خطبتى الجمعة من المسجد الحرا بعنوان :علامات قوة الإيمان
خُطَبّ الحرمين الشريفين خطبتى الجمعة من المسجد الحرام مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين http://www.ataaalkhayer.com/up/download.php?img=9642 ألقى فضيلة الشيخ فيصل بن جميل غزاوي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: علامات قوة الإيمان ، والتي تحدَّث فيها عن قوَّةِ الإيمانِ في قلبِ العبدِ ودلائِلِها وعلاماتِها، كما بيَّن أهمَّ الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها الصائِمُ. الخطبة الأولى الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي شرعَ لعبادِه مواسِمَ الخيرات ليغفِرَ لهم بذلك الذنوب، ويُكفِّر عنهم السيئات، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له واسِعُ العطايا وجَزيل الهِبات، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه سيِّدُ البريَّات، أخشَى الناسِ لربِّهم وأتقاهم، وأفضلُ مَن سارَعَ إلى الخَيرات، واغتَنَمَ القُرُبات، صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وأصحابِه مِن أُولِي العَزم والثَّبات، ومَن سارَ على هَديِهم، ونهَجَ سُنَّتَهم مِن الأحياء والأموات. أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي - عباد الله - بتقوَى الله، ومُلازمة مُراقبته في السرِّ والعلانية، والاستِقامة على شَرعِه، واتِّباع رِضوانِه. أيها المُسلمون: إن دينَ الإسلامُ دينُ القُوة والعِزَّة والكرامة، والمُؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله مِن المُؤمن الضَّعيف. فعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: ( المُؤمنُ القويُّ خَيرٌ وأحبُّ إلى الله مِن المُؤمنِ الضَّعيف، وفي كلٍّ خَير ..) الحديث؛ رواه مسلم. والمُرادُ بالقوَّة في هذا الحديث: قُوَّة الإيمان والعلم والطاعة، وقوة الرأي والنفسِ والإرادة، ويُضافُ إليها: قوة البدَن إذا كانت مُعينةً لصاحبِها على العملِ الصالِح. قال النووي - رحمه الله -: والمُرادُ بالقوة هنا: عزِيمةُ النفسِ، والقَرِيحةُ في أمورِ الآخرة، فيكونُ صاحِبُ هذا الوصفِ أكثرَ إقدامًا على العدوِّ في الجِاد، وأسرعَ خُروجً إليه وذهابًا في طلَبِه، وأشدَّ عزِيمةً في الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المُنكَر، والصبرِ على الأذَى في كل ذلك، واحتِمال المشاقِّ في ذاتِ الله تعالى، وأرغَبَ في الصلاة والصوم والأذكار وسائِرِ العِبادات، وأنشَطَ طلبًا لها ومُحافظةً عليها . وقال - رحمه الله - عند شرحِه لحديثِ عائشة - رضي الله عنها -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ينامُ، فإذا كان عند النِّداء الأول قالت: وَثَبَ . قال: "قَولُها: وَثَبَ أي: قامَ بسُرعةٍ؛ ففيه الاهتِمامُ بالعبادة والإقبالُ عليها بنشاطٍ، وهو بعضُ معنَى الحديثِ الصحيح: ( المُؤمنُ القويُّ خَيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِن المُؤمنِ الضَّعيف ). وقال بعضُ شُرَّاح الحديث: قولُه: ( المُؤمنُ القويُّ ) أي: على أعمالِ البرِّ ومشاقِّ الطاعة، والصَّبُور على تحمُّل ما يُصيبُه مِن البلاء، والمُتيقِّظُ في الأمور، المُهتَدي إلى التدبِيرِ والمصلَحةِ بالنَّظر إلى الأسبابِ، واستِعمال الفِكر في العاقِبة . إذا علِمنا ذلك - عباد الله -؛ فإن مِن معانِي الصيامِ وآثارِه المحمُودة: أنه يبعَثُ القوةَ في نفوسِ الصائِمِين، فتجِدُ العبدَ يمتنِعُ عن الطعام والشرابِ والجِماع وسائرِ المُفطِّرات بإرادتِه، رغمَ أنه اعتادَ هذه المُباحات سائرَ العام، إلا أنه في نهارِ رمضان يترُكُها لله، وابتِغاءَ ما عندَه مِن الأجرِ. وهذا انتِصارٌ عظيمٌ للمُسلم على هواه وشهوَتِه، وتفوُّقٌ كبيرٌ على نفسِه، وهو بذلك يُهيِّئُ نفسَه لتحمُّل المشاقِّ والقِيام بالمهامِّ الجِسام؛ مِن جهادٍ، وبذلٍ، وتضحِيةٍ، وإقدامٍ. ولذلك لما أرادَ طالُوتُ - عليه السلام - أن يُقاتِلَ أعداءَه، ابتلَى اللهُ قومَه بنهَرٍ، وقال لهم طالُوت: { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } [البقرة: 249]، فنجَحَ أهلُ الصبر والقوة، وفازَ منهم مَن غلَبَ هواه، وقهَرَ نفسَه، وتخلَّفَ عن مُتابعتِه عبَدَةُ الشَّهوات، المقهُورُون تحت سُلطان طبائِعِهم، والمأسُورون في سِجن هواه. أيها الإخوة: إن العقيدةَ الصحيحة زادٌ لا ينفَد، ومَعينٌ لا ينضَب للنشاط الموصُول، والحماسة المدخُورة، واحتِمال الصِّعاب، ومُواجهة الشدائِد. وطبيعةُ الإيمان إذا تغلغَلَ واستمكَنَ في النفوسِ أنه يُضفِي على صاحبِهِ قُوةً تنطَبِعُ في سُلوكِه كلِّه، فإذا تكلَّمَ كانَ واثِقًا مِن قولِه، وإذا اشتغلَ كان راسِخًا في عملِه، وإذا اتَّجَه كان واضِحًا في هَدَفِه. والمُؤمنُ الحقُّ لا يكتَرِثُ بأمرٍ ليس له مِن دينِ الله سَداد، ولا يستَسلِمُ لهواه، ولا يذِلُّ لغَيرِ الله، ولا يُستعبَدُ لمخلُوقٍ مثلِه، ولا يُسترَقُّ لشهَواتِه وملذَّاتِه. وهذا الشهرُ - عباد الله - هو شهرُ القوة والعزيمَة، والتضحِية والانتِصارات؛ فلعلَّكم تذكُرون ولا يغِيبُ عنكم ما جرَى للمُسلمين في معركة بدرٍ؛ حيث حقَّقَ المُسلمون أروعَ الأمثِلة في البُطُولة والفِداء، فالمُسلمون الثلاثمائة الذين واجَهُوا ألفًا مِن المُشركين أحرزُوا أولَ انتِصارٍ للأمة المُسلمة، فقد نزلُوا ساحةَ المعركة بقوةٍ إيمانيَّةٍ كبيرةٍ، وأمَدَّهم ربُّهم بالملائِكة لينصُرَهم على عدوِّهم. وانجَلَت المعركةُ بين الحقِّ والباطل، بين الفِئة المُؤمنة والكثرة الكافِرة، انجَلَت عن نصرٍ كبيرٍ للمُسلمين؛ إذ قتلُوا سبعين مِن المُشرِكين وأسَرُوا سبعين، ولم يُقتَل مِن المُسلمين سوَى أربعة عشر رجُلًا، وسُمِّيَت هذه الغزوة بـ يوم الفُرقان ، كما ذُكِر ذلك في القرآن. والسؤالُ هنا: ماذا كان يملِكُ المُسلمون عند مُنازلتِهم الكفار؟ وبأي شيءٍ امتازُوا وفاقُوا عدوَّهم؟ إنهم كانُوا يملِكُون من قوة العقيدة، وقوة الخُلُق، وقوة الرُّوح ما لا يملِكُه أولئِك الكفَرَة، فانهَزَم أعداءُ الله هزيمةً نَكراء، أثبَتَها القرآن مثلًا رائعًا، يدُلُّ على ما تستطيعُ القوةُ المعنويَّة أن تُحرِزَه مِن نصرٍ على القوة الماديَّة. والمعارِكُ الأخرى التي خاضَها المُسلمون في رمضان؛ كاليَرموك، والقادسيَّة، وحطِّين، وغيرِها، هل تُرَون أنها تتمُّ بهذه الرَّوعة العجِيبَة، لولا أن أهلَها كانُوا يتخلَّقُون بخُلُق الصائِمِين؛ مِن عفَّةٍ، وسمُوٍّ، وتضحِيةٍ، وتحمُّلٍ للشدائِد، وخضُوعٍ لله، واستِعلاءٍ على كل ما سِواه؟! هل تُراهم يثبُتُون هذا الثباتَ العظيمَ لو أنَّهم خاضُوا المعارِك بنفوس المُنهَزِمين، الذين تغلِبُهم شهواتُهم، وتأسِرُهم ملذَّاتُهم، وتستحوِذُ عليهم شياطينُهم، فلا يستطيعُون مُقاومة الجُوع والعطَشِ ساعاتٍ معدُودة؟! كلا وألفُ كلا؛ إن الصيامُ الذي فرَضَه الله على المُسلمين يجمَعُ للمُسلم بين قوَّتَين: قوةٍ من الناحِية الصحية، يدفعُ عن الجسَدِ كثيرًا مِن الأمراضِ، ويُنقِّيه مِن كثيرٍ مِن العِلَل. وقوةٍ معنويةٍ، والتي هي أهمُّ. فالصيامُ - عباد الله - يُعطِي المُسلمَ قُوًى معنويةً مُتنوِّعةً، لها أكبرُ الأثر في سعادةِ الأفراد والجماعات، فيُعطِيه قوةَ الصبر والتحمُّل، وقوةَ النظام، وقوةَ العمل، وقوةَ الطاعة، وقوةَ الإيمان. أيها الإخوة: المُؤمنُ القويُّ يحرِصُ في رمضان على اكتِسابِ الفضائل واغتِنامِ الصالِحات، ولا يشغَلُه عن ذلك ولا يصرِفُه ما شُغِلَ به غيرُه مِن مُتابعةِ برامِجِ اللَّهو التلاهِي التي تُدنِّسُ أجواءَ رمضان الرَّوحانيَّة، وتحجُبُ أجواءَه الإيمانيَّة، ولا يصِلُ إلى هذه الحالِ مِن السَّفَه والتفريط والإضاعَة إلا مَن ضعُفَت نفوسُهم، وأوقعَهم الشيطانُ في حبائِلِه، فجعلَهم ينتَهِكُون حُرمةَ الشهر صَرعَى مُخدَّرِين أمامَ هذه السُّمُوم التي لا ينفَكُّون عنها حتى في مواسِمِ الخيرات، فأصبَحُوا عاجِزِين أن يُقدِّمُوا أو يغتَنِمُوا. أيُّ خيرٍ في حياةِ المرء إذا كانت تتوالَى عليه مواسِمُ الخَيرات، ويشهَدُ فيها أعظمَ المرابِحِ وأجَلَّ القُرُبات، فلا يُبالِي بذلك! بل هو عنها غافِلٌ! قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -: لا شيءَ أقبَحُ بالإنسانِ مِن أن يكون غافِلًا عن الفضائل الدينيَّة، والعلُوم النافِعة، والأعمالِ الصالِحة؛ فمَن كان كذلك فهو مِن الهَمَج الرعاع الذين يُكدِّرُون الماءَ، ويُغلُون الأسعار، إن عاشَ عاشَ غيرَ حميدٍ، وإن ماتَ ماتَ غيرَ فقِيدٍ، فَقدُهم راحةٌ للبلاد والعباد، ولا تبكِي عليهم السَّماء، ولا تستَوحِشُ لهم الغَبراء . أيها المُسلمون: ينبَغِي أن يُعلَم - لاسيَّما في رمضان - أن لله مُرادًا مِنَّا، وأن لبعضِ الناس مُرادًا آخر غير الذي يُريدُه الله مِنَّا، قال تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [النساء: 27]. { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: الله وحدَه يُريدُ أن يتوبَ عليك، ويتجاوَز عن خطاياكُم. ويُريدُ الذين ينقَادُون لشهَوَاتهم وملذَّاتِهم أن تنحَرِفُوا عن الدين انحِرافًا كبيرًا، وتُبعِدُوا عن طريقِ الاستِقامةِ بُعدًا شديدًا، وتنصَرِفُوا عن الحقِّ بإتيانِكم ما حرَّمَ الله عليكُم وركُوبِكم معاصِيَه. هذا وقد أعرضَ كثيرٌ مِنَّا - هداهُم الله - أعرَضُوا عن دعوةِ الله لنا، وعن مُرادِ الله مِنَّا، واستَجابُوا لدعوةِ الذين يتَّبِعُون الشَّهوات، وصرَفُوا الأوقاتَ في هذه الأيام المعدُودات فيما لا يعُودُ عليهم بالنَّفعِ والخَيرات، بل بِما يُورِثُ الحسَرَات، ويُعقِبُ التَّبِعات، مع أن رمضان يُعلِّمُنا أن نكُونَ أقوِياء أصحابَ عزائِم قويَّةٍ وهِمَمٍ عالِية، فلا نضعُف أمام شهَوَاتِنا، ولا نذِلَّ لمخلُوقين مِثلِنا، وننسَاقَ وراءَ دعوات المُبطِلِين الفاسِدة، وآرائِهم المُنحرِفة، فننصرِف عن عقيدتِنا وأفكارِنا، ومبادِئِنا وقِيَمنا، وننشَغِلَ بسُمُومهم عن استِثمارِ وقتِنا في النافِع، وما يعُودُ علينا بخَيرَي الدنيا والدين. أقولُ قَولِي هذا، وأستغفِرُ الله الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين، فيا فوزَ المُستغفِرِين. الخطبة الثانية الحمدُ لله وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على مَن لا نبيَّ بعدَه، وعلى آلِه وأصحابِه الأخيَار، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد .. فيا عباد الله: إنَّ للمُؤمن القويِّ علامات تدلُّ على قوَّتِه وكمالِ شخصيَّتِه، ومِن ذلك: المُبادرةُ بفعلِ الخَيرات، والاجتِهادُ في العبادات، وتحصِيلُ الحسَنَات، واغتِنامُ القُرُبات؛ فجُهدُه البدنيُّ وقوتُه مُسخَّرةٌ لمرضاةِ الله تعالى. ومِن العلاماتِ: أن المُؤمن صاحِبُ إرادةٍ قويةٍ، وهِمَّةٍ عالِيةٍ طَمُوحَة، لا يضعُفُ ولا يَستَكِين، بل تُجمِّلُه شجاعةٌ في مواطِنِ البأس، وثباتٌ في موضِعِ الشدَّة، لا تتزَلزَلُ له قدَم، ولا يتَزَعزَعُ له رُكنٌ، ومهما مرَّ به مِن حالٍ فلا يزالُ مُتماسِكًا مُتجلِّدًا، كما قال القائِلُ: فإن أمرَضْ، فما مرِضَ اصطِبارِي وإن أُحمَم، فما حُمَّ اعتِزامِي أي: إن مرِضتُ في بدَنِي فإنَّ صَبري وعَزمِي على ما كانَا عليه مِن الصحَّة. ومِن العلامات: الحَمِيَّةُ في الدفاعِ عن الدين ضدَّ مَن يتعرَّضُ له؛ فالمُؤمنُ القويُّ يغضَبُ لدينِه إذا ما رأَى حُرُمات الله يُعتَدي عليها وتُنتَهَك، بينما هو لا ينتصَرِ لنفسِه، بل يعفُو ويصفَح. أُسوتُه في ذلك رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم - الذي كان لا ينتَقِمُ لنفسِه، وإذا انتُهِكَت محارِمُ الله لم يقُم لغضَبِه شيءٌ حتى ينتَقِمَ لله، فيعفُو عن حقِّه، ويستَوفِي حقَّ ربِّه. ومِن العلاماتِ الدالَّة على قوةِ المُؤمن: ضَبطُ النفسِ وكَبحُ جِماحِها، وخاصَّةً عند انفِعالِها وخُروجِها عن طبيعَتِها، وتعرُّضِها للمواقِفِ العَصِيبة، يدُلُّ على ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: ( ليس الشديدُ بالصُّرَعة، إنما الشديدُ الذي يملِكُ نفسَه عند الغضَبِ )؛ متفق عليه مِن حديث أبي هُريرة - رضي الله عنه -. يعني: ليس القويُّ الذي يصرَعُ الناسَ إذا صارَعَهم، لكنَّ الشديدَ حقيقةً الذي يصرَعُ غضَبَه، أي: إذا غضِبَ غلَبَ غضَبَه، ولهذا قال: ( إنما الشديدُ الذي يملِكُ نفسَه عند الغضَبِ ). هذا هو الشديدُ الذي يظهَرُ حالُه ويتميَّزُ عندما يغضَب؛ فإن كان قويًّا ملَكَ نفسَه، وإن كان ضعيفًا غلَبَه الغضبُ، وحينئذٍ رُبما يتكلَّمُ بكلامٍ، أو يفعَلُ فِعلًا يندَمُ عليه. ومِن الآداب العظيمةِ التي يُراعِيها المرءُ أثناءَ الصيام: تَركُ المِراءِ والسِّباب والغضبِ والمُشاتَمَة، مُتحفِّظًا مِن لسانِه، لا يُستثارُ ولا يغضَبُ لأتفَهِ سببٍ، ولا يخرُجُ عن طَورِه في المُضايقَات والخُصُومات والمُشاحَّة على منافِعِ الدنيا ومصالِحِها. لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( إذا كان يَومُ صَومِ أحدِكم فلا يرفُث ولا يجهَل، فإن امرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَه فليقُل: إنِّي صائِمٌ، إنِّي صائِمٌ )؛ متفق عليه مِن حديث أبي هُريرة – رضي الله عنه -. أيها المُسلمون: لا بُدَّ لنا مِن أن نُجاهِدَ هوانا ونفسَنا الأمَّارةً بالسُّوء؛ لننالَ الهدايةَ مِن الله، قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69]. وعن فُضالة بن عُبيدٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ( المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نفسَه في طاعةِ الله، والمُهاجِرُ مَن هجَرَ الخطايا والذنوبِ )؛ رواه أحمد وابن حبَّان وغيرُهما. قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -: ولما كان جِهادُ أعداءِ الله في الخارِجِ فرعًا على جِهادِ العبدِ نفسَه في ذاتِ الله، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ( المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نفسَه في طاعةِ الله، والمُهاجِرُ مَن هجَرَ ما نهَى الله عنه )، كان جِهادُ النفسِ مُقدَّمًا على جِهادِ العدوِّ في الخارِجِ، وأصلًا له؛ فإنه ما لم يُجاهِد نفسَه أولًا لتفعَلَ ما أُمِرَت به، وتترُك ما نُهِيَت عنه ويُحارِبها في الله، لم يُمكِنه جِهادُ عدوِّه في الخارِج، فكيف يُمكنُه جِهادُ عدوِّه والانتِصافُ مِنه، وعدوُّه الذي بين جَنبَيه قاهِرٌ له، مُتسلِّطٌ عليه، لم يُجاهِده ولم يُحارِبه في الله؟! . كما أن علينا - عباد الله - بالصبرِ والمُاصبَرة لتحقيقِ ثمرةِ هذا العمل الجَليل. قال ابن رجبٍ - رحمه الله -: فهذا الجِهادُ يحتاجُ أيضًا إلى صبرٍ؛ فمَن صبَرَ على مُجاهَدة نفسِه وهواه وشيطانِه، غلَبَ، وحصَلَ له النصرُ والظَّفَر، ومَلَكَ نفسَه، فصارَ عزيزًا ملِكًا، ومَن جَزِعَ ولم يصبِر على مُجاهَدةِ ذلك، غُلِبَ وقُهِرَ وأُسِرَ، وصارَ عبدًا ذليلًا أسِيرًا في يدَي شيطانِه وهواه، كما قِيل: إذا المرءُ لم يَغلِب هواهُ أقامَهُ بمنزِلةٍ فيها العَزِيزُ ذَلِيلُ فاجتَهِدُوا - أيها الصائِمُون - في مُجاهَدة أنفسِكم، واعمَلُوا على طاعةِ ربِّكم، واغتَنِمُوا بقيَّةَ شَهرِكم؛ فقد مضَى مِنه ثُلُثُه - والثُّلُث كثير -، وما أسرَعَ تصرُّم العُمر القصير. فالغنِيمةَ الغنيمةَ قبل فَوات الأوان، والمُرابَحَة المُرابَحَة قبل حُلُول الخُسران. ألا وصلُّوا وسلِّمُوا - رحِمَكم الله - على النبيِّ المُصطفى، والرسولِ المُجتبَى، كما أمرَكم بذلك ربُّكم - جلَّ وعلا -، فقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56]. |
All times are GMT +3. The time now is 02:08 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.