المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درس اليوم 5169


حور العين
04-30-2021, 06:46 PM
من:إدارة بيت عطاء الخير

http://www.ataaalkhayer.com/up/download.php?img=9641

درس اليوم


الكَنزُ الثَّمين

هذا الكنز الثمين هو الوقت، الذي يُعدّ راحلةَ الإنسان في سفر الحياة، وطريقه
إلى التمتع بمتع الدنيا، ومجالَه الذي يصل به إلى الآخرة، وهو النعمة التي
تجاهل قدرها كثير من الناس، فضيعوها، فضاع منهم خير كثير،
قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)[1].

أما الذين عرفوا عظمة الوقت فإنهم أكرموه بالحفظ والرعاية، فأكرمهم بثمر
شهي من الأعمال الجبارة التي نتجت عن ذلك الاعتناء - كلٌّ على قدر ما
اعتنى -، ونظرة متتبعة لعظماء الإنتاج الديني والدنيوي - في الماضي
والحاضر - تدل على ما نقول.

عرف الزمانَ ذوو العقول فأسرجوا
هِممًا تتوق إلى العُلوِّ فطاروا
فبدا الصباحُ على نواصي عزمهم
بغنيمةٍ نِيلتْ بها الأوطارُ

إن الوقت ليل ونهار يتسابقان دون توقف، ويسرعان من غير تريث، من
استمهلهما لم يمهلاه، ومن استنظرهما لم يُنظِراه، والوقت للإنسان عمر
واحد لا يقبل التثنية والجمع، فإذا ذهب واحده أتى الإنسانَ ما يوعَدُه،

{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
[المؤمنون: 99، 100].

والوقت حق شخصي صِرفٌ، لا يقبل البيع والشراء، ولا الهبة ولا العطية،
ولا يستدينه أحد من أحد حقيقةً، والوقت غير مؤمن بالعودة، والرجوع
إلى الوراء، فما ذهب منه فلن يعود.

لقد أعطى الله تعالى الإنسان نعمةَ الزمن أرضًا خصبة يزرع فيها الشجر
النافع الذي يطعم من ثمراته اليانعة - إذا زرع وتعهد زرعه بالري - راحةً
في الدنيا، وفلاحًا في الآخرة.

لهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على استثمار الوقت فيما يفيد الإنسان
قبل فجأة الموانع من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(بادروا بالأعمال؛ فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي
كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا) [2]،

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه:
(اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك،
وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [3].

إن الله تعالى قد كتب على المسلمين صيام رمضان لحكم عظيمة، لعل منها:
تعليمهم المحافظة على الوقت، ونبذ ثقافة الفراغ من أذهانهم، ونزع لباس
العبث والكسل والفوضى من أعمالهم.

فرمضان دورة تدريبية تربي المسلم على معرفة شرف الزمان، وكيفية
استثماره، فزمن صيام رمضان محدد في ابتدائه وانتهائه، والإفطار كذلك،
فتناول الطعام والشراب وسائر المفطرات له وقت معلوم، والكف عنها له
أيضًا زمن معين، والفراغ في رمضان - بعد أداء الواجبات - رُغِّب المسلم
في ملئه بالنافع من القول والعمل ليلاً ونهاراً من صلاة نافلة، وتلاوة، وذكر،
ودعاء، وجهاد، وإحسان، وغير ذلك من الأعمال الصالحة والنافعة، إضافة
إلى الأعمال الدنيوية.

كما أن الصيام المشروع يُبنى على التقليل من الفضول من طعام وشراب
ونوم وكلام غير نافع وخلطة؛ لأن هذه الفضول تقتل جزء كبيراً من الوقت
انشغالاً بها، وقطعًا عن غيرها من الأعمال المثمرة، وتركُها يعين
على التوجه للأعمال المرغَّب فيها بقوة ونشاط.

لهذا كله ينبغي للمسلم أن يدرك شرف زمان رمضان، فيملأ فراغه بالعمل
المفيد الكثير، ويزيح عن باله وعن واقعه العملي وجودَ فَضلة وقت، فالوقت
في حياة المسلم كلها - وخاصة في رمضان - كله عمدة.

وما أجملَ أن يكون لدى المسلم في رمضان جدولٌ دقيق يسير عليه، فيجعل
لعمل الدنيا وقتًا، ولقراءة القرآن وقتًا، وللأذكار والدعاء والتعلم والتعليم
وبذل المعروف، وغير ذلك من الأعمال الصالحة أوقاتًا أخرى.

وهذا التنوع المنظم الشامل لزمان رمضان يخفف على الصائم مشقة الصوم،
بل ويجعل لشهر الصيام لذة وراحة، حتى تقضي الروح فيه
وطرها في سعادة غامرة.

وحينما لا يعرف المسلم شرف زمان رمضان، ونفاسة وقته تزداد مساحة
الفراغ لديه فتحدث عنده مشكلات ومفاسد، وإن ملأ جزء من فراغه فقد
يملأه بما لا يفيد، وأعداء الزمن الشريف قد أعدّوا للصائمين عبر وسائل
الإعلام ما يشغلهم عن بركة رمضان، والمسابقة إلى خيراته.

قيل لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم:
" أي شيء قلته أحكم عندك وأعجب إليك؟ قال: قولي:
علمتَ يا مجاشعُ بنَ مَسْعَدَهْ
أنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَهْ
مَفْسَدةٌ للمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ [4]

فإذا انحدر المسلم إلى هذه الهوة السحيقة من معاناته مشكلةَ الفراغ،
والانصراف إلى بذل الوقت النفيس في المحرمات أو التفاهات؛ فإنه تعظم
خسارته البدنية والروحية، فالصيام سيثقل عليه حتى تطول عليه الأيام،
ويجثم عليه ملال الطاعة، ويغدو يشكو من تخمة الفراغ المضني، ليستغيث
من ذلك بالتخبط في الشوارع وأماكن اللهو خصوصًا بعد الظهر وبعد
العصر، ملقيًا عن كاهله عبء الوقت وضيقه، فإذا جاء الليل نبض فيه عرق
الحياة الغافلة، وانقدح في ذهنه زند اللهو المتقد، فصار عاكفًا في محاريب
الغفلة، أمام قناة أو جوال، أو في مجلس للسمّار في غير طاعة، وهذا دأبه
حتى يخرج رمضان فيكون في قائمة الخاسرين.

ومن ترك الزمانَ بغير بذرٍ
سيحصد عند يقظته الندامه
وغرسُ السوء يثمر كلَّ سوء
وغرس الخير يَبسُم بالسلامه

[1] رواه البخاري.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه البيهقي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[4] لباب الآداب، للثعالبي (ص: 172).


أسأل الله لي و لكم الثبات اللهم صلِّ و سلم و زِد و بارك
على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين

ر