المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الوعيد الشديد المترتب لمن ترك الهجرة


adnan
12-29-2012, 07:46 PM
الأخ / الصبر ضياء - الفرج قريب


الوعيد الشديد المترتب لمن ترك الهجرة


{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }

هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات،
فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم،
ويقولون لهم:

{ فِيمَ كُنْتُمْ }
أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟
بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير،
والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.

{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض }
أي: ضعفاء مقهورين مظلومين،
ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله
وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها،
واستثنى المستضعفين حقيقة.


ولهذا قالت لهم الملائكة:

{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا }
وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة،
فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه،
فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله،
كما قال تعالى:

{ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }
قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم:

{ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }
وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه،
مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع.

وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات،
بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى
ما قدر له من الرزق والأجل والعمل،
وذلك مأخوذ من لفظ " التوفي" فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي
عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا.


وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على
وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله.
ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة
بوجه من الوجوه

{ وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا }
فهؤلاء قال الله فيهم:

{ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }
و "عسى" ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه،
وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة،
وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي،
بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم.
وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره
فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد:

{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }
وقال في عموم الأوامر:

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:

( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )
ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله:

{ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً }
وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج
إلى سفر من شروط الاستطاعة.



{ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح،
فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته،
أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين،
والسعة على مصالح الدنيا.
وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة،
وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد العز، وشدة بعد الرخاء.

والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في
غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها،
ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك،
لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يفتن عن دينه، خصوصا
إن كان مستضعفًا.
فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم،
فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل،
وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى.
واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله
وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله،
كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر
لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على
ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل من
فعل فعلهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة.

ثم قال:

{ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
أي: قاصدا ربه ورضاه، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله،
لا لغير ذلك من المقاصد

{ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ }
بقتل أو غيره،

{ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي
أدرك مقصوده بضمان الله تعالى،
وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل،
فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل،
وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها.


ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال:

{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات،
خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم.

{ رَحِيمًا }
بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال
والبنين والقوة، وغير ذلك. رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان،
وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة
والفلاح وما به يدركون غاية الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه
ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،
فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا.

المصدر
كتاب:
«تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان»
للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي