عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-26-2018, 12:33 PM
حور العين حور العين غير متواجد حالياً
Senior Member
 
تاريخ التسجيل: May 2015
المشاركات: 59,977
افتراضي خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بعنوان :خُطورةُ التَّحريشِ بين المُسلمين

خُطَبّ الحرمين الشريفين
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين


نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان:

خُطورةُ التَّحريشِ بين المُسلمين ،


والتي تحدَّث فيها عن التحريشِ والمُحرِّشِين، مُبيِّنًا أنَّ هذه السَّوءَة مِن أعظم

مساوِئ العصرِ وكلِّ عصرٍ؛ فهيَ غايةُ أهدافِ إبليس - عليه لعائِنُ

الله - بعدما أَيِسَ مِن عبادة المُسلمين له في جزيرةِ العربِ، كما حذَّرَ

مِن جُنودِ إبليس المُتطوِّعين، مُجلِّيًا صِفاتِهم وأبرز سِماتِهم.



الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من

شُرور أنفُسِنا، ومن سيِّئات أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل

فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

[آل عمران: 102].

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا

زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ

بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }


[النساء: 1].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ

أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }


[الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن أحسنَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهَديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،

وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة،

وعليكم بجماعةِ المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة،

{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ

وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }


[آل عمران: 105].

أيها الناس:

لا تجِدُون مُجتمعًا راقيًا، مُتألِّقًا مُتكاتِفًا مُتآلِفًا، إلا كان لصفاءِ قُلوب ذَوِيه،

وحُسن نواياهم قَصَبُ السَّبْق لرُقِيِّه وتألُّقِه؛ فإنَّ الأخلاقَ ألطَفُ ما يغُورُ

في القُلوبِ، ويأخُذُ بالألبابِ.

وإنه مهما بلَغَت الشُّعوبُ مِن التقدُّم المادِّي في العلمِ والصناعة،

والتجارة والحضارة، فإنها ستكون صِفرًا بلا أخلاقٍ،

وعجَلةً تدُورُ ولا تَلوِي على شيءٍ.

وإن كلَّ مُجتمعٍ لم يزَلْ على فِطرتِه التي فطَرَ الله الناسَ عليها؛ مِن خُلُقٍ كريمٍ،

وسجايَا فاضِلة، فهو بخَيرٍ ما لم يعتَرِضه ما يُكدِّرُ صَفوَه،

ويُنغِّصُ هناءَه، ويثلِمُ لُحمتَه، ويُفرِّقُ مُجتمعه.

وهو لم يزَلْ بخيرٍ كذلك ما لم يُبْلَ بالمُشوِّشِين المُهوِّشِين، سُودِ القُلوب،

حِدادِ الألسُن، مَن جعَلُوا شِعارَهم: القَالَةَ بين الناسِ، والاتِّزارَ بالتجيِيشِ والتحريشِ.

نعم - عباد الله -! التحريشُ الذي ما دخَلَ في مُجتمعٍ إلا فرَّقَه، ولا

أُسرةٍ إلا مزَّقَها، ولا صُحبةٍ إلا قلَبَها عداوةً وبَغضاء.

إنه التحريشُ الذي يُوغِرُ الصُّدور، ويُذكِي نِيرانَ التنابُز والتدابُر والتصارُع.

التحريشُ الذي لا رابِحَ فيه مِن جميعِ أطرافِه. التحريشُ الذي تُغتالُ

به بيوتٌ، ورِفاقٌ، ورِجالاتٌ، ونساءٌ.

التحريشُ الذي يضُرُّ ولا ينفَع، ويفتُقُ ولا يُرقِّعُ، وينكَأُ ولا يُضمِّدُ،

ويُفسِدُ ولا يُصلِحُ، ويُحزِنُ ولا يُفرِحُ، ويُبكِي ولا يُضحِكُ.

إنه التحريشُ - عباد الله - الذي هو: إذكاءُ الخِصام، وإغراءُ العداوةِ

والبَغاء، بتألِيبِ بعضِ النُّفُوسِ على بعضٍ.

التحريشُ كلمةٌ لا تحمِلُ إلا معنَى الشرِّ، فهي لا خيرَ فيها؛ إذ لم يُحمَد

التحريشُ لا في شرعٍ، ولا عقلٍ، ولا فِطرةٍ، فالتحريشُ شرٌّ كلُّه، وداءٌ كلُّه، وسُوءُ مغبَّةٍ كلُّه.

هو الشرُّ مِن أيِّ الدُّرُوبِ سَلَكتَهُ

فأوَّلُهُ التَّشويشُ والهَجْرُ آخِرُهْ

التحريشُ - يا رعاكم الله - مِهنةٌ شيطانيَّةٌ، ما تلبَّسَ بها أحدٌ إلا أفسَدَ

أيَّما إفساد، وفرَّقَ أيَّما تفريقٍ، وكان في الناسِ نُفرةٌ مِنه تقُودُهم إلى أن

يسلُكُوا طريقًا غيرَ طريقِه، يتَّقُون كلَّ مجلسٍ يكون هو أحَدَ حُضورِه، وإن بُلُوا به

في مجلسٍ رغمًا عنهم، فإنهم لا يتردَّدُون في اتِّقاءِ مُحادثتِه؛

فإن هذا وأمثالَه يعُوذُ مِنهم عُقلاءُ الناسِ - ولا شكَّ -.

كيف لا، وهم يرَون كثرةَ ضحاياه مِن الأزواجِ، والأصحابِ،

والجِيران، والشُّركاء، والأقران؟!

المُحرِّشُ - عباد الله - رجُلُ سُوءٍ، جعَلَ الحسدَ رائِدَه في إفسادِ

ما هو صالِحٌ، وإمالَةِ ما هو مُعتَدِلٌ، وإرباكِ ما هو مُستقِرٌّ.

هو وأمثالُه جَمرةٌ في رمادِ المُجتمع، ونافِخُ كِيرٍ بين المجمُوع، قُربُه

خسارة، وبُعدُه فوز.

المُحرِّشُ كالجَلَّالة، تَقتاتُ على الأوساخِ والرَّجِيع، وهو كالشَّرَر لا يقَعُ

على شيءٍ إلا أحرَقَه، قد بذَلَ نفسَه ووقتَه، وباعَ ذِمَّتَه ودينَه ليُصبِحَ

جُنديًّا مِن جُنودِ إبليس المُتطوِّعين.

لا تراهُ إلا حلَّافًا مَهينًا، همَّازًا مشَّاءً بنَميم، إن لم يقُدْه الحسَدُ قادَه البُغضُ،

وإن لم يكُن ذلك قادَه حُبُّ الشرِّ للآخرين وكُرهُ الخَير لهم.

لا يهنَأُ في يومِه ما لم يكُن فيه صيدٌ ثَمينٌ، يُفرِّغُ به كلَّ ما بِداخلِه مِن

ضغينةٍ وكُرهِ الخَير للناسِ، وإن زعَمَ أن الخيرَ للمُحرَّشِ له أو عليه؛

فإن ذلكم طَبعُ اللَّئيم لا خَيرَ فيه البتَّة، وإن بذَلَ صاحِبُه ألفَ يَمينٍ على

حُسنِ نيَّتِه.

ولقد أحسَنَ مَن قال:

إنَّ الذين ترَونَهم خِلَّانَكُمْ



يَشفِي صُداعَ رُؤوسِهم أن تُصرَعُوا



قَومٌ إذا دَمَسَ الظَّلامُ عليهِمُ



حَدَجُوا قنافِذَ بالنَّميمةِ تَمزَعُ



عباد الله:

إنَّ لكم أن تتصوَّرُوا خُطورةَ التحريشِ بين الناسِ، مِن خلال تأمُّلِ يأسِ

إبليس - عليه لعائِنُ الله - مِن أن ينالَ بُغيتَه في صَرفِ الناسِ عن

عبوديَّتهم لله إلى عبوديَّتهم له، ليَصُبَّ جامَ انتِقامِه في تحقيقِ التحريشِ بينَهم.

كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:

( إنَّ الشيطانَ قد أَيِسَ أن يَعبُدَهُ المُصلُّون في جَزِيرةِ العرَبِ، ولكن

في التَّحرِيشِ بينَهم )؛

رواه مسلم.

لقد أجلَبَ إبليسُ بخَيلِهِ ورَجِلِه، ووعَدَ ومنَّى، وما وعَدَ إلا غُرورًا، فوقَعَ

في حبائلِهِ وشَرَكِه نفوسٌ مريضةٌ، أبَتْ إلا التدثُّرَ بالقَبيحِ مِن الأخلاقِ،

والانضِمامَ تطوُّعًا إلى جُنودِ إبليس مِن الجِنِّ والإنسِ، حتى جعَلُوا

التحريشَ في نفُوسِهم عهدًا بينَهم وبينَه، وأقامُوه على ثلاثِ أثافِي،

هي: الغِيبة، والنَّميمة، والبُهتان، وأخَذًوا يستَهدِفُون الغافِلِين الآمِنِين

مِن عبادِ الله، فأوقَعُوا بينَهم عداوةً وبَغضاءَ قلَبُوا بها الصَّديقَ عدوًّا،

وفرَّقُوا بين المرءِ وزوجِه. وكفَى بذلك إفكًا وظُلمًا وزُورًا.

لقد حسَمَ الإسلامُ سَوءَةَ التحريشِ؛ فنهَى عنه وذمَّه، وجعَلَه ضَربًا مِن

ضُروبِ الخِيانةِ، كما قال الله عن امرأةِ نُوحٍ وامرأةِ لُوطٍ:

{ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا }

[التحريم: 10].

إنها ليسَت خِيانةَ زِنا أو فاحِشة، كلا؛ فما كان لأزواجِ الأنبِياء الوقوعُ

في ذلكُم، وإنما هي - كما قال ابنُ عباسٍ، وعِكرمةُ، ومُجاهِدٌ، وغيرُهم -:

كانت خِيانتُهما: أنهما كانتا على عَورتَيهما؛ فكانت امرأةُ نُوحٍ تطَّلِعُ على

سِرِّ نُوحٍ، فإذا آمَنَ مع نُوحٍ أحدٌ أخبَرَت الجبابِرَةَ مِن قومِ نُوحٍ به.

وأما امرأةُ لُوطٍ، فكانت إذا أضافَ نُوحٌ أحدًا، أخبَرَت به أهلَ المدينةِ

ممَّن يعملُ السُّوء.

ذلكُم - عباد الله - هو التَّحريشُ، وقد سمَّاه الله خِيانةً، والخِيانةُ صِفةُ

نفاقٍ عمليَّةٍ، ذكرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن آيةِ المُنافِق،

ومِنها قولُه:

( .. وإذا اؤتُمِنَ خانَ )؛

رواه البخاري ومسلم.

وقد قال الله في كتابِه عن المُنافِقِين:

{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ

الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ }


[التوبة: 47].

عباد الله:

قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

( إن إبليسَ يضَعُ عرشَهُ على الماءِ، ثم يبعَثُ سراياه، فأدناهُم مِنه

منزِلةً أعظَمُهم فتنةً، يجِيءُ أحدُهم فيقُولُ: فعَلتُ كذا وكذا، فيقُولُ:

ما صنَعتَ شيئًا )،


قال:

( ثم يجِيءُ أحدُهم فيقُولُ: ما ترَكتُه حتى فرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه )،

قال:

( فيُدنِيه مِنهُ ويقُولُ: نِعْمَ أنتَ) ؛


رواه مسلم.

لقد حرِصَ الإسلامُ كلَّ الحِرصِ على الاجتِماع، وحضَّ عليه كلَّ الحَضِّ،

ونهَى عن كل وسِيلةٍ تثلِمُ ذلكم أو تنقُضُه؛ فنهَى عن التحريشِ بين

الرجُلِ وزوجِه، والخادِمِ وأهلِه، وجعَلَ مَن التَاثَ بذلكم خارِجًا عن نهجِهِ –

صلى الله عليه وسلم -.

فقد روَى أبو داود في سننه : أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -:

( ليسَ مِنَّا مَن خبَّبَ امرأةً على زوجِها، أو عَبْدًا على سيِّدِه ).

إنه لم يُرَ أضَرَّ على دينِ المرءِ، ولا أذهَبَ لإيمانِه مِن قلبِه، ولا أفسَدَ

لمُروءتِه عند الناسِ مِن تدثُّرِه بآفةِ التحريشِ، كيف لا، ومَن بُلِيَ بها

كأنَّه يحلِقُ دِينَه بيدِه رِضًا واختِيارًا؟!

فقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

( ألا أُخبِرُكم بأفضَل مِن درجَةِ الصيامِ، والصلاةِ، والصدقَةِ؟ )،

قالُوا: بلى، قال:

( صَلاحُ ذاتِ البَين؛ فإن فسادَ ذاتِ البَين هي الحَالِقَةُ )؛

رواه أبو داود والترمذي.

قال عطاءُ بن السَائبِ: قَدِمتُ إلى مكَّة فلَقِيَني الشَّعبيُّ فقال: يا أبا زَيدٍ!

أطرِفنا مِمَّا سمِعتَ، قُلتُ: سمِعتُ عبدَ الرحمن بن عبد الله بن سابِطٍ

يقول: لا يسكُنُ مكَّة سافِكُ دمٍ، ولا آكِلُ رِبا، ولا مشَّاءٌ بنَميم، فعجِبتُ

مِنه حين عدَلَ النَّميمةَ بسَفكِ الدماءِ وأكلِ الرِّبا ،

فقال الشَّعبيُّ: لِمَ تَعجَب مِن هذا؟! وهل تُسفَكُ الدماء، وتُركَبُ

العظائِمُ إلا بالنَّميمة؟!

لا إله إلا الله! ما أعظمَ سلامة الصدر - عباد الله -! ولا إله إلا الله!

ما أكرَمَ ذا القلبِ النَّقِيِّ التَّقِيِّ الذي لا غِلَّ فيه ولا حسَد؟! إن رأَى

صدِيقَين سَرَّه اجتِماعُهما، وإن رأى زوجَين دعَا لهما بالبَرَكة،

وأحَبَّ لغَيرِه ما يُحبُّ لنفسِه.

ألا إن المُقرَّرَ - عباد الله -: أن النهيَ عن الأدنَى نهيٌ عن الأعلَى

مِن بابِ أَولَى.

وقد جاء في الحديثِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم –

( نهَى عن التَّحرِيشِ بين البهائِمِ )؛

رواه أبو داود والترمذي.

فإذا كان هذا في حيوانٍ لا يعقِلُ، ولا تكلِيفَ عليه، فما بالُكُم بمَن كرَّمَه

الله وفضَّلَه على كثيرٍ ممَّن خلَقَ تفضِيلًا؟!

فحذارَ حذارَ - عباد الله - مِن مُفرِّقِ الجماعات، وهادِمِ البيُوت،

ومُشتِّتِ الأُسَر، والحاجِزِ بين الصَّدِيقِ وصديقِه، والشَّريكِ وشَرِيكِه،

والرَّئيسِ ومرؤُوسِه؛ فإنَّ ذلكُم - وايْمُ الله - نَزغةُ الشيطان التي لا

تُحابِي أحدًا، فإنها قد أوقَعَت إخوةً في عُقوقِ والِدِهم، وألقَت أخًا لهم

في البِئر، واستبدَلَت عمَى أبِيهم ببَصَرِه، في قصَّةٍ لخَّصَ سببَها يُوسُفُ عليه السلام

في قولِ الله عنه:

{ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي }

[يوسف: 100].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيهِ من الآياتِ

والذكرِ الحكيم، قد قُلتُ ما قُلتُ؛ إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمِن

نفسِي والشيطان، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائِرِ المُسلمين والمُسلمات من كل

ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.



الخطبة الثانية

الحمدُ لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.

وبعد:

فاتَّقُوا اللهَ - عباد الله -، واعلَمُوا أنَّ على المُسلم أن يزُمَّ نفسَه عن

الوقوعِ في أتُون التحريشِ، أو أن يكون أحَدَ وقُودِه، أو سُعاتِه، أو

الرَّاضِين عنه باللِّسان أو الجَنان؛ فإن الراضِيَ كالفاعِلِ، والكيِّسَ مَن

فرَّ مِنه فِرارَ الصَّحيحِ مِن الأجرَبِ، ونأَى بنفسِهِ عن أن يحلِقَ دينَه،

أو يثلِمَ مُروءَتَه.

إن التحريشَ لا يحِقُّ له أن ينتشِرَ في قَومٍ عمَّ القَولُ الحسَنُ مجالِسَهم

وأحادِيثَهم؛ إذ بينهما مِن التضادِّ ما يجعَلُهما لا يجتَمِعان في بيئةٍ واحِدةٍ؛

لأنَّ الله - جلَّ في عُلاه - يقولُ:

{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ }

[الإسراء: 53].

إنه لا يخلُو مُجتمعٌ مِن هذه الآفَة، ولا يسلَمُ مِنها ولا يكادُ، غيرَ أنَّ

المُجتمعات عبر الزمنِ بين مُقِلِّين مِنها ومُكثِرِين، والتحريشُ بذرَةُ شرٍّ

لا تُؤتِي ثمَرَها إلا إذا أُودِعَت أرضًا خصبَةً تُلائِمُها، ولا أخصَبَ لبَذرةِ

التحريشِ مِن أُذُنٍ سمَّاعةٍ تتلقَّفُ كلَّ ما يأتِيها دُون ترَوٍّ أو تثبُّتٍ،

فما كلُّ ما يُعلَمُ يُقال، وما كلُّ ما يُقال يُصدَّقُ.

