فله الحمد بكرة و عشيًّا و بالغدوّ و الآصال ،
و أثني عليه بما هو أهله بلسان الحال و المقال ،
و أشكره على جزيل النوال ، جلّت نعمُه في النفس و الأهل و الولد و المال ،
و أشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له و هو الكبير المتعال ،
و أشهد أنَّ سيّدنا و نبيَّنا محمّدًا عبد الله و رسوله
شريف النسب و كريم الخصال ،
صلَّى الله و سلّم و بارك عليه و على آله و أصحابه خير صحبٍ و آل ،
و التابعين و من تبِعهم بإحسانٍ ما ثبتتِ السنن و تقلّبت الأحوال ،
و سلّم تسليمًا كثيراً .
أمّــــا بعــــد :
فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ و نفسي بتقوَى الله عزّ و جلّ،
فاتَّقوا الله رَحمكم الله ، فللتقوى علامات ، و من علاماتها القوّة مع الدين ،
و الحزم مع اللين ، و العطاء مع الحقّ ، و القصد في الغنى ،
و الطاعة مع النصيحة ، و الصبر في الشدّة ،
و الكامل في الناس من عُدّت سقطاتُه ،
و من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون ،
و مالُ المرء ما أنفقه فاحتسب به أجرًا ،
و أكتسب به شكرًا ، و أبقى فيه ذكرى ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
[الحديد: 28] .
أيّها المسلمون ، الصلاحُ الإنسانيّ ينبُع من أعماق النفوس و من القلوب التي في الصدور ،
تزكو القلوب بالإيمان و أنوار القرآن ، و تتطهّر النفوس بالطيّب من القول
و الصالح من العمل و الحسَن من الخلُق ، مصدرُ النعيم الأكبر في الدنيا
قلبٌ خالطته بشاشةُ الإيمان ، نعيم يغني عن كلّ نعيم ، حتى قال بعض السلف :
" إنّه لتمرّ بي أوقاتٌ أقول فيها : إن كان أهل الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي عيش طيّب .
معاشر المسلمين ، عالَم اليوم يعيش أزماتٍ فكريّةً كما يعيش مشكلاتٍ اقتصاديّة
و مختنقات مالية ، و علاقة الإنسان في ديننا بهذه الدنيا
علاقة عمل و تسخير و بناء و تعمير ،
وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ
[الجاثية: 13] ،
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا
[البقرة: 29] ،
كما أنها في ذات الوقت علاقة أبتلاء و أختبار ،
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
[الملك: 2] ،
وغاية ذلك كلِّه تحقيق العبادة لله عزّ و جلّ ،
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون
[الذاريات: 56] ،
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون
[البقرة: 21] .
و المسلمون في عباداتهم يجمعون بين تحقيق العبودية لله و توحيده و الإخلاص له
و بين شهود المنافع و أبتغاء فضل الله ، ففي الصلاة :
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون
[الجمعة: 10] ،
و في الحجّ
يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ>
[الحج: 27، 28] ،
و في عموم الطاعات :
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
[المزمل: 20] .
و الممدوحون في كتاب الله من عُمّار بيوت الله يبيعون و يتاجرون ،
و لكن
لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار >
[النور: 37] .
من هذه المنطلقات و البواعث ـ أيها المسلمون ـ و من هذه الحِكم و الأحكام
و الربط بين الدين و الدنيا و عمل القلب و عمارة الأرض يستبين طريق الترقّي
في مدارج الكمال المنشود و روافد الطهر المبتغى الذي يحفظ الحياة و يصونها ،
و يربي النفسَ و يعلي قدرها ، و ينشر الطمأنينة ، و يحقّق الرضا .
معاشر الأحبّة ، و هذا مزيد إيضاح و بسطٍ لأرتباط
الدين بالدنيا و العبادة بالعمارة و الزهد بالجدّ و القناعة بالكدّ ،
يقول عليّ رضى الله تعالى عنه في وصف الدنيا و بيان حالها :
( دار صدقٍ لمن صدقها ، و دار عاقبة لمن فهم عنها ، و دار غنى لمن تزوّد منها ،
مسجِد أحبّاء الله ، و مهبط وحيه ، و مصلّى ملائكته ، و متّجر أوليائه ،
أكتسبوا فيه الرحمة ، و رجوا فيها الجنّة ، فمن ذا يذمّ الدنيا و قد آذنت بفراقها
و نادت بعيبها و نعت نفسها و أهلَها ، فمثّلت ببلائها البلاء ،
و شوّقت بسرورها السرور ، فذمّها قومٌ عند ندامة ، و حمدها آخرون فصَدَقوا ،
و ذكّرتهم فذَكَروا ) ،
و يقول أبو سليمان الدّارَاني :
" الدنيا حِجابٌ عن الله لأعدائه ، و مطيَّةٌ مُوصِلةٌ لأوليائِه ،
فسبحانَ من جعل شيئًا واحدًا سَببًا للأتصال و الأنقطاع ! " ،
و جاء في الحديث مرفوعًا و موقوفًا عند أحمد و الترمذي و أبن ماجة :
( الزَّهادةُ في الدنيا ليسَت بتحريمِ الحلال و لا بإضاعة المال ،
و لكن الزَّهادَةَ في الدنيا أن لاّ تكونَ بما في يدَيكَ أوثَقَ مما في يدِ الله ،
و أن تكونَ في ثوابِ المصيبَةِ إذا أنت أُصِبتَ بها أرغَبَ فيها لو أنها بقِيَت لك ،
و أشدَّ رجاءً لأجرِها و ذُخرها من إيّاها لو بقِيَت لك ،
و أن يكونَ مادحُك و ذامُّك في الحقِّ سواء ) .
و هذه كلها ـ رحمكم الله ـ من أعمال القلوب ، لا مِن أعمال الجوارح ،
فأفقهوا و تأمَّلوا .
و عن أبن عباس رضيَ الله تعالى عنهما مرفوعًا :
(( مَن سَرَّه أن يكونَ أغنى الناسِ
فليكن بما في يَدِ الله أوثقَ منه بما في يدِه ))
أخرجه الحاكم و البيهقيّ .
عباد الله ، الدنيا و الزهد فيها يكونُ في ستّة أشياء :
النّفس ، و الناس ، والصّورة ، و المال ،
و الرّياسة ، و كل ما دون الله عز و جل ،
يقول ابن القيّم رحمه الله مُعلِّقًا على ذلك :
" و ليس المرادُ رفضَها ، فقد كان داود و سليمان عليهما السلام من أزهد
أهلِ زمانهما و لهما من الملك و المال و النساء ما لهما ،
و كان نبيُّنا محمد صلى الله عليه و سلم من أزهدِ البَشَر على الإطلاق
و قدوةَ الزاهدين و كان يأكل اللحم و الحلوى و العسل
و يحبّ النساء و الطيب و الثيابَ الحسَنَة ،
و كان عليّ بن أبي طالب و عبد الرحمن بنُ عوف و الزبير و عثمانُ بن عفان
رضي الله عنهم أجمعين من الزُّهَّاد على ما كان لهم من الأموال الكثيرة " ،
كل هذا كلام أبن القيم يرحمه الله .
و قد قيل للإمام أحمد : أيكون الرجل زاهدًا و معه ألف دينار ؟
قال : نعم ، على أن لا يفرَحَ إذا زادت ، و لا يحزَنَ إذا نَقَصَت ،
قال يرحمه الله : و لقد كان الصحابةُ أزهَدَ الأمّة مع ما عِندهم من الأموال .
و في عبارةٍ لسفيان الثوريّ : أيكون الرجل زاهدًا و له مال ؟ قال : نعم ،
إذا كان إذا ابتُلِي صَبَر ، و إذا أُعُطِي شَكَر .
و في عبارةٍ أخرى له : الزاهد إذا أنعَمَ الله عليه نعمةً فشكرها ،
و إذا ابتُلِي ببليَّةٍ صَبَر عليها ، فذلك الزاهد .
ويقول العلامة المناوي يرحمه الله : ليس الزهد تجنُّبَ المال ، بل تساوي وجودِه و عدَمه ،
و عدمُ تعلُّق القلب إليه ، فإنّ الدنيا لا تُذمُّ لذاتها ، فإنها مزرَعَة الآخرة ،
فمن أخذَها مُراعيًا قوانينَ الشرع أعانَته على آخرته ، قال : فلا تتركها ؛
فإنّ الآخرة لا تُنال إلا بها ؛ و لهذا قال الحسن : ليس من حُبِّك للدّنيا طلبُك ما يُصلِحُك بها ،
و قال سعيد بن جُبير: مَتَاعُ الْغُرُور : ما يُلهيك عن طلب الآخرة ،
و ما لم يُلهِك فليس بمتاع الغرور ، و لكنه متاعُ بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه .
عبادَ الله ، مَن حقَّق اليقينَ وثقَ بالله في أمورِه كلِّها ، و رضِيَ بتدبيره ،
و لم يَتَعلَّق بمخلوقٍ ، لا خوفًا و لا رجاءً ، و طلَب الدنيا بأسبابها المشروعةِ ،
و من رُزِق اليقين لم يُرضِ الناسَ بسخط الله ، و لم يحمَدهم على رزق الله ،
و لم يذُمَّهم علَى ما لم يُؤتِه الله ، و قد علِمَ أنَّ رزق الله لا يجُرُّه حِرصُ حريص ،
و لا ترُدُّه كراهيّة كارِه ، فكفى باليقين غِنى ، و من غَنِيَ قلبُه غنِيَت يداه ،
و من افتَقَر قلبُه لم ينفعه غِناه . و القناعة لا تمنع ما كُتِب ،
و الحرصُ و الطمَع لا يجلِبُ ما لم يُكتَب ، فما أصابَك لم يكن ليُخطِئَك ،
و ما أخطأَك لم يكن ليُصيبَك ، و ليَخلُ قلبُك ممّا خلَت منه يدَاك .
و بعدُ : أيها المسلمون ، من اعتمَدَ على الله كفاه ، و من سأَلَه أعطاه ،
و من استغنَى به أغناه ، و القنَاعَة كنزٌ لا يفنَى ، و الرِّضا مالٌ لا ينفد ،
و قليلٌ يكفِي خيرٌ من كثيرٍ يُلهِي ، و البرُّ لا يَبلَى ، و الإثم لا يُنسَى ،
و الديَّان لا يموت ، و كمَال الرجل أن يستوِيَ قلبُه في المنع و العطاء ،
و القوّة و الضَّعف ، و العزّ و الذل ، و أطول الناس غمًّا الحسود ،
و أهنؤُهم عَيشًا القنوع ، و الحرُّ الكريم يخرج مِنَ الدنيا قبل أن يُخرَج منها ،
و طولُ الأمل يُنسِي الآخرةَ ،
و إذا ما سألتَ عن البركةِ و صالح الثمرة
أو سألتَ عن ضياع الحقوق و أنتشار الفسوق فانظر إلى الناسَ ،
و أفحَص في القناعة و سلامَةِ الصّدر و تركِ ما يَريب و تجنُّب ما يعيب .
أعوذ بالله العلى العظيم من الشيطان الرجيم ،
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين
[القصص: 77].
نفعني الله و إيّاكم بالقرآنِ العظيم ،
و بهدي سيدنا محمد عبدالله و رسوله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم ،
و أقول قولي هذا ، و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنبٍ و خطيئة ،
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم