المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درس اليوم17.02.1437


حور العين
11-29-2015, 09:19 PM
من:إدارة بيت عطاء الخير
درس اليوم
[ الفصل الرابع: آثار الإيمان
بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى ]
تمهيد

قال الإمام ابن القيم:

(والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر

اقتضاؤها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من

موجباتها ومقتضياتها – أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها –

وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي تقع على القلب والجوارح:

(1) فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق

والرزق والإحياء والإماتة تثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم

التوكل وثمراته ظاهراً.

(2) علمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في

السماوات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما

تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما

لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر

له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفة

غناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر

له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.

(3) وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع

والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية

الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب

له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى

الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها. فخلقه سبحانه وأمره

هو موجب أسمائه وصفاته في العلم وآثارها ومقتضاها؛ لأنه لا يتزين من

عباده بطاعتهم، ولا تشينه معصيتهم. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم

في الحديث الصحيح الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى:

( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني،

ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني )

ذكر هذا عقب قوله:

( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا

فاستغفروني أغفر لكم )

. فتضمن ذلك أن يفعله تعالى بهم في غفران زلاتهم وإجابة دعواتهم،

وتفريج كرباتهم ليس لجلب منفعة منهم ولا لدفع مضرة يتوقعها منهم؛

كما هو عادة المخلوق الذي ينفع غيره ليكافئه بنفع مثله، أو ليدفع عنه

ضرراً، فالرب تعالى لم يحسن إلى عباده ليكافئوه، ولا ليدفعوا عنه ضرراً،

فقال:

( لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني )،

إني لست إذا هديت مستهديكم، وأطعمت مستطعمكم، وكسوت مستكسيكم

وأرويت مستسقيكم، وكفيت مستكفيكم وغفرت لمستغفركم، بالذي أطلب

منكم أن تنفعوني أو تدفعوا عني ضرراً، فإنكم لن تبلغوا ذلك وأنا الغني

الحميد، كيف والخلق عاجزون عما يقدرون عليه، من الأفعال إلا بإقداره

وتيسيره وخلقه، فكيف بما لا يقدرون عليه، فكيف يبلغون نفع الغني

الصمد الذي يمتنع في حقه أن يستجلب من غيره نفعاً، أو يستدفع منه

ضرراً، بل ذلك مستحيل في حقه؟!

ثم ذكر بعد هذا قوله:

( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى

قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم

وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم

ما نقص ذلك من ملكي شيئاً )

؛ فيبين سبحانه أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات

لا يتضمن استجلاب نفعهم، ولا استدفاع ضررهم كأمر السيد عبده،

والوالد ولده، والإمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور، ونهيهم عما يضر

الناهي والمنهي، فبين تعالى أنه المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في

إحسانه إليهم بما يفعله بهم وبما يأمرهم به، ولهذا لما ذكر الأصلين بعد

هذا، وأن تقواهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه

شيئاً، ولا ينقصه، وأن نسبة ما يسألونه كلهم إياه؛ فيعطيهم إلى ما عنده

كلا نسبة، فتضمن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يحسن إليهم بإجابة الدعوات،

وغفر الزلات، وتفريج الكربات لاستجلاب منفعة، ولا لاستدفاع مضرة،

وأنهم لو أطاعوه كلهم لم يزيدوا في ملكه شيئاً، ولو عصوه كلهم لم

ينقصوا من ملكه شيئاً، وأنه الغني الحميد. ومن كان هكذا فإنه لا يتزيد

بطاعة عباده وأمرهم ونهيهم ما يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته، ولو

لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى،

بحسب قواهم وطاقتهم، لا بحسب ما ينبغي له، فإنه أعظم وأجل من أن

يقدر خلقه عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمح به طبائعهم

وقواهم، فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم، ولا أنفع

للعبد منه) .

ويضرب الإمام ابن القيم مثالاً على الآثار المترتبة على عبودية الله تعالى

باسمي الأول والآخر قائلاً: (فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد عن

مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد

سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من

العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك، إنما

هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه

سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من

مجرد فضله، وجوده، لم تكن بوسائل أخرى.

فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبودية

خاصة، وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووقوفه

بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى

الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر

سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول

ولا ينقطع بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يغنى به، كذا نظر العارف إليه

بسبق الأولية، حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء

الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، كل

شيء هالك إلا وجهه، فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من

صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه،

وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب

ولا وسيلة وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره،

وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو الحق وغايته التي

لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته

ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت

إليه عبودياتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد

ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ).

وللتعبد بهذين الاسمين (الأول والآخر) يرى الإمام ابن القيم

أن لهما رتبتين:

الرتبة الأولى: أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء والآخرية بعد كل

شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب من الدنو دون كل شيء

فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب،

والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه.

والرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كل اسم بمقتضاه؛ فيعامل سبقه تعالى

بأوليته لكل شيء وسبقه بفضله وإحسانه، الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك

من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره،

فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم

الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك

في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من

التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون

ما سواه (5) .

وعن سر العبودية وغايتها وحكمتها قال:

(إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ولم يعطلها، وعرف

معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلها. بل هو الإله الحق، وكل إله

سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن

العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها وارتباطها بها كارتباط متعلق

الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة، والأصوات

بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود).

ويذكر الإمام ابن القيم

(أن أعرف الناس بأسماء الله وصفاته أشدهم حباً له، فكل اسم من أسمائه

وصفاته تستعدي محبة خاصة، فإن أسماءه كلها حسنى وهي مشتقة من

صفاته، وأفعاله دالة عليها، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى

كل ما أمر إذ ليس في أفعاله عبث، وليس في أوامره سفه، بل أفعاله كلها

لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل، والفضل، والرحمة، وكل واحد

من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه، ولا يتصور نشر هذا المقام

حق تصوره فضلاً عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له

صلى الله عليه وسلم يقول:

( لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )

ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت

منه المحبة التامة عليها (8)

وبالنظر والتأمل في أجزاء هذا الفصل يتضح لنا عدة أمور أوردها الإمام

ابن القيم وهي لا تخرج عما ذهب إليه أئمة أهل السنة والجماعة، بل هي

أصل فيما ذهبوا إليه من أنه لا بد في الأسماء الحسنى من أركان ثلاثة:

وهي الإيمان بالاسم، وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار.

وهذه الأمور جاءت على النحو التالي:

أولاً: أن الأسماء والصفات مقتضية لآثارها من العبودية اقتضاءها

لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها

ومقتضياتها تعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها.

ثانياً: أن مذهب السلف الصالح قائم على الإيمان بأسماء الله وصفاته،

وبما دلت عليه من المعاني، وبما تعلقت به من الآثار والأحكام .

ثالثاً: أن الوجود خلقاً وأمراً يتعلق بأسماء الله وصفاته، وإن كان العلم بما

والعفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر، وتوبة

تقبل، وجرائم يعفى عنها .

رابعاً: (أن ظهور أحكامها وآثارها لا بد منه إذ هو من مقتضى الكمال

المقدس والملك التام، وإذا أعطيت اسم الملك حقه – ولن تستطيع –

علمت أن الخلق والأمر والثواب والعقاب، والعطاء والحرمان أمر لازم

لصفة الملك، وأن صفة الملك تقتضي ذلك ولا بد، وأن تعطيل هذه الصفة

أمر ممتنع. فالملك الحق مقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب وأمر العباد

ونهيهم وثوابهم وعقابهم).

خامساً: أن لكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها. من

عرفها أثمرت له أنواعاً من العبودية الظاهرة والباطنة

بحسب معرفته وعلمه.

سادساً: من مقتضيات العبودية لله بأسمائه الحسنى التجرد عن مطالعة

الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله

ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان والإنعام عليه من غير وسيلة

من العبد.

سابعاً: أن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط

متعلق الصفات بالصفات، وأعظم الناس سعادة أعظمهم عبودية لله.

ومما تجدر الإشارة إليه... أن معرفة هذه الآثار على التفصيل لا تجب على

كل أحد بل كل بحسبه، فيجب على العالم ما لا يجب على غيره، ولا يعني

هذا أيضاً أن تعرف كل آثار أسماء الله تبارك وتعالى لأن هذا محال على

البشر معرفته، وليس في مقدورهم الإحاطة به علماً، لأنه قد منع من ذلك

فقال عز وجل:

{ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا }

[طه: 110]

أسأل الله لي و لكم الثبات اللهم صلِّ و سلم و زِد و بارك
على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين