[آل عمران: 164] .
و إنَّ في كلِّ جانب من جوانب حياتِه <IMG width=14 height=14> عِلمًا و حِكمةً و هدًى و رحمة و دَرسًا و عبرة .
عبادَ الله ، لما أشرَقَتِ الدَّنيا برسالة النبيِّ <IMG width=14 height=14> ضياءً و ابتهاجًا
و دَخَل الناس في دين الله أفواجًا و سَارَت دَعوتُه مسيرَ الشمس في الأقطار
وليبلُغ دينه القويم ما بلَغ الليل و النهار، بعد أن بلَّغ رسول الله <IMG width=14 height=14> الرسالَةَ
و أدَّى الأمانة و نصح الأمّة و كشف الله به الغمّةَ و أصبح الناس على المحجّة البيضاء
ليلها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلا هالك ، بعد أن قضى ثلاثًا و عشرين سنَة
في عبادة ربِّه و تلقّي وحيه و الجهاد في سبيله و هداية الخلق ،
بعد أن أحبَّه الناس و خالَطَ حبُّه شغافَ قلوبهم ،
و قد كان لهم أشفَقَ مِنَ الوَالِدِ و أرحَمَ من الوالِدَة ،
عندها نزَلَت بالمسلمين أعظمُ مصيبة و أكبر فَاجعة ،
و ذلك حين أذِن الله تعالى لنبيِّه بفراقِ هذا العالَم و أنزَلَ عليه سورةَ النصر
إشعارًا له بأنه فرَغ من مهَمَّتِه في الدّنيا ، و أنّه سيودِّع أصحابَه قريبًا ،
و أنه مُفارق لهذا العالم الفاني و راجعٌ إلى الله و لاحِق بالرفيقِ الأعلى
ليجزيَه الجزاء الأوفى :
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا <IMG width=14 height=14>
[سورة النّصر] .
و هكذا الأعمالُ الكِبارُ تختَم بالتّسبيح و الاستغفار .
عبادَ الله ، إنَّ الحديث عن وفاة سيِّد البشر لأجل ما فيها من العظات و العبر ،
لا للتَّحزُّن و استدرارِ العواطف ، و كما كانت حياته <IMG width=14 height=14> دعوةً و جهادًا ،
فكذلك وفاتُه كانت هدايةً و إرشادًا .
و لقد أشار النبيّ <IMG width=14 height=14> إلى اقتراب أجله بما أعلَمَه الله من قربه
كما في صحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ <IMG width=14 height=14> كان يقول في حجة الوداع :
(( خذُوا عني مناسككم ؛ لعلّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا )) ،
و في لفظ : (( فإني لا أَدري لعلّي لا أحجُّ بعد حجّتي هذه )) ،
و طفِق يودّع الناس ؛ لذا سميت حجّة الوداع . و لما نزلت :
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا <IMG width=14 height=14> [المائدة: 3]
بكَى عمر رضي الله عنه و قال : ليس بعد الكمالِ إلا النقص ؛
مستشعرًا قُربَ أجل النبي <IMG width=14 height=14> بانتهاء مهمّته .
و في حديثِ عائشةَ رضي الله عنها المخرَّج في الصحيحَين
قالت : أقبلَت فاطمة رضي الله عنها تمشِي كأنَّ مشيتَها مشيُ النبيِّ <IMG width=14 height=14>
فقال : (( مرحبًا بابنَتي )) الحديث ،
إلى أن قالت فاطمة رضي الله عنها : أَسرَّ لي <IMG width=14 height=14> :
(( إنَّ جبريلَ كان يعارضني القرآن كلَّ سنة مرةً ، و إنه عارَضني العامَ مرتين ،
و لا أُراه إلاّ حَضَر أجلي ، و إنك أوّلُ أهل بيتي لحاقًا بي ))
فبكيتُ، فقال :
(( أمَا ترضين أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين ؟! ))
فضحكتُ لذلك .
أيّها الإخوة ، في آخرِ شهر صفر خرج النبي <IMG width=14 height=14> إلى البقيع
مِن جوف الليل فدعا لهم و استغفَر الله له و لهم ،
وقال :
(( ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناسُ فيه ،
أقبلتِ الفتن كقِطَع الليل المظلم ، يتبع آخرُها أوَّلَها، الآخرة شرٌّ من الأولى ))
رواه الإمام أحمد و الطبراني و الحاكم .
كما دَعَا لشهداءِ أحُد كالمودِّع لهم . ثم أخذتِ النبيَّ <IMG width=14 height=14> حمّى شديدةٌ و صُداع شديد ،
و كان يطوف على نسائِه و قد ثقُل و اشتدَّ به المرض ،
فدعاهنّ و استَأذنهن أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذِنَّ له .
فانظر إلى عدلِه <IMG width=14 height=14> و حِرصه على جَبر الخواطر و العشرة الحسنة
حتى في الحالِ التي يُعذر فيها .
و مع ما كان به من شدة المرض إلاّ أنه كان يصلّي بالناس ،
فلما عَجز يومًا عن الخروج ـ كما في الصحيحين ـ
قال : (( أصَلَّى الناس ؟ ))
قيل: لا ؛ هم ينتظرونَك يا رسولَ الله ،
قال : (( ضَعوا لي ماءً في المخضب )) ،
ففعلوا فاغتسل ، ثم ذهب لينوب ـ أي: لينهض ـ فأغمِيَ عليه ،
ثم أفاق فقال : (( أصلَّى الناس ؟ ))
قيل : لا ؛ هم ينتظرُونك ،
فاغتسل ثانية ثم أغمِيَ عليه ، و ثالثة كذلك ،
و في كلِّ مرّةٍ يسأل عن الصلاةِ ،
فأرسل إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يصلّيَ بالناس ، فصلّى بهم أيّامًا ،
ثم إنَّ النبيَّ <IMG width=14 height=14> وجد في نفسِه خفّةً ، فخرج يُهادى بين رجلين
هما العباس و علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ،
فلمَّا رآه أبو بكرٍ رضي لله عنه ذهَب ليتأخّر ،
فأومأ إليه النبي <IMG width=14 height=14> بأن لا يتأخّر ، و أُجلِسَ إلى جنبه ، و أُتِمَّت الصلاة .
و في هذا إشارةٌ إلى فضلِ أبي بكر رضي الله عنه و أحقّيَّته بالإمامة بعدَ النبيِّ <IMG width=14 height=14> ،
و كذا حرصُ النبي <IMG width=14 height=14> على صلاة الجماعة ،
و اهتمامُه بصلاة أصحابه و اجتماعهم على إمام واحد .
و في الصحيحين عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال :
خرَج علينا رسولُ الله <IMG width=14 height=14> في مرضه الذي مَاتَ فيه و نحن في المسجِد
عاصبًا رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر، فحمد الله و أثنى عليه و قال :
(( إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدنيا و بين ما عنده ، فاختار ما عندَ الله )) ،
فبكَى أبو بكر الصدّيق و قال : فدَيناك بآبائِنا و أمّهاتنا يا رسول الله ،
فقال النبيُّ <IMG width=14 height=14> :
(( يا أبا بكر ، لا تبكِ ؛ إنَّ أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبتِه و مالِه أبو بكر ،
و لو كنتُ متّخِذًا خليلاً من أمتي لاتَّخذتُ أبا بكر ، و لكن أخوّةُ الإسلام و مودَّته ،
لا يبقَى في المسجد بابٌ إلاّ سُدَّ إلا بابَ أبي بكر )) .
و في الصحيحين أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه
أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان يُصلّي لهم في وجَع النبي <IMG width=14 height=14> الذي تُوفِّيَ فيه ،
حتى إذا كان يومُ الاثنين و هم صفوفٌ في الصلاة
فكشَف النبيُّ <IMG width=14 height=14> سِترَ الحجرة ينظرُ إلينا و هو قائمٌ ، ثم تبسَّم يضحَك ،
فهَممنا أن نفتَتِن من الفرح برؤيةِ النبيِّ <IMG width=14 height=14> ،
فنكَص أبو بكر على عقِبَيه ليصِلَ الصفّ ، و ظنَّ أن النبيَّ <IMG width=14 height=14> خارج إلى الصلاة ،
فأشارَ إلينا النبيُّ <IMG width=14 height=14> أن أتِمّوا صلاتَكم ، و أرخى السّترَ ، فتوفِّيَ من يومِه .
و قد كان فرَحُهم رضي الله عنهم ظنًّا أنّه شُفيَ <IMG width=14 height=14> ،
و ما علِموا أنها نظرةُ الوداع الأخيرة . لقد تبَسّم النبي <IMG width=14 height=14> حين اطمَأنّ عليهم
و رآهم متراصِّين في الصلاة خلفَ إمامهم أبي بكرٍ رضي الله عنه ،
وملأَ عينَه و قلبه برؤيتهم . و كانت هذه آخِرَ ابتسامةٍ له في الدنيا ؛
حيث فرِح بحال أمّتِه المستقيمة المجتمِعة المتراصّة خلف إمامها .
