صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ
قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
"الهزء: السخرية، يُقال: هزِيءَ به واستهزأ" .
وقال ابن جرير الطبري في تفسير الآية
بعد أن ذكر الاختلاف في صفة الاستهزاء:
"والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أنَّ معنى الاستهزاء
في كلام العرب: إظهار المستهزِئ للمستَهْزَأ به من القول والفعل ما
يرضيه ظاهراً، وهو بذلك من قِيِله وفعلِه به مورثه مساءة باطناً،
وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر...".
"وأما الذين زعمـوا أنَّ قول الله تعالى ذكره: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ إنما هو
لى وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة؛
فنافون عن الله عزَّ وجلَّ ما قد أثبته الله عزَّ وجلَّ لنفسه وأوجبه لها،
وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة
ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف
الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك: إنَّ الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم
نرهم، وأخبرنا عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم،
فصدقنا الله تعالى فيما ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء
منه؛ فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف
بمن أخبر أنه أغرقه وخسف به، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟!"
وقال قوَّام السنة الأصبهاني:
"وتولى الذب عنهم ( أي: عن المؤمنين ) حين قالوا:
{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }
{ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ }
{ أَلا إِنَّهُمُ هُمْ السُّفَهَاءُ }
فأجل أقدارهم أن يوصفوا بصفة عيب، وتولى المجازاة لهم، فقال
اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ . وقالسَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ؛ لأن هاتين الصفتين إذا كانتا من
الله؛ لم تكن سفهاً؛ لأن الله حكيم، والحكيم لا يفعل السفه، بل ما يكون منه
وقال شيخ الإسلام رداً على الذين
يدَّعون أنَّ هناك مجازاً في القرآن:
"وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ (المكر) و(الاستهزاء)
و(السخرية) المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على
طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن
لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه
عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلاً؛ كما قال تعالى:
{ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
فكاد له كما كادت إخوته لما قال له أبوه
{ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً }
{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا }
{ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون
َفَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ }
{ الذِينَ يَلْمِزُونَ الـمُطَّوِّعِينَ مِنْ الـمُؤْمِنِينَ فِي الصـَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لا يَجـِدُونَ إِلا جُهـْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَـخِرَ اللهُ مِنْهُمْ }
ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا الاسم؛ كما رُوِيَ عن
ابن عباس؛ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه،
فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون إليه، فيغلق، فيضحك منهم
{ فَالْيَوْمَ الذِينَ آمَنُوا مِنْ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ
هَل ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
إذا كان يوم القيامة؛ خمدت النار لهم كما تخمد الإهالة من القدر،
إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب؛ باطنه فيه الرحمة،
وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: ارجعوا
وقال بعضهم: استهزاؤه: استدراجه لهم، وقيل: إيقاع استهزائهم ورد
خداعهم ومكرهم عليهم، وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في
الآخرة، وقيل: هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه، وهذا كله حق،