ألقى فضيلة الشيخ الدكتور عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان :
والتي تحدَّث فيها عن غزو الأحزاب وما تبثُّه من آمالٍ في قلوب المسلمين اليوم
وهم يُواجِهون واقِعَهم الأليم أمام تكالُب الأعداء من كل حدبٍ وصوبٍ،
وبيَّن أنها تُثبِّت القلوب، وذكرَ شيئًا من الأحداث التي جرَت فيها مما صوَّره لنا القرآن،
وذُكِرَ في سيرة المُصطفى - صلى الله عليه وسلم .
الحمد لله على نعمة الصيام والقيام، أحمده - سبحانه - وأشكرُه إليه المرجعُ والمآب،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعلَ الليلَ والنهارَ آيةً لأُولِي الألباب،
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه
ردَّ الله عنه وعن المؤمنين كيدَ الذين كفروا بغيظِهم يوم الأحزاب،
صلَّى الله عليه وعلى خيرِ آلٍ وأصحاب.
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله،
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
رمضانُ خيرٌ كلُّه، وفضلٌ كلُّه، ومن صامَ وقامَ إيمانًا واحتِسابًا فإنه ينالُ من هذا الفضل؛
( كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزِي به )
وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدلَ له )
( الصيام والقرآن يشفَعَان للعبد يوم القيامة )
( ثلاثُ دعواتٍ مُستجابات: دعوةُ الصائم، ودعوةُ المُسافِر، ودعوةُ المظلوم )
( إن الله وملائكتَه يُصلُّون على المُتسحِّرين )
( إن في الجنَّةِ بابًا يُقال له الريَّان يدخلُ منه الصائِمون يوم القيامة )
وأمَّتُنا اليوم حين تعصِفُ بها المِحَن، وتُحيطُ بها الفِتَن
فهي بحاجةٍ إلى تعزيز الثَّبات في النفوس،
ولعلَّنا نجِدُ هذا المعنى وغيرَه في غزوة الأحزاب أو الخندق
التي وقعَت في الخامس من الهِجرة، وكانت معركةً حاسِمةً فاصِلة:
عددٌ قليلٌ، وأعداءٌ كُثُر، التقَت مصالِحُهم ومنافِعُهم وأهواؤُهم على كراهيةِ الإسلام،
وتحزَّبوا لقتال المسلمين، أو مُحاولة تشويهِه لتنحِيَته عن الحياة.
أعداءُ الإسلام مِلَّتُهم واحدة أيًّا كان منشؤُهم أو مُعتقدُهم، الخيانةُ مذهبُهم،
والغدرُ سجِيَّتهم، والمكرُ والخديعةُ والتلبيسُ مطيَّتُهم، تذوبُ بينهم الفوارِقُ والعداوات،
ويتحالَفُون لحرب الإسلام، قال الله تعالى:
{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }
{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا }
صراعٌ بين الحق والباطل، وتدافُعٌ بين جُند الله وجُند الشيطان،
تآلَبَ الأحزاب، وحاصَروا المدينة قُرابَة شهر، وابتُلِي المُسلِمون فيها ابتِلاءً عظيمًا،
مع جُوعٍ شديدٍ وبردٍ قارِسٍ:
{ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا }
جمع الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه يُشاوِرُهم –
وهو المُؤيَّدُ بالوحي المُسدَّدُ به - ليُؤصِّلَ للأمة هذا المبدأ العظيم،
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }
الشُّورَى تُستجمَعُ فيها طاقاتُ العقول، وتلتئِمُ معها الخِبرات،
وتنطلِقُ في آفاقِها الحلُولُ والآراء النيِّرَة،
ثم يأتي بعد ذلك العزمُ والمُضِيُّ مع التوكُّل على الله،
{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
وفي ظلِّ الشُّورى أعملَ سلمان الفارسيُّ عقلَه في خدمة الإسلام؛
فأشار - رضي الله عنه - بفكرٍ سديدٍ، وخُطَّةٍ مُحكَمةٍ تتمثَّلُ في حفر الخندَق،
وفرِحَ المُسلِمون بذلك فرَحًا عظيمًا. حفَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم –
مع أصحابِه الخندق، فأعطَى بذلك القائدُ القدوةَ العمليَّة بمُشارَكة أصحابِه
البذلَ والتعبَ والألمَ والأملَ، فبثَّ فيهم روحَ الحياة والهمَّة العالية، ولم يتميَّز عنهم.
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُردِّد أثناء
حفر الخندَق أبياتَ عبد الله بن رواحَة - رضي الله عنه -:
اللهم لـولا أنـت مـا اهـتـدَيـنـا ولا تـصـدَّقــنــا ولا صـلَّــيــنَــا
فـأنـزِلَـن سـكـيـنــةً عـلـيـنــا وثـبِّــتِ الأقــدامَ إن لاقَـيــنَــا
إن الأُلَـى قـد بـغَــوا عـلـيـنــا وإن أرادوا فــتــنـــةً أبَــيْــنَـــا
والمُسلِمون يردُّون عليه :
نـحـن الـذيـن بـايَـعـوا مـحـمــدًا عـلـى الإسـلام مـا بـقِـيـنـا أبـدًا
إذا اشتدَّت الكُروب، وتعمَّقَت المِحَن، يُطِلُّ النِّفاقُ برأسِه، ويخرجُ من قُمقُمِه،
ويشتدُّ ساعِدُ المنافِقين بمُمارسَة الغدرِ والخِيانة، بالدعيات الكاذِبَة،
والإرجاف وإثارة البَلبَلة بين المُسلمين للعمل على شَتَات الشمل،
وفُرقة الصفوف، وتفريق الكلمة.
والإرجافُ كما يكونُ بالأقوال يكونُ بالأفعال؛ فإرجافُ الأقوال كنقل الأخبار،
وأعظمُ ما يكونُ الإرجاف وأشدُّ ما يكون ذنبًا على الإنسان
ألا يكونَ على بيِّنةٍ من نقلِها فينقُلَها. ويكونُ الإرجافُ بالفعل وذلك بالاضطراب،
والقلق، والخوف، وظهور علامات الفَزَع.
إذا حمِيَ الوَطيسُ افتَضَحَ أمرُ المنافقين في التحريضِ على الهُروب،
والتخويف من المصير، والترويع من قوَّة العدوِّ وبَطشِه،
{ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ
يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا }
يكشِفُ القرآن ضعفَ حُجَّتهم، ويصِفُهم بأنَّهم أهلُ احتِيالٍ وجُبن،
{ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا }