمُسبِّباتها،

وإنما هو نتيجةُ شرخٍ في سِياجها المنيع، وثقوبٍ تكاثَرَت في حيطانها،

على حين غفلةٍ من ترميمها وصيانتها، فترادَفَت عليها حلقاتُ الخُطوب،

حتى أصبحَت كل فتنةٍ تحُلُّ بها تقولُ للأُخرى: أختي أختي.

وما أوجاعُ الشام إلا خيرُ شاهدٍ على الطُّغيان والجبَروت والظُلم والبغي،

{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }

[ آل عمران: 57 ].

ألا إن الأمة المُوفَّقة هي تلكم التي تُدرِك أن حسَدَ القريب أو الصديق

قد يفُوقُ في الخُطورة عداوةَ العدوِّ، وإن الأضرارَ التي تطالُها من أغرار بني جِلدتِها،

ممن ضعُف وازِعُهم فغلبَتهم شهواتُهم وشُبُهاتُهم،