المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدارج السالكين ( الجزء الثاني - 04 )


حور العين
08-07-2016, 02:21 PM
من: الأخت الزميلة / جِنان الورد
مدارج السالكين
( الجزء الثاني - 04 )

نبدأ باْذن الله الحلقة الأولي
من مدارج السالكين بين منازل

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

نسخة منقحة
للإمام العلامة : إبن القيم الجوزية


الدرس الأول
مقدمة الكتاب : هداية القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين
مقدمة فيها بيان هداية القرآن

بعد الثناء على الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا عدوان إلا على الظالمين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين
وإله المرسلين وقيوم السماوات والأرضين
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين
الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد

أنزله لنقرأه تدبرا ونتأمله تبصرا ,
ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه
ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه

فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة إليه
ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات
ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات

فهو نور البصائر من عماها
وشفاء الصدور من أدوائها وجواها وحياة القلوب ولذة النفوس
ورياض القلوب وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح

أَسمَع والله لو صادف آذانا واعية ،
وبَصُر لو صادف قلوباً من الفساد خالية
لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء ,
فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها
فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا وتحكمت فيها
فلم تنتفع معها بصالح العمل

سبحان الله !
ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي
واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر؟!

وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟

قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكراً
وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا
وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً
فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا.

فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا

أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله
أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟

هيهات والله

لقد ظن أكذب الظن ومنته نفسه أبين المحال

وإنما ضمنت النجاة لمن حَكّمَ هدى الله على غيره
وتزود التقوى وائتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم
واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى
التي لا انفصام لها والله سميع عليم

فلما كان كمال الإنسان
إنما هو بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق
وبتكميله لغيره في هذين الأمرين

كما قال تعالى :

{ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
[ العصر : 1 , 3 ]

أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان
وقوته العملية بالعمل الصالح وكمل غيره بالتوصية بالحق
والصبر عليه فالحق هو الإيمان والعمل ولا يَتِمان إلا بالصبر عليهما
والتواصي بهما

كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره , بل أنفاسه ,
فيما ينال به المطالب العالية ويخلص به من الخسران المبين
وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه
فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد
والموصل لهم إلى سبيل الرشاد

🖌 ونحن بعون الله ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب
وأم القرآن وعلى بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب
وما تضمنته من منازل السائرين ومقامات العارفين
والفرق بين وسائلها وغاياتها ومواهبها وكسبياتها

وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ولا يسد مسدها
ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل
ولا في القرآن مثلها.

والله المستعان وعليه التكلان
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اشتمال الفاتحة على أمهات المطالب

اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية
أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن

فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء
مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ومدارها عليها وهي:
الله والرب والرحمن

وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة

فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ◀◀◀ مبني على الإلهية
و{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ◀◀◀ على الربوبية

وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة
والحمد يتضمن الأمور الثلاثة
فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته
والثناء والمجد كمالان لجده.

وتضمنت إثبات المعاد وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها
وتفرد الرب تعالى بالحكم بين الخلائق وكون حكمه بالعدل

وكل هذا تحت قوله ◀◀◀ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }

وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة :

أحدها :
كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا
فهذا هضم للربوبية ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به
وما قدره حق قدره من نسبه إليه.

الثاني :
أخذها من اسم الله وهو المألوه المعبود
ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته
إلا من طريق رسله.

الموضع الثالث :

من اسمه الرحمن فإن رحمته تمنع إهمال عباده
فمن أعطى اسم الرحمن حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل
وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ
وإخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب
والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به
حياة الأبدان والأشباح

الموضع الرابع :

من ذكر يوم الدين فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه
بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات ويعاقبهم على المعاصي والسيئات
وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه والحجة
إنما قامت برسله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب .

الموضع الخامس :

من قوله ◀◀◀ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }

فإن ما يعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه ،
لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله
فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ولم يؤمن به
ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به.

الموضع السادس :

من قوله ◀◀◀ { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

فالهداية : هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام.
ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل
فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق
وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إليه وتزيينه في القلب
وجعله مؤثرا له راضيا به راغبا فيه.

* وهما هدايتان مستقلتان
لا يحصل الفلاح إلا بهما وهما متضمنتان :
تعريف ما لم نعلمه من الحق
وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرا وباطنا

ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى
بالقول والعمل والعزم ثم إدامة ذلك لنا
وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.

ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة
فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم
كذلك وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله
فأمر يفوت الحصر ونحن محتاجون إلى الهداية التامة
فمن كملت له هذه الأمور
كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والوئام.

وللهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها
وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة
وهو الصراط الموصل إليها فمن هدي في هذه الدار
إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه
هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه

وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده
في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط
المنصوب على متن جهنم

وعلى قدر سيره على هذه الصراط
يكون سيره على ذاك الصراط :

فمنهم من يمر كالبرق

ومنهم من يمر كالطرف

ومنهم من يمر كالريح

ومنهم من يمر كشد الركاب

ومنهم من يسعى سعيا

ومنهم من يمشي مشيا

ومنهم من يحبو حبوا

* فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط
من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاء وفاقا

{ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
[ النمل : 90 ]

ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره
على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط
تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ }.
[ فصلت : 46 ]

فسؤال الهداية
متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر.

الموضع السابع :
من معرفة نفس المسئول وهو الصراط المستقيم
ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور:

* الاستقامة
* والإيصال إلى المقصود
* والقرب
* وسعته للمارين عليه
* وتعينه طريقا للمقصود .

فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه
لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين
وكلما تعوج طال وبعد واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود

ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته
وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة
صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا.

والصراط تارة يضاف إلى الله إذ هو الذي شرعه ونصبه

كقوله تعالى :

{ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا }

وقوله :

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ }

وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه
وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه.

الموضع الثامن :
من ذكر المنعم عليهم
وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال.

فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به
إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون :
عالما بالحق
وإما جاهلا به

*والعالم بالحق إما أن يكون :
- عاملا بموجبه
- أو مخالفا له

- فالعالم بالحق العامل به
هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع
والعمل الصالح وهو المفلح

{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }

- والعالم به المتبع هواه
هو المغضوب عليه والمغضوب عليه
ضال عن هداية العمل

* والجاهل بالحق
هو الضال والضال مغضوب عليه
لضلاله عن العلم الموجب للعمل

فكل منهما ضال مغضوب عليه
ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به
أولى بوصف الغضب وأحق به

وفي الترمذي وصحيح ابن حبان
من حديث عدي بن حاتم قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون )
صحيح

وصلى اللهم وبارك
على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم

إلي اللقاء مع الجزء الثالث بإذن الله تعالي