المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بعنوان : غزوة أُحُد و بشائر النصر


adnan
01-13-2013, 05:07 PM
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله –
خطبة الجمعة بعنوان:

غزوة أُحُد و بشائر النصر

والتي تحدَّث فيها عن غزوة أُحُد وبعض الوقفات والعِبَر والتأمُّلات،
وبيَّن أنها ليست مجرَّد قصةٍ ذهبَت وانقضَى زمانُها؛
بل إن أحداثَها تتكرَّر في زماننا هذا وفي كل زمانٍ،
وينبغي على المُسلمين التنبُّه لأحداثِها وتركِ المُخالفات
لأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقَعوا فيما وقعَ فيه سلَفُهم.



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين،
ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى،

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
[الحديد: 28].

أيها المسلمون:

يعيشُ العالمُ اليوم أحداثًا كُبرى، وتحوُّلاتٍ تاريخيَّة هائلة،
وآلامًا تضيقُ بها النفوسُ، تموجُ الأرضُ بالفتن والتحوُّلات في النُّظم
وفي المُعتقَدات، في تسارُعٍ يدَعُ الحليمَ حيرانًا. فتنٌ كقطع الليل المُظلِم،
ولا عاصِمَ اليوم من أمر الله إلا من رحِم. ونحن أمةُ دينٍ وأتباعُ رسالة،
وفي أيدينا كتابٌ وسنةٌ.

ومعجزةُ القرآن الخالِدة: أنه نزل قبل أربعة عشر قرنًا، وخاضَ بهذه الأمة
معركةً كُبرى حوَّلت تاريخَها وتاريخَ البشريَّة كلَّه معها،
ومع ذلك فهو يُعايِشُ الحياة الحاضِرة
وكأنَّما هو يتنزَّلُ اليوم لتوجيه المُسلمين في أحداثِهم الراهِنة،
وفي صِراعهم مع الأحداث حولَهم.

أيها المسلمون:

{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ }
[آل عمران: 137، 138].
إن القرآن ليربِطُ حاضِر الأمة بماضِيها، فيرسُمُ بذلك مُستقبلَها.

عباد الله:

تلكم الآيات الماضِيات نزلَت في معركة أُحُد، والتي وقعَت في شهر شوال
من السنة الثالثة من الهِجرة؛ وذلك أن المُشركين أرادوا الانتقام لهزيمتِهم
في بدرٍ، فحشَدوا جيشَهم ثلاثة آلاف مُقاتلٍ على أطراف المدينة،
واستشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، وكان يُريد التحصُّن
في المدينة، لكنَّ كثيرين ألحُّوا على الخروج،
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائةٍ من أصحابه بعد
أن قام رأسُ المُنافِقين بتخذيل الناس والرجوع بثُلُث الجيش،
فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن بقِيَ معه عند جبل أُحُد،
وجعل الرُّماةَ على مُرتفعٍ وأمرَهم ألا يبرَحوا مواقِعَهم.

ودارَت رحا المعركة، وانتصَر المُسلمون في بادِئ الأمر،
حتى فرَّ المُشرِكون وسقَط لواؤُهم، واستعجلَ بعضُ الرُّماة فنزَلوا من الجبل
يظنُّون الأمرَ انتهى، ثم التفَّ المُشرِكون وكرُّوا على المُسلمين من خلفِهم،
فقتلُوا سبعين من خِيار الصحابة المؤمنين،
وشجُّوا رأسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسَروا رباعيَّته،
وأشاعُوا أنهم قتَلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -،
فأوقعَ ذلك في قلوب المؤمنين حُزنًا عميقًا، وألمًا شديدًا، وهزيمةً وانكِسارًا.

ثم أشاعَ المُشرِكون أنهم سيقصِدون المدينةَ،
فنادَى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجرحَى والمُنهَكين المُصابِين،
فاستجابُوا للنداء على ما بِهم من الجِراحات، ونفَروا لمُناجَذة العدو،
وصدَقوا مع العدوِّ ولم يأبَهوا للمُخذِّلين.

وصدَرَت خلال ذلك مقالاتٌ وعبارات، ومواقِفُ وبُطولات،
وانتِكاساتٌ وانكِسارات، ونزل في هذه الواقِعة قرآنٌ يُتلَى إلى يوم القيامة،
ستون آيةً من سورة آل عمران ليست مجرد تأريخٍ لواقعةٍ مضَت وانتهَت،
وإنما يعيشُ قارِئَها تلك الأحداث، ويرى المُسلمين ومن حولهم أعداؤُهم
يتربَّصُون بهم، ويُبيِّتون لهم، ويُلقون بينهم بالفِرية والشُّبهة،
ويتحاقَدون عليهم، ويجمَعون لهم، ويلقَونهم في الميدان، وينهزِمون أمامَهم،
ثم يكِرُّون عليهم فيُوقِعون بهم. فما أشبهَ الليلة بالبارِحة.

أيها المؤمنون:

{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }
[آل عمران: 140، 141].
إن تعاقُب الشدَّة والرخَاء تكشِفُ معادِن النفوس وطبائِع القلوب،
ودرجة الهلَع فيها والصبر، ومدَى الثِّقَة فيها بالله أو القُنوط.

وإن من مصلَحة الأمة أن تُصابَ برجَّاتٍ عنيفةٍ تعزِلُ الخبَثَ عنها،
وقد اقتضَت حكمةُ الله أن يقعَ هذا التمحيصُ في أُحُد،

{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ }
[آل عمران: 179].

ومُداولةُ الأيام، وتعاقُبُ الشدَّة والرخاء محكٌّ لا يُخطِئُ، وميزانٌ لا يظلِم.

وفي معركة أُحُد انكشَفَت عورةُ المُنافِقين، وظهرَ أثرُهم كما هو في كل زمانٍ،
يستغِلُّون أوقاتِ الضعفِ لبلبَلَة القلوب، وخلخلَة الصُّفوف، وإشاعة الخَوَر،
مع إثارة الفتن والشُّبُهات لهَدم كِيان المُجتمع المُسلم، بدءًا بعقيدته وقِيَمه،
حتى يستسلِم للأقوياء الغالِبين.

وكانت آثارُ المعركة تمحيصًا للنفوس، وتمييزًا للصفوف،
وتحرُّرًا من تمييع القِيَم وتأرجُح المشاعِر؛
وذلك بتميُّز المُنافِقين ووضوحِ سِماتِهم.

ولئِن نجحَ ابنُ أُبيٍّ في التأثير على ثُلُث الناس حتى رجَعوا إلى المدينة
وتخلَّوا عن نُصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقد صمَدَت صفوةٌ نقيَّةٌ،
حمَلَت أعباءَ الدين، وأنفقَت وقاتَلَت، وصبَرَت وصابَرَت

{ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }
[الأحزاب: 23].
بجِهادِهم وتضحياتِهم حفِظَ الله مصيرَ الإسلام في أول الزمان،
وبمثلِ بُطولتهم وثباتِهم وصبرِهم يحفظُ الله وجودَ الإسلام في آخر الزمان.

أيها المسلمون:

لقد كان الله - سبحانه وتعالى - قادرًا على أن ينصُر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم
- ودينَه وأولياءَه منذ اللحظةِ الأولى، وأن يُهلِك أعداءَهم بلا كدٍّ من المؤمنين
ولا عناءٍ، ولكنَّ الله تعالى أراد تربيةَ المُسلمين ليُبتلَوا، وليقُودوا البشريَّةَ
قيادةً راشِدةً على ما تحمِلُه البشريةُ من شهواتٍ ونزَواتٍ وانحرافٍ.

وهذه القيادةُ تقتضِي صلابةً في الدين، وثباتًا على الحق، وصبرًا على الشدائد،

{ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ }
[ محمد: 4].
هذه سُنَّةُ الله؛ الابتلاءُ قبل التمكين.