و لقد شاء الله تعالى أن تكونَ لحظةُ الوداع تلك في مشهدِ الصلاة .
و كان <IMG width=14 height=14> يقول في مرضه الذي مات فيه :
(( يا عائشةُ، ما أزال أجِد ألَمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر،
فهذا أوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من ذلك السمّ )).
و هكذا رُزِق النبيُّ <IMG width=14 height=14> الشهادةَ بسبب سُمّ اليهودِ الخوَنَة نقَضَةِ العهود
قَتَلَةِ الأنبياء عليهم من الله ما يستحقون ، فهم أخبثُ الأمَم طويَّةً ،
و أردَاهم سَجِيّة ، وأبعدُهم من الرحمة ، و أقربهم من النِّقمة ، عادَتُهم البغضاء ،
و ديدنهم العداوةُ و الشحناء ، بيتُ السّحر و الكذب و الحِيَل ، لا يرونَ لنبيٍّ حرمةً ،
و لا يرقُبون في مؤمن إلاًّ و لا ذمّة .
و لما اشتدَّ الوجعُ على النبيِّ <IMG width=14 height=14> كما في الصحيحين
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : دَخلتُ على رسولِ الله <IMG width=14 height=14> و هو يوعَك ،
فحسَستُه بيدي ،
فقلت : يا رسول الله ، إنك تُوعَك وَعكًا شديدًا !
فقال <IMG width=14 height=14> : (( أجل ، إني أوعُك كما يُوعَك رَجُلان منكم )) ،
قال : فقلت : ذلك أن لك أجرين ؟
قال <IMG width=14 height=14> : (( أجل ، ذلك كذَلك ، ما مِن مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها
إلا كفّر الله بها سيئاتِه و حُطّت عنه ذنوبه كما تحطُّ الشجرةُ ورقها )) .
و في هذا تعزية لأهل المصائب و الابتلاءات و الأسقامِ و الأمراض .
أيّها المسلمون ، و مع مقاساةِ النبي <IMG width=14 height=14> الشدائدَ و معاناته آلامَ الموت
إلاَّ أنه لم يَغفَل عن توجيهِ أمّتِه و لم يَتَوَقَّف عَن أداء رسالتِه ،
بل عاد يؤكّد على القضيِّة الكبرى و التي بدأ بها دعوتَه و سايَرته طولَ حياته ،
إنها قضيةُ التوحيد و سدِّ أبواب الشرك ،
عن عائشةَ و ابن عباس رضي الله عنهما قالا :
لما نُزل برسول الله <IMG width=14 height=14> طفِق يطرَح خميصةً له على وجهه ،
فإذا اغتمّ كشَفَها عن وجهِه ،
و هو كذلك يقول :
(( لعنَةُ الله على اليهودِ و النصارى ؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ )) ؛
يحذِّر ما صعنوا .
رواه البخاري و مسلم .
إنَّ النبيَّ <IMG width=14 height=14> و هو في الكرب العظيم يعرِف مصائدَ الشيطان
و ما يُمكِن أن يسوِّل به للأمّةِ إذا جرّها إلى الجاهليةِ الأولى ؛
إذ إنهم حين يصِلون إلى حالِ عبادتهم للقبور و الطوافِ بها و دعائها
فقد فقَدوا دينهم و هم لا يعلمون .
و في الصحيحين أنَّ النبي <IMG width=14 height=14> أوصى عند موته
بقوله : (( أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب )) ،
و كان آخر ما أوصى به و كرَّره مرارًا الصلاة ،
ففي حديث أنس بنِ مالك رضي الله عنه قال :
كانَت عامّة وصية رسول الله <IMG width=14 height=14> حين حضَرَه الموت :
(( الصلاةَ الصلاةَ و ما ملكت أيمانكم ، الصلاةَ الصلاةَ و ما ملكت أيمانكم )) ،
حتى جعل يغَرغِر بها صدره ، و ما يكاد يفيض بها لسانُه .
رواه النسائيّ و ابن ماجه بسند صحيح .
و صدَقَ الله :
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ <IMG width=14 height=14>
[التوبة: 128] .