المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موسوعة المؤرخين (75)


حور العين
07-05-2021, 05:15 PM
من :الأخت / الملكة نور
موسوعة المؤرخين (75)



ابن إسحاق شيخ مؤرخي السيرة النبوية
كان ابن إسحاق ومازال إمام المغازي والسير، وهو حافظ علامة، أحد
من دار عليهم الحديث والإسناد، وقد أثنى عليه في علم المغازي والسير،
غير واحد من شيوخه وأقرانه والأئمة عبر العصور.

نسب ابن إسحاق ونشأته
أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، القرشي المطلبي مولاهم
المدني صاحب السيرة النبوية، ولد سنة 80 هـ، وكان جده يسار من سبي
عين التمر (بلدة غربي الكوفة، فتحت في أيام أبي بكر على يد خالد بن الوليد
في سنة 12هـ، وكان فتحها عنوة)،وكان مولى قيس بن مخرمة
بن المطلب بن عبد مناف رضي الله عنه، وتوفي سنة 151هـ .

علم ابن إسحاق
رأى ابن إسحاق رحمه الله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وسالم
بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وطاف البلاد، وسمع من جمع كبير
في مصر، والحجاز والعراق، والري وما بينها، ومنهم: أبوه، وعمه
موسى بن يسار، وأبان بن عثمان، والأعرج ومحمد بن إبراهيم التيمي،
ومكحول، ونافع العمري، وأبو سلمة بن عبد الرحمن والزهري،
وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم،
ومحمد بن المنكدر، وطاوس بن كيسان رحمهم الله.

وحدَّث عنه شيخه يزيد بن أبي حبيب، ويحيى بن سعيد الأنصاري –
وهما من التابعين- وشعبة والثوري، والحمادان، وأبو عوانه، وهشيم،
وسفيان بن عيينة، وخلقٌ كثير.

قال محمد مسلم بن شهاب الزهري، وقد سئل عن مغازيه،
فقال: هذا أعلم الناس -يعني محمد بن إسحق.

وروى حرملة عن الشافعي قال: "من أراد أن يتبحر في المغازي فهو
عيال على محمد بن إسحاق". وقال شعبة: "محمد بن إسحق أمير
المؤمنين في الحديث".

وجاء عن البخاري قوله: "محمد بن إسحق ينبغي أن يكون عنده ألف
حديث ينفرد بها لا يشاركه فيها أحد". قال ابن سعد في الطبقات: "كان
محمد بن إسحق أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وألَّفها، وكان يروي عن عاصم ابن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان،
ومحمد بن إبراهيم، وغيرهم ويروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير،
وكانت امرأة هشام بن عروة، فقال: هو كان يدخل على امرأتي ؟ كأنه أنكر ذلك".

وخرج من المدينة قديمًا فلم يروِ أحد منهم عنه غير إبراهيم بن سعد،
وكان ابن إسحق خرج مع العباس بن محمد إلى الجزيرة، وأتى أبا جعفر
المنصور بالحيرة، فكتب له المغازي، فسمع منه أهل الكوفة بذلك السبب.
وسمع منه أهل الجزيرة، وأتى الري فسمع منه أهل الري، فرواته في
هذه البلدان أكثر ممن روى عنه من أهل المدينة. وكان كثير الحديث،
وقد كتبت عنه العلماء، ومنهم من يستضعفه.

كلام العلماء في ابن إسحاق
وقد تكلم فيه مالك وهشام بن عروة، واتُهم بغير نوع من البدع، ودافع
عنه عدد من العلماء بدءًا بالبخاري. قال البخاري: "والذي يذكر عن مالك
في ابن إسحاق لا يكاد يبين أمره، وكان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع
من رأينا لمالك، أخرج إلي كتب ابن إسحق عن أبيه في المغازي وغيرها
فانتخبت منه كثيرًا.
ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحوَ ما يذكر
عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان
قبلهم، وتناول بعضهم في العرض والنفس. ولم يلتفت أهل العلم في هذا
النحو إلا ببيان وحجة، ولم تسقط عنه التهم إلا ببرهان ثابت وحجة،
والكلام في هذا كثير"، اتهى كلام البخاري.

وقال أبو زرعة الدمشقي: "محمد بن إسحاق رجل قد اجتمع الكبراء
من أهل العلم على الأخذ عنه، منهم سفيان، وشعبة، وابن عيينة ..،
وروى عنه الأكابر: يزيد بن أبي حبيب، وقد اختبره أهل الحديث فرأوا
خيرًا وصدقً،ا مع مدحة ابن شهاب له. وقد ذاكرت دحيمًا قول مالك
-يعني فيه- فرأى أن ذلك ليس للحديث، وإنما هو لأنه اتهمه بالقدر".
وقد بحث ابن عدي في مروياته، وفتش في أحاديثه، وتقصى الأقوال
فيه، وقال: "ولمحمد بن إسحاق حديث كثير، وقد روى عنه أئمة الناس
..، وقد روى المغازي عنه: إبراهيم بن سعد، وسلمة بن الفضل، ومحمد
بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأموي، وسعيد بن بزيع، وجرير بن حازم،
وزياد البكائي وغيرهم".

ثم قال ابن عدي: "ولو لم يكن لمحمد بن إسحق من الفضل إلا أنه
صرف الملوك عن كتب لا يحصل منها شيء فصرف أشغالهم حتى
اشتغلوا بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبتدأ الخلق، ومبعث
النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه فضيلة لابن إسحق سبق بها. ثم بعده
صنفها قوم آخرون، فلم يبلغوا مبلغ ابن إسحق منها.

وقد فتشت أحاديثه الكثيرة، فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه
بالضعف وربما أخطأ أو وهم في الشيء بعد الشيء كما يخطئ غيره،
ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به"
(ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال، ترجمة رقم 1623).
لقد أخذ ابن إسحق زمام الزعامة في علم المغازي والسير، وسار به
إلى يوم الدين فكل من جاء بعده كان عالة عليه كما يقول الشافعي.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "وهو أول من دون العلم بالمدينة،
وذلك قبل مالك وذويه، وكان في العلم بحرًا عجاجًا، ولكنه ليس بالمجود
كما ينبغي". وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: "إمام المغازي،
ولهذا علق عنه البخاري في صحيحه، وروى له مسلم مقرونًا بغيره،
وأخرج له غيرهما".

منزلة السيرة النبوية لابن إسحاق
لقد بلغ ابن إسحاق في تصنيفه الذروة في علم السيرة من حيث الحشد
والجمع والتنقير ثم من حيث المنهج إذ بدأ بالمبعث وما قبله، ثم بالمغازي
واحدة تلو أخرى، ولهذا فقد انتشر مصنفه في عصره، وما تلاه في شرق
الأرض وغربها. درسه الدارسون من نواح عديدة قديمًا وحديثًا، وبقيت
سيرته عبر العصور أم المصنفات في هذا الباب، وإليها المرجع على
الدوام، وإن كانت هنا انتقادات وملاحظات، ولقيت من العناية والرعاية
مالم يلقه كتاب آخر في السيرة، بل أستطيع أن أقول: "إن ما كتب
من كتب السيرة بعده كان هالة حول هذا الكتاب".

فابن سعد تلميذ الواقدي الذي جعل كتاب ابن إسحاق موازيًا لكتاب
شيخه الواقدي، ومرورًا بالأعلام بعد ابن سعد عبر القرون وإلى يومنا
هذا، مما يؤكد كلمة ابن عدي أن هذه الفضيلة سبق بها ابن إسحاق
ولم يبلغ من بعده مبلغه.

ملاحظات على سيرة ابن إسحاق
ودون أن أمرُّ على تأثير كتاب ابن إسحاق ومغازيه فيمن جاء بعده،
أبدي ملاحظات حول أهمية كتاب ابن إسحق، فأقول:
1- إن ابن إسحق لم يلتزم بالإسناد في قسم من أخباره، ولم يضع
شروطاً معينة لتلقي أخبار السيرة من رجال معينين، أو كيفية معينة،
ولهذا كان كثير السؤال والتطلاب لأخبار السيرة والمغازي حتى اشتهر
بذلك، فكان يأتيه أبناء البيوتات والأسر ليحدثوه عن أمجاد آبائهم،
ويحملون له في ذلك أشعارًا قيلت في المناسبات التي يتحدث عنها
وبخاصة الغزوات، فيرويها له في كتابه، حتى جاء النقاد بعده، وقالوا:
إن كثيراً من هذه الأشعار غير صحيح. واضطر ابن هشام وغيره من بعده
لحذف كثير من هذه الأشعار والأخبار، ولكن ابن إسحق جمع الجزئيات مع
الكليات، فأطال وأطال، ولهذا عرَّض به مالك، وأثنى على موسى بن عقبة
بأن عمله مختصر غير طويل كغيره، -أي ابن إسحاق.

2- إن سعة علم ابن إسحق وتطوافه في البلاد، وبحثه عن العلم،
وتفوقه على أقرانه، واستناده إلى بيان مشرق، وقلم سيال، وكلمة وضاءة
وتصوير بارع للأحداث جعلت عمله يحظى بالقبول عند جُلِّ معاصريه ومن
جاء بعده، وسار مسير الشمس في الأرض، وقد أشاد بهذا غير واحد ممن
اقتفى أثره، وانتحى نحوه. ومنهم الأديب البليغ، الكلاعي في كتابه
"الاكتفاء في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء"،
حين جعل اعتماده ابن إسحاق دون الواقدي، بقوله: رأيته كثيرًا ما يجري
مع ابن إسحاق، فاستغنيت عنه لفضل فصاحة ابن إسحاق في الإيراد،
وحسن بيانه الذي لا يعقل معه استحسان المعاد". وقد قام الخشني
في شرح السيرة، وكذلك السهيلي، وهذا يدل على قوة النص الذي قدمه
ابن إسحق.

3- وهذا يقودنا إلى الأمر الثالث في عمل ابن إسحاق ألا وهو صياغة
السيرة بتسلسل منهجي، وتتابع تاريخي، وكان عصره مبتكرًا يدلف
بالقارئ أو المستمع من خبر إلى تابعه، ومن غزوة إلى أخرى فكانت
السيرة النبوية من الولادة إلى الهجرة إلى الغزوات المصطفوية قد سلكت
أمام القارئ في سلك واحد، وكأنه يراها رأي العين.

والأمر الذي يجب أن يلاحظ في تأريخ علم السيرة النبوية أن منهجية
ابن إسحاق هي التي صبغت جميع المؤلفات في هذا العلم، وبقيت تقفو أثر
ابن إسحاق، وهذا شيء في غاية الأهمية والقيمة والقدر المتجدد لعمل
ابن إسحق أبرزِ كاتبٍ في السيرة النبوية عبر العصور وهو من
رجال القرن الثاني.

4- ولما لم يلتزم ابن إسحاق الإسناد في كل أخبار السيرة، بل كان همُّه
جمعَ أطراف الأخبار في الحدث الواحد وسوقها في كلياتها وجزئياتها
مساقاً واحداً قاصداً إعطاء أكبر التفصيلات، هذا جعل بذلك السيرة التي
صنفها في السيرة النبوية قصة متكاملة شاملة، قريبة للقارئ والمستمع،
سهلة للفهم والتلقين والحفظ، وهذا سَهَّل لها القبول والانتشار في كل
الأوساط العلمية المتخصصة وغير العلمية، وغدت في كل بيت.

وقد حاول غير واحد أن يسلك مسلكه كما فعل الواقدي، وابن حبان
وغيرهما من بعده، وهذا مما جعل عمل ابن إسحق عمدة لهذا العلم بوجه
أو بآخر ولأجله قال ابن سيد الناس في صدر سيرته التي لقيت بدورها
القبول والثناء: "وعمدتنا فيما نورده من ذلك على محمد بن إسحق
إذ هو العمدة في هذا الباب لنا ولغيرنا".

وخلاصة القول: فإن ابن إسحاق -مهما قيل في نقده- قد ارتقى
بالتصنيف في السيرة النبوية مرتقى رفيعاً، وخلد بعمله علمًا عظيمًا،
وفتح بابًا للخير كبيرًا، وسبق الناس في هذا المهيع سبقًا مبينًا، وأرسى
ركنًا ركينًا بنى من جاء بعده عليه، ونحا نحوه فيما يهدف إليه،
فرحمه الله رحمة واسعة.