بيت عطاء الخير الاسلامي

بيت عطاء الخير الاسلامي (http://www.ataaalkhayer.com/index.php)
-   خطب الحرمين الشريفين (http://www.ataaalkhayer.com/forumdisplay.php?f=66)
-   -   خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بعنوان :السكينة والطمأنينة (http://www.ataaalkhayer.com/showthread.php?t=54247)

حور العين 04-09-2018 09:55 PM

خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بعنوان :السكينة والطمأنينة
 
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين


http://www.ataaalkhayer.com/up/download.php?img=9642

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان:
السكينة والطمأنينة ،

والتي تحدَّث فيها عن السَّكينةِ التي يقذِفُها الله في قلوبِ عبادِه المُؤمنين،
وما تُورِثُه مِن عملٍ صالحٍ، وثباتٍ على الحقِّ، وضرَبَ على ذلك مِثالًا بأبِي بكرٍ
- رضي الله عنه -؛ إذ أنزَلَ الله عليه السَّكينةَ، ووفَّقَه تعالى في مواقِفِه في
حياةِ النبيِّ وبعد وفاتِه - عليه الصلاة والسلام -، مُبيِّنًا أهميةَ السَّكينةِ
لكل مُسلمٍ إذا أنزَلَها الله عليه.

الخطبة الأولى
الحمدُ لله، الحمدُ لله ذِي المُلك والمَلَكُوت، والعِزِّ والجَبَروت،
﴿له الحمد .. ترجعون﴾، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له
يُثبِّتُ أولياءَه عند الفتَن العواصِف، ويعصِمُهم مِن المِحَن القواصِف، له
الأسماءُ الحُسنى والصفاتُ العُلَى فلا يُحيطُ به وَصفُ واصِف،
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفِيُّه مِن خلقِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه،
وعلى آلِهِ الطيبين الطاهِرين، وصحابتِه الغُرِّ الميَامِين، والتابِعِين
ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسِي بتقوَى الله في السرِّ والعلانِية؛ فهي
الباعِثُ على الصلاح، والحاجِزُ عن الإثمِ، وهي العُدَّةُ والرابِطُ الوَثِيقُ
على القُلوبِ عند الفتَن، وهي الزادُ إلى الآخرة،
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

[البقرة: 281].
لو تفكَّرَت النفوسُ فيما بين يدَيها، وتذكَّرَت حسابَها فيما لها وعليها،
لحاسَبَت نفسَها قبل الحِساب، وبادَرَت يومَها بالمتابِ، كلٌّ نفسٍ بين
يدَيها موتٌ شديد، ثم نشرٌ وحشرٌ، ووقوفٌ طويلٌ للحساب.
تفكَّرُوا - عباد الله - فيمَن كانُوا قبلَكم أين كانُوا بالأمسِ، وأين هم اليوم؟!
أين مَن أثارُوا الأرضَ وعمَّرُوها؟! قد نُسُوا - واللهِ - ونُسِيَ ذِكرُهم،
فهم اليوم في ظُلُمات القبُور
{ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا }
[مريم: 98].
أين مَن تعرِفُون مِن أصحابِكم وأحبابِكم؟! قد ورَدُوا على ما قدَّمُوا،
وليس بينَ الله وبين أحدٍ مِن خلقِه نسَبٌ يُعطِيه به خيرًا، ولا يصرِفُ
عنه سُوءًا إلا بطاعتِه واتِّباعِ أمرِه، وإنه لا خيرَ في لذَّةٍ بعدَها النار،
ولا شرَّ في شدَّةٍ تعقُبُها الجنة.
أيها المُسلمون:
في كل أمةٍ رِجالٌ تُفاخِرُ بهم، وتأنَسُ بسِيَرهم وأخبارِهم، تتمثَّلُ فيهم
أخلاقُ الأمة الكامِلة، وفضائِلُها العالِية، ويُمثِّلُون السمُوَّ الإنسانيَّ
في أرقَى صُورِه ومعانِيه، وللرِّجال كما للذهَبِ موازِين؛ فألفٌ كواحِدٍ،
وواحِدٌ كالألفِ إن أمرٌ عنَى.
ومِن الناسِ مَن يزِنُ أمةً كامِلةً بإيمانِه وصِدقِه وإخلاصِه، ذاك أبو بكرٍ
الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه -، إمامُ المُسلمين حقًّا، وشيخُ الإسلام صِدقًا،
ثانِيَ اثنَين إذ هُما في الغارِ، ومَن فازَ بعد الموتِ بالجِوار، فضائِلُه
مشهُورةٌ مذكُورةٌ، وقُلوبُ المُسلمين بمحبَّتِه معمُورة، ومنزلتُه
لا تعدِلُها منزلَة، أحبُّ الرجالِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -،
وأقرَبُهم إليه، وأولُ الناسِ مِنهم صدَّقَ الرُّسُلَا.
وفيه نزلَت:
{ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى }
[الليل: 17- 21].
قال عُمرُ - رضي الله عنه -:
لو وُزِنَ إيمانُ أبي بكرٍ بإيمانِ أهلِ الأرضِ لرَجَحَ بهم .
سبَقَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - الصحابةَ أجمعين بما وقَرَ في قلبِهِ
مِن الإيمانِ واليقينِ، والتسليمِ والتصديقِ لأمرِ الله وأمرِ رسولِه، حتى صار
َ يُعرفُ بالصِّدِّيقِ.
أيقَنَ بأمرِ الله وبوعدِه، فتنزَّلَت السَّكينةُ على قلبِه، وفاضَت على مُحيَّاه،
وكانَت له المواقِفُ المشهُودة، والأيامُ المحمُودة.
في خبَرِ الإسراء: روَى الإمامُ أحمدُ، أن رسولَ الله -
صلى الله عليه وسلم - قال:
(لما كانَ ليلةَ أُسرِيَ بِي، وأصبَحتُ بمكَّة، فظِعتُ بأمرِي، وعرَفتُ
أن الناسَ مُكذِّبِيَّ )

فقَعَدَ مُعتزِلًا حزينًا، فمرَّ به عدُوُّ الله أبو جَهلٍ،
فجلَسَ حتى جلَسَ إليه، فقال له كالمُستهزِئ: هل كان مِن شيءٍ؟
فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ( نعم )، قال: ما هو؟ قال:
( إنه أُسرِيَ بِي الليلة ) قال: إلى أين؟ قال: ( إلى بَيتِ المقدِسِ )،
قال: ثم أصبَحتَ بينَ ظَهرانَينَا؟! قال: «نعم».
قال: فلَم يُرِهِ أنه يُكذِّبُه مخافَةَ أن يجحَدَه الحديث إن دعَا
قومَه إليه.
قال: أرأَيتَ إن دعَوتُ قَومَك تُحدِّثُهم ما حدَّثتَني؟ فقال رسولُ الله
- صلى الله عليه وسلم -: «نعم»، فقال: هيَّا معشَرَ بنِي كعبِ بن لُؤيٍّ.
فانتَفَضَت إليه المجالِسُ، وجاءُوا حتى جلَسُوا إليهما.
قال: حدِّث قومَكَ بما حدَّثتَني، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
(إني أُسرِيَ بِي الليلة )، قالُوا: إلى أين؟
قال: «إلى بيتِ المقدِسِ»، قالُوا: ثم أصبَحتَ بين ظَهرانَينَا؟!
قال: «نعم». فمِن بين مُصفِّقٍ، ومِن بين واضِعٍ على رأسِهِ
مُتعجِّبًا للكذِبِ - زعَمَ -.
قالُوا: هل تستطيعُ أن تنعَتَ لنا المسجِدَ - وفي القَوم مَن قد سافَرَ إلى
ذلك البلَدِ ورأَى المسجِدَ -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( فذَهَبتُ أنعَتُ، فما زِلتُ أنعَتُ حتى التَبَسَ علَيَّ بعضُ النَّعتِ، فجِيءَ
بالمسجِدِ وأنا أنظُرُ، حتى وُضِعَ دُون دارِ عقِيلٍ، فنعَتُّه وأنا أنظُرُ إليه )،
فقال القَومُ: أما النَّعتُ فواللهِ لقد أصَابَ.
هذه كانَت حالَ المُشرِكين المُكذِّبين، وقد اضطَرَبَت نفوسُ بعضِ المُسلمين.
وأما أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه -، فقد قال:
إن كان قالَ لقد صدَقَ، وما يُعجِّبُكم مِن ذلك؟! فواللهِ إنه ليُخبِرني
أن الخبَرَ ليأتِيهِ مِن السماءِ إلى الأرضِ في ساعةٍ مِن ليلٍ أو نهارٍ .
فرضِيَ اللهُ عن أبي بكرٍ وأرضاه.
وفي طريقِ الهِجرةِ يدخُلُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم – الغارَ
ويختبِئُ فيه، وقُريشٌ تطلُبُه وترصُدُ الجوائِزَ للظَّفَرِ به وقَتلِهِ، ويلحَق
ُ بهم المُشرِكُون، ويصعَدُون على الجبلِ، حتى يقول أبو بكرٍ –
رضي الله عنه -:
يا رسولَ الله! لو أنَّ أحدَهم نظَرَ إلى قدَمَيه أبصَرَنا ،
فيقولُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( يا أبا بكرٍ! ما ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالِثُهما )،
وأنزلَ الله:
{ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا
فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ
اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

[التوبة: 40].
إنها السَّكينةُ يُنزِلُها، وهي مِن تمامِ نِعمةِ الله على العبدِ في أوقاتِ
الشدائِدِ والمخاوِفِ، التي تطِيشُ فيها الأفئِدة؛ سكِينةٌ على حسبِ معرفةِ العبدِ
بربِّه، وثِقتِه بوعدِه الصادِقِ، وحسبِ إيمانِه وقُربِه مِن ربِّه.
وفي هذه الآية: أن الحُزنَ قد يعرِضُ لخواصِّ عبادِ الله الصِّدِّيقِين،
ولكنَّ المُؤمنَ لا ييأَسُ ولا يقنَطُ، بل يبذُلُ الأسبابَ ويتوكَّلُ على الله،
فهو نِعمَ المَولَى ونِعمَ النَّصِير.
وفي موقفٍ آخر مِن مواقِفِ الصِّدِّيقِ في سكِينتِه ويقينِه وثباتِه:
ما كان مِنه يوم الحُديبِية، يوم جاء الصحابةُ - رضي الله عنهم –
مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكَّة يحدُوهُم الشَّوق،
ولم يكُونُوا يُريدُون إلا العُمرةَ، فصدَّهُم المُشرِكُون عن البَيتِ، وكان
مِن أمرِ الصُّلحِ ما كان، فأمَرض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم –
أصحابَه أن ينحَرُوا بُدُنَهم، وأن يحلِقُوا رُؤوسَهم، فتأخَّرُوا عن ذلك
بعضَ التأخُّر، حتى أشارَت أمُّ سلَمَةَ - رضي الله عنها –
عليه بالرأي المُسدَّد.
وداخَلَ قلوبَ بعضِ الصحابةِ في هذا اليوم ما داخَلَها، حتى جاء عُمرُ
- رضي الله عنه - إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم –
وقال: يا نبيَّ الله! ألَستَ نبِيَّ الله حقًّا؟! ألَسنَا على الحقِّ وعدُوُّنا
على الباطِلِ؟! أوَلَيسَ كُنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنَأتِي البَيتَ ونُطوِّفُ به؟!
فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( إنِّي رسولُ الله، ولَستُ أعصِيهِ، وهو ناصِرِي ).
ثم أتَى عُمرُ أبا بكرٍ - رضي الله عنه -، فقال مِثلَ ما قال للنبيِّ –
صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكرٍ:
( إنه لرسُولُ الله، وليسَ يعصِي ربَّهُ، وهو ناصِرُه، فاستَمسِك بغَرزِه؛
فواللهِ إنه على الحقِّ ).
فأيُّ سكِينةٍ كانت تملأُ قلبَ هذا الرجلِ المُبارَك؟! حتى إنها لتَفِيضُ على
لِسانِه وجوارِحِهِ. فرضِيَ الله عن أبي بكرٍ وأرضاه.
وفي يوم وفاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد أظلَمَ مِن المدينة
ِ كلُّ شيءٍ، وكان الصحابةُ - رضي الله عنهم - كالغَنَمِ المطِيرَة
- كما تقولُ عائشةُ - رضي الله عنها -. اضطَرَبَت نفوسُ الصحابة.
يقولُ ابن رجبٍ - رحمه الله -: "فمِنهم مِن دُهِشَ فخُولِطَ،
ومِنهم مِن أُقعِدَ فلم يُطِقِ القِيامَ، ومِنهم مَن اعتُقِلَ لِسانُهُ فلم
ينطِقِ الكلامَ، ومِنهم مَن أنكَرَ موتَه بالكليَّة .
هذه كانت حالَ الصحابةِ - رضي الله عنهم -، إلا رجُلًا واحدًا،
هو صاحِبُ الغار الذي تنزَّلَت عليه السَّكِينة، أقبَلَ أبو بكرٍ
- رضي الله عنه - على فرَسٍ مِن مسكَنِه بالسُّنْحِ، حتى نزَلَ فدخَلَ
المسجِدَ، فلم يُكلِّمِ الناسَ حتى دخَلَ على عائشةَ، فتيمَّمَ رسولَ الله -
صلى الله عليه وسلم - وهو مُغشَّى بثَوبٍ، فكشَفَ عن وجهِهِ،
ثم أكَبَّ عليه فقبَّلَه وبكَى، ثم قال: بأبِي أنت وأُمِّي طِبتَ حيًّا وميتًا، واللهِ لا يجمَعُ
الله عليك موتَتَين؛ أما المَوتَةُ التي كُتِبَت عليك فقد مِتَّها.
ثم خرَجَ أبو بكرٍ، وعُمرُ بن الخطَّاب يُكلّشمُ الناسَ، ويحلِفُ ويقولُ:
ما ماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وليبعَثَنَّه الله فليُقطِّعنَّ
أيدِي رِجالٍ وأرجُلَهم، فقال: اجلِس يا عُمر! فأبَى عُمرُ أن يجلِس،
فأقبَلَ الناسُ إليه وترَكُوا عُمر.
فحمِدَ اللهَ أبو بكرٍ وأثنَى عليه، ثم قال:
أما بعدُ: فمَن كان مِنكم يعبُدُ مُحمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛
فإن مُحمدًا قد ماتَ، ومَن كان مِنكم يعبُدُ اللهَ؛ فإن اللهَ حيٌّ لا يمُوتُ
، ثم قرأَ:
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }
[الزمر: 30]،
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُم
ْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي
اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }

[آل عمران: 144].
قال: واللهِ لكأنَّ الناسَ لم يعلَمُوا أن اللهَ أنزلَ هذه الآية حتى تلاهَا
أبو بكرٍ، فتلقَّاها الناسُ كلُّهُم، فما أسمَعُ بشرًا مِن الناسِ إلا يتلُوهَا.
قال عُمر: واللهِ ما هو إلا أن سمِعتُ أبو بكرٍ تلاها، فعُقِرتُ حتى
ما تُقِلُّنِي رِجلَايَ، وحتى أهوَيتُ إلى الأرضِ، حين سمِعتُه تلاها
علِمتُ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد ماتَ.
فرضِيَ الله عن أبي بكرٍ وأرضاه.
وخاتِمةُ المواقِفِ - أيها المُسلمون - في سَكِينةِ أبي بكرٍ وثباتِهِ،
وشجاعتِهِ وعزمِه - رضي الله عنه وأرضاه -: ما كان مِنه في بَعثِ
جَيشِ أُسامة
بن زيدٍ - رضي الله عنه -، ثم في قِتالِ المُرتدِّين بعد ذلك.
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاتِهِ قد عقَدَ اللواءَ لأُسامة،
وأمَرَه أن يخرُجَ إلى الشام لمُلاقاةِ الرُّوم، فعسكَرَ الجيشُ بالجُرفِ
لمَرضِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -،ثم عادُوا إلى المدينةِ بعد
وفاتِهِ، فأشارَ بعضُ الصحابةِ على أبي بكرٍ - رضي الله عنه - أن يبقَى
الجيشُ في حِمايةِ المدينة؛ لِما وقَعَ مِن أمر الرِّدّضة وكثرةِ العدُوِّ،
فقال أبو بكرٍ: واللهِ لا أحُلُّ عُقدةً عقَدَها رسولُ الله
- صلى الله عليه وسلم -، ولو أن الكلابَ تخطَّفُنا، والسِّباعَ مِن حولِ
- المدينةِ، ولو أن الكلابَ جرَّت بأرجُلش أُمهاتِ المُؤمنين،
- لأُجهِّزنَّ جيشَ أُسامة .
فكان بعد ذلك في خُروجِ الجيشِ أكبَرُ المصلَحةِ، فما مرُّوا على حيٍّ
مِن أحياءِ العربِ إلا قالُوا: ما خرَجَ هؤلاء إلا وبِهِم مَنَعَةٌ شديدةٌ.
وكان ذلك حين وقَعَت فِتنةُ غلَبَةِ اهل الرِّدَّة بعد وفاةِ رسولِ الله
- صلى الله عليه وسلم -.
فأدرَكَ الناسَ خَوفٌ ووَهَنٌ، لكنَّ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - كان أعلَمَ الصحابةِ،
وأفقَهَ الصحابةِ، وأثبَتَ الصحابةِ، تحوَّلَ الشيخُ الكبيرُ الرحيمُ
المُتواضِعُ إلى أسدٍ هَصُورٍ، عظيمِ الثَّورة، شديدِ البأسِ، عالِي الهِمَّة،
سريعِ النَّضَة، أصرَّ على قِتالِ المُرتدِّين جميعًا في وقتٍ مُتزامِنٍ،
وقال في شأنِهم: أُقاتِلُهم وحدِي حتى تنفرِدَ سالِفَتي.
فلما رأَى الصحابةُ هذا الإصرارَ مِن الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه -،
انشَرَحَت صُدورُهم لهذا الحقِّ الذي أجراهُ الله على لِسانِه.
قال عُمرُ:
( فواللهِ ما هو إلا أن قد شرَحَ اللهُ صدرَ أبي بكرٍ، فعرَفتُ أنه الحقُّ )
؛ رواه البخاري.
وهكذا أخرَجَ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - أحدَ عشرَ جيشًا في ملحَمةٍ
خالِدةٍ؛ تضحِياتٌ عظيمةٌ، ودمٌ وشهادةٌ، ثم نصرٌ وتمكينٌ وسِيادة،
وأشرَقَت الأرضُ بنُورِ ربِّها مِن جديدٍ، وأعَزَّ اللهُ الإسلامَ وأهلَه، وأذَلَّ اللهُ الشِّركَ وأهلَه،
كلُّ ذلك في عامٍ واحدٍ.
يقولُ عليُّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -:
كان الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - كالجَبَلِ، لا تُحرِّكُه القواصِفُ،
ولا تُزِيلُه العواصِفُ .
قال ابن تيمية - رحمه الله -:
والشَّجاعةُ تُفسَّرُ بشيئَين: قوةُ القلبِ وثباتُه عند المخاوِفِ،
والثانيةُ: شِدَّةُ القِتالِ بالبَدَن، وأما الثانِي فيدُلُّ على قوةِ البَدَنِ وعملِه،
وأما الأولُ فهو الشجاعةُ الحَقَّة، وهي التي يحتاجُها أُمراءُ الحربِ
وقُوَّادُه؛ فإن المُقدَّمَ إذا كان شُجاعَ القلبِ ثابتًا أقبَلَ وثبَتَ ولم ينهَزِمَ،
فقاتَلَ معه أعوانُهُ.
وإذا كانت الشجاعةُ المطلُوبةُ مِن الأئمةِ شَجاعةَ القلبِ، فلا رَيبَ أن
أبا بكرٍ أشجَعُ الناسِ بعد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم –
. اهـ كلامُه.
اللهم ارضَ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعن صحابةِ رسولِك أجمعين،
والتابِعِين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفَعَنا بما فِيهما مِن الآياتِ
والحِكمة، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالِك يوم الدين، وأشهَدُ أن
لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملِكُ الحقُّ المُبِين، وأشهدُ أن محمدًا
عبدُه ورسولُه الصادِقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه،
وعلى آله وصحبِه أجمعين.
وبعدُ .. أيها المُسلمون:
الطُّمأنينةُ والسَّكينةُ نِعمةٌ مِن الله يُنزِلُها على عبدِهِ، فلا ينزَعِجُ لِما
يَرِدُ عليه مِن المصائِبِ والمِحَن، وذلك إذا قامَ في قلبِهِ إيمانٌ راسِخٌ
ويقينٌ صادِقٌ،
...



All times are GMT +3. The time now is 02:37 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.