ولو لم يجِد التحريشُ آذانًا صاغِيةً له لما فتَكَ بالناسِ؛ ففرَّقَ جماعتَهم،

وحمَلَ بعضَهم على بعضٍ في العداوةِ والبَغضاءِ، وقد صدَقَ الله:

{ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ }

[التوبة: 47].

ولو لم يأتِ في ذلك مِن الذمِّ إلا أنه صِفةٌ للأمةِ الغضبِيَّة لكفَى، كما قال

الله عنهم:

{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }

[المائدة: 42].

فإنَّ على المُستمِع ألا يثِقَ في القِيلِ قبل التبصُّر بصِحَّتِه، وألا يحكُمَ عليه

قبل إدراكِ حقيقتِه؛ فإنَّ مِن الاغتِرار تلقِّي الرُّكبان، ومِن الغَفلَةِ اعتِمادَ

القِيلَ لأولِ وَهلَةٍ. وقد قِيلَ:

فلا تَقنَعْ بأولِ ما ترَاهُ



فأوَّلُ طالِعٍ فَجرٌ كذُوبُ



إنَّه لا سلامةَ للفردِ والجماعةِ إلا أن يسُدُّوا بابَ التحريشِ قبل أن يقَعَ، أو

أن يردُمُوا نَقبَه بعد الوُقوعِ، أُسوةً بمَن كان القُرآنُ خُلُقَه؛ حيث قال –

صلى الله عليه وسلم -:

( لا يُبلِّغُنِي أحدٌ مِن أصحَابِي عن أحدٍ شيئًا؛ فإنِّي أُحِبُّ أن أخرُجَ إليكم

وأنا سَلِيمُ الصدر )؛

رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

إنَّ مَن يُبلِّغُكَ ما يسُوؤُك، فإنما هو كمَن يَبغِي لك السُّوءَ ذاتَه، وقد قِيلَ:

مَن جعَلَ النَّمامَ عينًا هلَك، مُبلِغُك الشرِّ كباغِيهِ لك .

وقد أتَى رجُلٌ الوَلِيدَ بنَ عبد الملِك فقال: لك عِندِي نصِيحة، فقال:

إن كانَت لنا فأَظهِرهَا، وإن كانَت لغَيرِنا فلا حاجَةَ لنا فِيها ،

قال: جارٌ لِي عصَى وفَرَّ مِن بَعثِه، قال:

أما أنتَ فتُخبِرُ أنَّك جَارُ سُوءٍ، فإن شِئتَ أرسَلنَا معَك؛ فإن كُنتَ صادِقًا أقصَينَاكَ،

وإن كُنتَ كاذِبًا عاقَبنَاك، وإن شِئتَ تارَكنَاك ، قال: بل تارِكنِي - يرحَمُك الله -.

أيِسَ الرَّجِيمُ ولم يفُزْ بِعبادَةٍ



فأغَارَ نَحوَ الخَلقِ بالتَّجيِيشِ



وأقَامَ عَرشًا يستَحِثُّ فُلُولَهُ



فأصَابَ ما يَبغِيهِ بالتَّحرِيشِ



هذا وصلُّوا - رحِمَكم الله - على خيرِ البريَّة، وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن

عبد الله صَاحِبِ الحَوضِ والشفاعةِ؛ فقد أمَرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه،

وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المُؤمنون -، فقال –

جلَّ وعلا -:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }

[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك مُحمدٍ صاحِبِ الوَجهِ الأنوَر،

والجَبِين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر،

وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ صحابةِ نبيِّك مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،

وعن التابِعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك

وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمُشركين، اللهم انصُر

دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المُؤمنين.

اللهم فرِّج همَّ المهمُومين من المُسلمين، ونفِّس كَربَ المكرُوبِين،

واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينِين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا

فيمن خافَك واتَّقَاك، واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوالِ والأعمالِ يا حيُّ يا قيوم،

اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ووليَّ

عهدِه لما فيه صلاحُ البلاد والعباد يا حيُّ يا قيُّوم.

اللهم آتِ نُفوسَنا تقوَاها، وزكِّها أنت خَيرُ مَن زكَّاها، أنتَ ولِيُّها ومَولاها.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم كُن لإخوانِنا

المُستضعَفين في دينهم في سائِر الأوطانِ.

اللهم كُن لجُنودِنا المُرابِطين على الثُّغُور، اللهم انصُرهم على عدوِّك

وعدوِّهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ثبِّت أقدامَهم، واربِط على قُلوبِهم يا حيُّ يا قيُوم.

سُبحان ربِّنا ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، وآخِرُ دعوانا

أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

رد مع اقتباس