عباد الله:

وقبل أن تمضِي الآياتُ في عرضِ المواقفِ في معركة أُحُد؛ يُذكِّرُ الله
بالمعركة التي انتهَت بالنصر، وهي معركةُ بدرٍ الكُبرى،
لتكون هذه أمام تلك مجالاً للمُوازَنة وتحمُّل أسباب النصر وأسباب الهَزيمة،

{ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ }
[آل عمران: 125].

{ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا }
إنه الصبرُ والتقوى بكل معانيها ومعالِمِها، وذلكم هو سرُّ النصر.

أيها المؤمنون:

وفي سُورة آل عمران وفي غمرة التوجيهات واللَّفَتات يُحذِّرُ الله من دسائِسِ
أهل الكتاب، ولم يكن يُجاوِرُهم في المدينة إلا اليهودُ، ويُحذِّرُ الله من الرُّكون
إلى الكافِرين أو طاعتِهم، ونصفُ السورة الأول يُصوِّرُ جانِبًا من جوانِبِ
الصِّراع بين العقيدة الإسلامية والعقائِد المُنحرِفة، ويُحاجُّ أهلَ الكتاب ويُناظِرُهم،
ويُحاوِرُهم ويردُّ شُبُهاتهم. وهو ليس جِدلاً نظريًّا فحسبُ؛
إنما هو جانِبٌ من المعركة الكبيرة الشامِلة بين المُسلمين وأعدائِهم الذين
يتربَّصُون بهم، ويتحفَّزون من حولهم، ويستخدِمون في حربِهم كلَّ الأسلِحة
وكلَّ الدسائِس والوسائل،
وفي أولِها: زعزعةُ العقيدة، وهي ذاتُها المعركةُ التي ما تزالُ ناشِبةً
إلى هذه اللحظة بين المُسلمين وأعدائِهم.

وفي ثنايا الآيات يُحذِّرُ اللهُ من الرِّبا ويأمُرُ بالتقوى والمُسارَعة إلى الجنة،
وتطهير النفوس وتقوية القلوب، والسيطرة على الأهواء والشَّهوات،
ويحُثُّ على الصدقة والعفو، وإشاعة الوُدِّ والتسامُح والإحسان،

{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
[ آل عمران: 134].

فالنفسُ لا تنتصِرُ في الحروبِ إلا حين تنتصِرُ في القِيَم والمبادِئ،
والذين تولَّوا يوم التقَى الجمعَانِ في أُحُد إنما استزلَّهم الشيطانُ ببعضِ
ما كسَبُوا من الذنوب، والذين انتصَروا في معارِك العقيدة وراء أنبيائِهم
هم الذين بدؤُوا المعركةَ بالاستِغفار من الذنوب، والالتِجاء إلى الله، والتطهُّر من المعاصِي.

ولعلَّ ما ترتَّبَ على عِصيان الرُّماةِ لأمر الرسول القائِدِ في معركة أُحُد
درسٌ عميقٌ يتعلَّمُ منه المُسلمون في كلِّ مواجهةٍ قيمةَ الطاعة،
وأن الجماعةَ التي لا يحكُمُها أمرٌ واحدٌ ويغلِبُ على أفرادِها وطوائِفِها
النزاعاتُ الفردية لن تنجحَ في معركةٍ، ولن تُفلِحَ في مُواجهةٍ،
ما لم تتَّفِق على رغبةٍ واحِدةٍ ووِجهةٍ واحِدةٍ،
وما لم تُخمِدْ كلَّ شُذوذٍ يحصُلُ في صُفُوفِها.

ولما دُهِشَ المُسلِمون للكارِثة التي قلَبَت عليهم الأمورُ قال الله لهم:

{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا
قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
[آل عمران: 165].

عباد الله:

إن المُؤمنين مهما أصابَهم في سبيلِ الله فإنهم لا يفقِدون صِلتَهم بربِّهم،
وثِقَتَهم بوعدِه الصادقِ لجُندِه بأنهم هم الغالِبون، وأن لن يخذُلَهم؛
بل سوف ينصُرُهم ويُؤيِّدُهم ويُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائِهم، ويُظهِرُهم عليهم.

ولقد تركَت معركةُ أُحُدٍ آثارًا غائِرةً في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -؛
أُصيبَ في بدنِه إذ كُسِرَت سِنُّه، وجُرِحَ وجهُه، وشُجَّ رأسُه،
فلم تزَل دماؤُه الزكِيَّةُ تسيلُ على وجهه الطاهِر حتى أُحرِقَت قطعةٌ من
حصيرٍ فأُلصِقَت به، وأجهدَه العطشُ حتى جعلَ يقعُ على رُكبتَيْه،
وأُصيبَ في أتباعِه؛ إذ أودعَ في سفْحِ الجبل سبعين رجلاً من أعزِّ الناس
عليه وأقربِهم إلى قلبِه، وهو يقول:

( أما واللهِ لوِددتُ أني غُودِرتُ مع أصحابِي بنحصِ الجبلِ ).

وأُصيبَ في أهلِه؛ حين أُخبِرَ بمقتل عمِّه حمزة، فوقفَ عليه وقد بُقِر بطنُه
وجُدِعَ أنفُه ومُثِّلَ به، فكرِهَ أن ينظُرَ إليه

بَيْدَ أن التسليمَ لله لم يلبَثْ أن مسحَ الأحزانَ العارِضة،
وعادَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقَّدُ أصحابَه، ويُخفِّفُ ما نزلَ بهم،
ويسكُبُ من إيمانِه على نفوسِهم ما يملؤها عزاءً ورِضًا عن الله،
واستِكانةً لقضائِه.

عن رِفاعة الزُّرقيِّ - رضي الله عنه - قال:

( لما كان يومُ أُحُد وانكفَأ المُشرِكون،
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه:
استَوُوا حتى أُثنِيَ على ربِّي
فصارُوا خلفَه صُفُوفًا،
فقال: اللهم لك الحمدُ كلُّه، اللهم لا قابِضَ لما بَسَطتَّ، ولا باسِطَ لما قبضتَ،
ولا هادِيَ لما أضلَلتَ، ولما مُضِلَّ لمن هدَيتَ، ولا مُعطِيَ لما منَعتَ،
ولا مانِعَ لما أعطَيتَ، ولا مُقرِّبَ لما باعَدتَ، ولا مُباعِدَ لما قرَّبتَ،
اللهم ابسُط علينا من بركاتك ورحمتِك، وفضلِك ورِزقِك،
اللهم إني أسألُك النعيمَ المُقيمَ الذي لا يحولُ ولا يزولُ،
اللهم إني أسألُك النعيمَ يوم العَيْلة، والأمنَ يوم الخوف،
اللهم إني عائِذٌ بك من شرِّ ما أعطيتَنا وشرِّ ما منَعتَ،
اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبِنا، وكرِّه إلينا الكُفرَ والفسوقَ والعِصيان،
واجعَلنا من الراشِدين،
اللهم توفَّنا مسلمين، وأحيِنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين،
غير خزايا ولا مفتُونين.
اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين يُكذِّبُون رُسُلَك، ويصُدُّون عن سبيلِك،
واجعَل عليهم رِجزَك وعذابَك،
اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين أُوتُوا الكِتاب، إلهَ الحقِّ )
أخرجه الإمام أحمد وغيرُه.

عباد الله:

لقد ترفَّقَ القرآنُ الكريمُ في خِطابِ المُؤمنين بعد ما أصابَهم في أُحُدٍ؛
لكي لا يتحوَّل انكِسارُهم في الميدان إلى قُنوطٍ يفُلُّ قُواهم،
وحسرةٍ تشُلُّ إنتاجَهم، قال الله - عز وجل -:

{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
[آل عمران: 139، 140].

فجمعَ - سبحانه - في خِطابِه لهم بين تشجيعِهم وتقويةِ نُفوسِهم،
وإحياءِ عزائِمِهم وهِمَمهم، وبين حُسن التعزِيَة وذِكر الحِكَم الباهِرَة التي
اقتَضَت إدالَةَ الكفار عليهم، وعزَّى اللهُ نبيَّه وأولياءَه عمَّن قُتِلَ منهم في سبيلِه
أحسنَ تعزِيةٍ وألطَفَها، وأدعاها إلى الرِّضا بما قضاهُ لهم،
وأخبرَهم بما نالُوه من ثوابِه وكرامَته؛ ليُنافِسُوهم فيه، ولا يحزَنوا عليهم،
وأعلَمَهم أن سببَ المُصيبةِ من عند أنفُسِهم ليحذَروا،
وأنها بقضائِه وقدَرِه ليُوحِّدُوا ويتَّكِلوا، ولا يخافُوا غيرَه،
وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدرًا وأعظمُ خطَرًا مما
فاتَهم من النصر والغنيمةِ.

فلقد كانت حصيلةُ معركة أُحُدٍ ومن بعدها التوجيهات القُرآنية بعد الأحداث
أكبرَ من حصيلةِ النصر والغَنيمة، ولقد علِمَ المُؤمنون أن الهزيمةَ حين تقَع؛
فإنها جارِيةٌ على سُنَّة الله وفقَ ما يقعُ من تقصيرٍ وتفريطٍ،
وأنها تُحقِّقُ غاياتٍ يُقدِّرُها الله بحِكمته وعلمِه لتمحيصِ النفوس،
وتمييز الصفوف، وتجلِيَة الحقائِق، وإقرار القِيَم، وإقامَة الموازين،
وجلاء السُّنن للمُستبصِرين.

إن النصرَ لا يتوقَّفُ إلا على نُصرة ربِّ العالمين؛ فمن نصرَه اللهُ - عز وجل –
فلا غالِبَ له من الناس، ولن يضُرَّه خُذلانُ الخاذِلين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
[آل عمران: 160].
وفي كل هذا دروسٌ وعِبَرٌ للمُسلمين هذا اليوم في كل أرضٍ وتحت كلِّ سماءٍ.
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحِكمة،
أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.


الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملِكِ يوم الدين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المُبين،
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين،
صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.


أيها المسلمون:

لئن تكلَّف المُسلمون الأوائل عشراتٍ من الرِّجال وأشهرًا من الزمان،
ليستعيدوا قوَّتَهم ويتفوَّقُوا في الوقائع اللاحِقة؛
فإن المُسلمين في هذا الزمان استنَزَفوا الملايين من أرواحِهم وعقودًا
من أعمارهم، ولم يتغيَّر حالُهم، وكان الفارِقُ بينهم وبين سلَفِهم
هو الفرقُ في تعلُّمهم الدروس واستِلهامِهم العِبَر.

لئِن كان المُسلِمون الأوائلُ بعد كل خسارةٍ يثُوبون لدينِهم، ويلجؤُون لربِّهم،
ويُحِيطُون بنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن المُسلمين اليوم يُذادُون
عن دينهم، ويُقصَون عن شريعتِهم، ويُحالُ بينهم وبين وسائل النصر ومَدَده.

ولك أن تُجيلَ بصرَكَ في كثيرٍ من بلاد المُسلمين خلال القرن الماضي
بعد استِعمارهم وذهاب شوكتِهم وحتى اليوم، لقد جرَّبُوا كلَّ طريقٍ،
وطرَقُوا كلَّ بابٍ، وأخَذوا من العلوم العصريَّة، وحازُوا الأسلِحةَ والعتادَ،
وسالَت تحت أيديهم كُنوزُ العالَم، ونبعُ وقوده. ومع ذلك أصبَحوا ولا يسيلُ
من الدماء إلا دماؤُهم، ولا تُجتاحُ إلا أراضِيهم، ولا يُقهَرُ إلا رِجالُهم.
بل حتى في بلادِهم تتحكَّمُ أقلِّيَّاتُ الطوائِف في مصائِرِهم.

يا أيها المسلمون:

لهيبُ الأحداث يسُوقُكم لدينِكم، وسِياطُ المقادِير تُلجِئُكم لخالِقِكم،
وفجائِعُ الدهر تُنادِيكم:
أن هلُمُّوا لما عزَّ به سلَفُكم، واستقوَى به أوائلُكم.

أيها المسلمون:

راجِعوا أنفُسَكم؛ ففي الفضاء إعلامٌ وقنواتٌ لا تنتمِي لماضٍ مُحافِظٍ،
ولا تُبالِي بواقعٍ مُؤلمٍ، وفي الناس غفلةٌ، والجِراحاتُ في كل وادٍ تسيلُ.
كيف يكونُ السَّرَفُ والتَّرَفُ وفي المُسلمين أوجاعٌ، وبهم جِياعٌ؟!
ألم ترَوا أن الأيام دُوَلٌ، والدهرُ قُلَّب؟!

ويا أهلَنا في الشام !
لكُم الله، وما لكم غيرُ الله، لقد أسلمَكم العالَمُ ليقوَى بالله تعلُّقُكم،
ودانَ الشَّرْقُ تحرُّرَكم ليقوَى دينُكم،
ومنَعُوكم المَدَد لتُخلِصُوا في طلبِ المَدَد من الله،


{ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا
إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
[الأعراف: 128].

لقد أسرفَ طاغيةُ الشام في الدمِ، وأظهرَ عداوتَه لبلده أكثرَ من أي عدوٍّ،
وهو مقطوعُ السَّبَب بالله موصولُ السَّبَب بالمخذُولين من أهل الأرض،
وما أظهرَه أخيرًا من استِعلاءٍ واستِقواءٍ وعدمِ مُبالاةٍ لما يحدُثُ في الشامِ
لهِيَ صحوَةُ الموت، ولكأنَّ البِشاراتِ بنصر الله عمَّا قريبٍ في الشام ستعلُو،
وشمسُ الخلاصِ تُشرِقُ، وتعودُ الطيورُ التي طالَت هِجرتُها،
وسيفرحُ المُؤمنون بنصر الله. وإنما الشجاعةُ صبرُ ساعةٍ.

اللهم يا جبَّارُ يا مُنتقِم،
اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين،
اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين،
والطُف بعبادِك المُستضعَفين من المظلومين،
واشفِ صُدورَ قومٍ مُؤمنين.

إن على المُسلمين قبل كلِّ أحدٍ أن يُبادِروا لغوثِ إخوانِهم في سُوريا،
وقد زادَ بلاؤُهم بالبردِ الشديدِ وقسوةِ الثُّلُوج، وجَرْفِ السُّيُول،
كان الله في عونِهم.

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ،
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين،
ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين،
اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.

اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك،
ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف،
ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.

اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ،
واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.

اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام،
وفي كل مكانٍ يا رب العالمين،
اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.

اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.

اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان،
اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمَعهم على الحقِّ والهدى،
اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم،
واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم،
وانصُرهم على من بغَى عليهم.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى،
وخُذ به للبرِّ والتقوى،
اللهم أسبِغ عليه لباسَ الصحةِ والعافِية،
اللهم أسبِغ عليه عافِيَتك وألبِسه لباسَ الصحةِ وأتِمَّ عليه الشفاءَ،
اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.

اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك،
واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،
واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.

اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين،
واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار.

{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
[البقرة: 201]

{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
[آل عمران: 147].

اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا،
اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطك ومن النار.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء،
أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين،
اللهم أغِثنا،
اللهم أغِثنا،
اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً،
عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد،
وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ.

اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.

ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.

سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين،
والحمد لله رب العالمين.