( فقالوا: هل لكَ في صاحبِك؟
يزعُمُ أنه جاء إلى بيت المقدسِ ثم رجعَ إلى مكَّة في ليلةٍ واحدةٍ!
فقال أبو بكر: أوَقال ذلك؟
قال: فأنا أشهدُ لئن كان قالَ ذلك لقد صدقَ.
قالوا: فتُصدِّقُه في أن يأتي الشامَ في ليلةٍ واحدةٍ ثم يرجِعُ إلى مكَّة قبل أن يُصبِح؟
قال: نعم، أنا أُصدِّقُه بأبعَدَ من ذلك، أُصدِّقُه بخبَر السماء
قال أبو سلَمة: فبِها سُمِّي "أبو بكر الصدِّيق" )
وعلى مدَى القُرون السَّالِفة لم يُسجَّل للعربِ مجدٌ إلا بدينِهم، ولم يكُن لهم عِزٌّ إلا بإيمانِهم،
وكأنَّ اللهَ أرادَ أن تكون القيادةُ الرُّوحيَّةُ للبشرية لهم، وحين تخلَّوا عن هذه الرُّوح،
وتخلَّوا عن هذا الدَّور انتكَسَت حالُهم، ولم تتمَّ لهم نهضةٌ بعد عُصور الانحِطاط؛
لأنهم نحَّوا الإيمانَ تأسِّيًا بباقِي الأُمم، فلا حفِظوا الدين، ولا كسَبُوا الدنيا،
طرَقُوا مسالِكَ القومية والشُّيوعيَّة والعلمانيَّة، فإذا دُرُوبُهم يَباب، ومجدُهم سَرَاب.
لقد أدركَ أعداءُ الإسلام حقيقةَ الإيمان وأثرَه في حياة المُسلمين،
وماذا صنعَ بأوائلِهم، وكيف صنعَ أوائلُهم به، وأدرَكوا أنه روح الأمة وسرُّ قوَّتها،
فاستَهدَفوا عقيدةَ الأمة في حربٍ شَعواء، واستخدَموا كلَّ وسائل الشُّبُهات والشَّهَوات،
عبرَ الكِتابات والقَنَوات، والبرامِج والخُطَط المُمنهَجة، حتى نبَتَت نابِتةٌ الزَّيغ والإلحاد،
ونجَمَ النفاق، وظهرَ للتَّشكيكِ رُؤوسٌ ومدارِس تنسِفُ التوحيد، وتُزعزِعُ اليقين،
وتُحيلُ القلوبَ إلى هشيمٍ تلتهِمُه النارُ من أول شَرارةٍ.
وفي كل يومٍ ترى أو تسمعُ باقِعةً إلحاديَّة، أو فِكرةٍ شيطانيَّة، في رَتابَةٍ تُدرِكُ معها
أن الأمرَ ليس خطأً فرديًّا؛ بل عدوانًا مقصودًا، ولقد كان يستحيلُ بالأمس
أن تسمعَ هذا الزَّيغ، بَيْد أن الأعداء عرَّضُوا الأمةَ للسِّنين العِجاف،
والأزمات العَضُود، وشغَلُوها بالملاهِي والتسالِي، واللَّهاثِ خلف لُقمة العيش وحُطام
الدنيا. وخُلِق جيلٌ هزيلٌ زهيدٌ في دينِه، يَهابُ كلَّ الأديان ولا يهَابُ من عقيدتِه.
إن الإلحادَ آفةٌ نفسيَّةٌ، وليس شُبهةً علميةً، إن الله يأمرُ بأن تكون العقيدةُ هي رابِطةَ
التجمُّع، ولكنَّ قومًا يُريدون استِبعادَها وإحلالَ النَّزَعات القوميَّة والعُنصريَّة،
وإن الله يأمرُ بالعِفَّة والحِشمَة والفَضيلة،
ولكنَّ الذين يُحبُّون شُيُوع الفاحِشة يستنجِدون بالمُساواة والرَّغبة في الإنتاجِيَّة
ولو على حساب الفضيلة، ودخلَ الدينُ في مِحنةٍ هائِلةٍ،
حتى صارَ حُماةُ الإسلام يقِفُون عند آخر خُطوط الدِّفاع.
وإذا حقَّقتْ طائفةٌ من الأمة بعضَ ما تصبُو إليه من الإيمان،
واختارَت ما تُصلِحُ به دينَها ودُنياها بادَرَ شانِئُوها لزرع الفِتَن والاضطرابات،
ومنع الأمة من العودة إلى سرِّ قوَّتها وروح نهضَتها،
وقمع الحقِّ بكل وسيلةٍ ولو بالتدخُّلات العسكريَّة، في مُبادراتٍ سريعةٍ لافِتةٍ للنظر،
ضارِبين بالعُهود والمواثِيق، والقوانين والمُعاهَدات والأعراف عرضَ الحائِط،
مُصادِرين للحريات واختِيار الإنسان، في تناقُضٍ عجيبٍ في المواقِف.
وها أنت ترَى شعبَ سُوريا المظلوم يئِنُّ منذ عامَين تحت الظلم والقهر والقتل،
ولا يرغَبُ العالَمُ في إنهاء هذه المظالِم ولا يُريد؛ لأن له حِساباتِه الأنانيَّة،
ومقاصِدَه اللَّئِيمة، وليس للأخلاق والقِيَم عنده ميزانٌ إلا للتزيُّن والدِّعاية
وذرِّ الرَّماد في العُيون.
إن التخاذُلَ عن نصر المُستضعَفين في سُوريا مع سُرعة التدخُّل في
غيرها لهُوَ عُنصريَّةٌ مفضُوحةٌ، وحَيفٌ دوليٌّ وتواطُؤٌ مكشوف،
وهذا يُنمِّي الكراهية والعِداء، وينسِفُ جُهودَ التقارُبِ والتعايُشِ والسلام.
إن على الصادِقين أن يُطفِئوا نارَ الفتن، وأن يتحرَّكوا سِراعًا للعمل الجادِّ
لكل ما يُحيِي القلوبَ ويُطهِّرُها، ويُزكِّي النفوسَ ويُجمِّلُها،
ويُعيدُ للأمة عِزَّتَها وكرامتَها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحِكمة،
أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.