المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درس اليوم 5950


حور العين
10-15-2023, 11:05 AM
من:إدارة بيت عطاء الخير
http://www.ataaalkhayer.com/up/download.php?img=9641

درس اليوم

فرشي التراب يضمني

قصة حقيقية عشت أحداثها لشاب توفي قبل عشرين عامًا تقريبًا وهو في

العشرينيات من العمر، كان يعمل مع والده صباح ومساءً كل يوم وليلة دون

مقابل غير أكله وشربه مع والدته وإخوته الذين يتهيبون من مطالبة والدهم

رب الأسرة بأبسط احتياجاتهم الضرورية غير ما يقرره هو لهم اتقاء غضبه،

وكان هذا الشاب يرى أترابه وخلانه يُروِّحون عن أنفسهم، ولهم مساحة

واسعة من صلاحية ممارسة الاستقلال الذاتي والمعيشي يرجو مثلها النزر

اليسير مع التزامه بالشروط والمعايير التي يفرضها والده عليه مقابل

السماح له بهذه المساحة من الحرية الشخصية والاكتفاء بها، لكنه لم يجدها،

ومرت الأيام وزوَّجه والده من عائلة اختارها له وأنجبت الزوجة له بنتين

لم يهنأ معهما قليلا إذ فارقهما وارتحل إلى ربه الأرحم به من نفسه ووالده

وأهله والناس أجمعين.



نعم، ارتحل ولا أتذكر أنه كان يعلم أن له بنتًا ثالثة في رحم زوجته لتعيش مع

أختيها يتيمات الأب الذي كان قبل وفاته كلما خلا بنفسه يشرد مع كلمات هذه

الأنشودة المؤثرة التي تحكي في طياتها أمواجًا عارمة من الشجن والأسى

والآلام النفسية التي لم يَبُح بها لأحدٍ؛ لأنه كان كتومًا ﻻ يظهر تسخطه مما

يكره، وكنا نعجب له كيف لشاب في مثل عمره يحب الغوص في محيط بحر

هذه الكلمات التي تعبر عن عشقه لافتراش التراب وحنينه للضم والاحتضان

الذي يبدو أنه لم يجده في عالم الدنيا برغائبها ولذائذها وشهواتها ووجده

في تراب يغيبه عن كل ذلك!.



فرشي التراب يضمني وهو غطائي، هكذا تبتدئ هذه الأنشودة التي كانت

تأسره وتأخذه في رحلة هي أقرب ما يكون من البوح المبطن لما يحب

أن يطلع عليه الآخرون دون الحاجة لأن يصرح بها ويبين.



أدركت هذه المعاني وهذه الرسالة متأخرًا ووجدت إيضاحًا للتساؤل الذي كنت

عاجزًا عن فهم إجابته، لماذا يحب هذه الكلمات كثيرًا واختارها دون سواها؟

لكنني فهمتها بعد حصولي على المزيد من المعلومات التي أوصلت هذا

الشاب إلى هذا الخيار الوحيد من بين أترابه، لقد كان يعايش يوميًّا ضغوطات

قاسية من خارج البيت في العمل حين بدأ والده يثير الشكوك والارتياب في

نزاهته وأمانته ويحمله المزيد من تبعات مشاكل العمل ويجد في البيت

ضغوطات الزوجة التي تعيب عليه عدم مطالبة والده براتب ومصاريف تجعل

منه رجلا كبقية الرجال له زوجة وبنات يوفر لهن احتياجاتهن دون الرجوع

لوالده وكذلك كانت تطالبه بالخروج من تحت جناح والده في العمل والسكن

وهو تمرد غير معلن لم يكن له القدرة حتى على التفكير فيه، ولم يكن له من

الأعمام أو الأخوال من يجده سندًا له يخفف عنه أو يستمع له ويستره إن لم

يجد سبيلا لإعانته.

هكذا يبدو لي المشهد، مشهد من تصرخ أنات نفسه المرهقة: أنا الحي

الميت.. أهلي أين حنانهم؟ هل يحسون حرماني من راحة البال وصلاح

الخاطر؟ أم باعوني بانغماسهم في لذائذهم المترفة!.



أصحابي.. هل عذروني في انعزالي الإجباري عن مرافقتهم ومعايشتهم؟ أم

يروني لست أهلا لإخائهم ومصاحبتهم!



وأين هناء المال الذي يتحدثون عنه وأنا لم ألمسه يومًا ولم أعايشه للحظة

واحدة؟! بل إني متهم به وبيني وبينه جفاء وأي جفاء!.



هذه القصة تلخص استبداد بعض أرباب العائلات والأسَر بإدراك منهم وعلم

أو بجهل ونفسيات مريضة توارثوها جيلا إثر جيل، فليتق الله أرباب الأسر

والعائلات فيما وراءهم من أولاد وأحفاد وليقرأوا سورة يوسف ويتأملوها

جيدًا ففيها من الدروس والعبر ما يجعلنا نراجع خياراتنا وقراراتنا الأسرية

والعائلية، فكم من يوسف في كل بيت وعائلة؟! وكم من إخوة يوسف في كل

بيت وعائلة؟! ومربط الفرس فيها قول إخوة يوسف كما نقلها عنهم القرآن:

﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ

إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ

وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 8، 9].


أسأل الله لي و لكم الثبات اللهم صلِّ و سلم و زِد و بارك
على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين