قال ابنُ جريرٍ - رحمه الله -:
[ أي: لا يتَّبِع بعضُكم عورةَ بعضٍ، ولا يبحَث عن سرائِرِه يبتغِي بذلك الظهورَ
على عُيوبِه، ولكن اقنَعوا بما ظهرَ لكم من أمره ].
وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري - رحمه الله - في "صحيحه"
عن أبي هريرة - رضي الله عنه :
أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
( لا تجسَّسُوا، ولا تحسَّسُوا، ولا تباغَضُوا، ولا تدابَرُوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا )
ومما يدخلُ في التجسُّس أيضًا - يا عباد الله -: أن يستمِعَ إلى حديثِ قومٍ بغير إذنٍ ولا رِضًا
فقد توعَّدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعِلَه بقولِه:
( من تحلَّم بحلمٍ لم يرَه كُلِّفَ أن يعقِدَ بين شعيرتَيْن، ولن يفعَل،
ومن استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون أو يفِرُّون منه صُبَّ في أُذنِه الآنُك –
أي: الرَّصاص المُذاب - يوم القيامة .. الحديث )
أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما
وشرعَ اللهُ الاستِئذانَ عند دُخولِ البيوتِ حمايةً لهذا الحقِّ أيضًا، وصِيانةً وسترًا لعوراتِها،
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
وبيَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حكمةَ هذا الاستِئذان والغايةَ من تشريعِه،
فقال للذي اطَّلَع من جُحرٍ في حُجَر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه
صلوات الله عليه وسلامه - مِدرَى يحُكُّ بها رأسَه، فقال:
( لو أعلمُ أنك تنظُر لطعنتُ به في عينِك، إنما جُعِل الاستِئذانُ من أجل البصر )
أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه -.
إنه إذا كان إيمانُ المرء لا يكمُلُ حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه،
وحتى يكرَهَ له ما يكرَهُ لنفسِه؛ فإن أدنَى درجات ذلك:
أن يُعامِلَ أخاه بما يُحبُّ أن يُعامِلَه به، ولا ريبَ أنه ينتظِرُ من أخيه أن يستُرَ عورتَه،
ولا يكشِفَ عيبَه، وأن يتجاوزَ عن زلَّتِه.
فإذا كان على الضدِّ من ذلك - أي: لم يفعَل ذلك - لم يكُن مُنصِفًا لأخيه ولا مُحِبًّا للخير له،
فيُوجِبُ ذلك ويُحدِثُ لرابِطة الأُخُوَّة فسادًا بيِّنًا لما صلَحَ من شُؤون الناس،
وما استقامَ من ظاهر أحوالِهم، وتجرِئةً لهم على الإيغال في القبائِح بترك الحياء،
ولذا حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِه لمُعاوية - رضي الله عنه -:
( إنك إن اتَّبَعتَ عورات الناس أفسدتَّهم، أو كِدتَ أن تُفسِدَهم )
أخرجه أبو داود في "سُننه" بإسنادٍ صحيحٍ.
كما أخبر - عليه الصلاة والسلام - أن عقوبةَ من يتتبَّعُ العورات هي من جنسِ عملِه،
بأن يُفتضَحَ في عُقر دارِه، فيخرُج إلى الناس ما هو خفِيٌّ عليهم ومستورٌ عنهم؛
ليذوقَ وبالَ أمره، ويُسقَى من نفسِ كأسِه. فقال - صلى الله عليه وسلم -:
( يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يخلُص الإيمانُ إلى قلبِه !
لا تتَّبِعوا عورات المُسلمين؛
فإنه من تتبَّعَ عورةَ امرئٍ تتبَّعَ الله عورتَه، حتى يفضحَه ولو في جوفِ رحْلِه )
أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسنادٍ حسنٍ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
وحَذارِ من تتبُّع العورات حَذارِ؛ فإنه مثَلٌ صارِخٌ لانتِهاك الحُرُمات، وتنكُّرٌ لحقوق
الأُخُوَّة في الله، وسبيلُ مذمَّةٍ وضعَةٍ وصَغارٍ يترفَّعُ عنه الأبرارُ المُتَّقون الأخيار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ،