عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-28-2018, 07:38 AM
حور العين حور العين غير متواجد حالياً
Senior Member
 
تاريخ التسجيل: May 2015
المشاركات: 59,977
افتراضي خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بعنوان :فاطمةُ الزَّهراء قُدوةُ النساء

خُطَبّ الحرمين الشريفين
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين


نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ألقى فضيلة الشيخ خالد بن علي الغامدي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان:
فاطمةُ الزَّهراء قُدوةُ النساء ،

والتي تحدَّث فيها عن القُدوات التي ينبغي أن يحذُو حذوَها المُسلِمون،
وينهَجُون نهجَها؛ فإنَّ التاريخَ حافِلٌ بالقُدوات الكثيرة، وأعظمُهم رسولُ الله
- صلى الله عليه وسلم -، والمُقدَّمُون بعدَه - عليه الصلاة والسلام - هم آلُ بيتِه،
ومِن بينهنَّ امرأةٌ مِن أعظم نساءِ العالَمين، وهي فاطمةُ بنتُ الرسولِ
- عليه الصلاة والسلام -؛ حيث عرَّج على ذِكرِ فضائِلِها وبيانِ منزلتِها
ومكانتِها في دينِنا، ووجوبِ اقتِداءِ النساءِ وتأسِّيهنَّ بها.

الخطبة الأولى
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي جعلَ أمةَ الإسلام خيرَ الأُمم، وأفاضَ
عليها ما لا يُحصَى مِن ألوان النِّعم والكرَم، وجعلَ منهم أئمةً ونُجومًا
بهم يُقتَدَى ويُهتَدَى في ظُلُمات الأحداث والأمر المُدلهِمّ، أحمدُه - سبحانه -
وأشكُرُه، وأُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ
له جادَ بالفضائل والبركات والخير العَمِم، وأشهدُ أن سيِّدنا محمدًا عبدُه
ورسولُه الخليلُ المُصطفى، والرسولُ المُجتبَى، قالَ بالحقِّ والصِّدقِ وبه
عدَلَ وحكَم، صلَّى الله عليه وعلى آلِه السادة الطيبين، وصحابتِه الأئمةِ المهديِّين،
والتابِعِين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا دائمًا مزيدًا.
أما بعد:
فاتَّقُوا اللهَ - عباد الله - وراقِبُوه، واستَشعِرُوا عظمتَه وجلالَه في كل وقتٍ وحين،
فهو - سبحانه - أقربُ إليكُم مِن حبلِ الوَرِيد، ولن يُعجِزَ اللهَ أحدٌ ولن يُعجِزَه هربًا،
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }
[الطلاق: 4].
أيها المُسلمون:
إنَّ تربية الأمة على الأخلاق الفاضِلة والقِيَم النبيلة مِن خلال الاقتِداء
بالقُدوات الصالِحة المُؤثِّرة، والاهتِداء بها في الخطاب والمنهَج
والتطبيقِ مِن أعظم العوامِلِ والأُسس التي تُساهِمُ مُساهمةً
عميقةً في بناءِ الشخصيَّة المُسلِمة المُعتَزَّة بدينِها وثوابتِها وانتِمائِها وتاريخِها،
والتي نحن أحوَجُ ما نكونُ إليها في زمانِنا هذا.
ولأهمية عامِلِ القُدوة الصالِحة وأثَره الفاعِلِ في التكوين والتربية والبِناء،
أمَرَ الله نبيَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يصبِرَ
كما صبَرَ أُولُو العَزم مِن الرُّسُل، وقال له:
{ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }
[الأنعام: 90].
وضرب الله لنا بدائِعَ النماذِج لقُدواتٍ هم غُرَرٌ في جَبين الزَّمان؛
كالأنبِياء - عليهم السلام -، ومُؤمن آل فِرعون، ولُقمان العبد الصالِح
الحكيم، ومريم بنت عِمران، وامرأت فِرعون، وغيرهم كثير.
بَيْدَ أنَّ أعظمَ القُدوات الذين أشادَ الله تعالى بهم هو سيِّدُنا ونبيُّنا مُحمدٌ
- صلى الله عليه وآله وسلم -، الذي قال الله فيه:
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }
[الأحزاب: 21].
فالنبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هو قُدوةٌ مُطلقةٌ بلا حُدودٍ
زمانيَّةٍ ولا مكانيَّةٍ، في أقوالِه وأفعالِه، وأخلاقِه وسيرتِه وتقريراتِه، دقَّت أم جلَّت.
وقد سَرَت هذه القُدوةُ النبويَّةُ المُبارَكة إلى ذُريَّته وزوجاتِه،
وقد صحَّ في الخَبَر الأمرُ بالصلاةِ عليه وعلى ذُريَّته وأزواجِه،
فأصبَحُوا كذلك قُدوةً للعالَمين، قال الله تعالى:
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ }
[الأحزاب: 32]،
وقال - سبحانه -:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }
[الأحزاب: 33].
هذا، وإنَّ مِن أجَلِّ القُدوات النبويَّة مِن أهل بيتِه الشريفِ ابنتَه السيِّدة
الفاضِلة الشريفة فاطِمة الزَّهراء - رضي الله عنها وعن أمِّها
المُبارَكة خديجة -، وصلى الله على أبِيها وسلَّم.
إنَّ الحديثَ عن القُدوة النبويَّة "فاطِمة" حديثٌ مُغدِقُ الثِّمار،
عظيمُ الشَّأن، له حلاوةٌ وطلاوةٌ، ورِيٌّ ونماءٌ، ورَونَقٌ وبهاءٌ، يُنبِّهُ الغافِلين
والمُنبَهِرين اللاهِثِين وراء السَّراب: أن هلُمُّوا .. فها هنا الجلال والكمال
والطُّهر والنَّقاء .. ها هنا القُدوةُ النبويَّة التي اختارَها الله على علمٍ؛
لتكون غيثًا للناسِ في زمانِ جَدْبِ الأخلاق والقِيَم والحياء، وواحةً غنَّاءَ
للأمة في صحراء الشَّهوات والشُّبُهات، وفقرِ النُّفوس وتهافُتِها وتفاهَتها.
اختارَ الله هذه السيِّدة المُبارَكة على علم، وأودَعَ في شخصيَّتها مِن
الفضائِل والكمالات ما زكَّاها به ورقَّاها في درجاتِ العِزِّ والشَّرَف.
تربَّت - رضي الله عنها - في بيتِ النبُوَّة، وتخرَّجَت بمدرسةِ أبِيها
النبيِّ الأعظَم - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتعلَّمَت مِن مِشكاةِ الرِّسالة،
ونهَلَت مِن علمِ وفقهِ زوجِها الإمامِ عليٍّ - رضي الله عنه -.
فحازَت أعلَى المقامات، وتشرَّفَت بأعظَم الثَّناء، وسطَّرَ لها التاريخُ
أنبَلَ المواقِف، وأفخمَ الوقائِع في تعامُلِها مع ربِّها وأبِيها، وزوجِها ومُجتمعِها.
فمَن ذا يلحَقُ شأوَها .. ومَن ذا يُسامِيها مِن نساءِ الدُّنيا؟!
وُلِدَت - رضي الله عنها - قبل البِعثة النبويَّة بخمسِ سنواتٍ في مكَّة،
وقُريشٌ تبنِي الكعبةَ، وأمُّها خديجةُ بنتُ خُوَيلِد أحَبُّ أزواجِ النبيِّ -
صلى الله عليه وآله وسلم - إلى قلبِه، وصاحِبةُ المواقِفِ المشهُودة المشهُورة.
كانت فاطِمةُ - رضي الله عنها - أصغَرَ بناتِ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -،
وأحبَّهنَّ إلى قلبِه؛ لأنَّها صحِبَتْه منذ نُعومةِ أظفارِها ولم تُفارِقه،
وشهِدَت الأحداثَ الكُبرَى في حياتِه، ورأَت مِن أحوالِ أبِيها وأمورِه العَجَب،
وشارَكَتْه مُعاناتِه وآلامَه وأحزانَه وهمومَ الدعوة.
رمَى المُشرِكُون سَلَا الجَزُور على رأسِ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
وهو ساجِدٌ عند الكعبَة، فجاءَت فاطِمةُ مُسرِعةٌ وهي صغيرةُ السنِّ،
فأزالَت القَذَرَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وفي غَزوة أُحُد أُصِيبَ خدُّ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -،
وسالَ دمُه بغَزارَة، فجاءَت فاطمةُ - رضي الله عنها - وغسَلَت الدمَ عنه حتى كفَّ.
ومرَّةً أُخرى رمَى المُشرِكُون التُّرابَ على رأسِ رسولِ الله - صلى الله
عليه وآله وسلم -، فكانت فاطمةُ حاضِرةً، ونظَّفَت رأسَه الشَّريفَ وهي تبكِي،
والنبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُهدِّئُها ويقولُ:
( لا تبكِي يا بُنَيَّة؛ فإنَّ الله ناصِرٌ أباكِ ).
تعلَّمَت العلمَ مِن فِيِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -،
حتى صارَت مِن رُواة الحديث، وحديثُها في دواوِين السنَّة،
وتخلَّقَت بأخلاق النبُوَّة، وتأدَّبَت بآدابِ أبِيها - صلى الله عليه وآله وسلم -،
وصارَ الناسُ إذا رأَوها تذكَّرُوا النبيَّ - عليه الصلاة والسلام -،
حتى في مِشيَتها ما تُخطِئُ مِشيَتُها مِشيةَ أبِيها - صلى الله عليه وآله وسلم -.
تقولُ عائشةُ - رضي الله عنها -:
ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ سَمتًا ودَلًّا وهَديًا برسولِ الله في قِيامِها
وقُعودِها مِن فاطمة بنت رسولِ الله .
كانت - رضي الله عنها - كريمةً على أبِيها - صلى الله عليه وآله وسلم -؛
فما رآها قطُّ مُقبِلةً إليه إلا قامَ إليها، واحتَفَى بها، وأجلَسَها بجانِبِه، وقال:
( مرحَبًا بابنَتِي ).
وكان إذا أقبَلَ مِن سفرٍ، ثم عرَّجَ على ابنتِه فاطمة في بيتِها
وسلَّم عليها ودعَا لها، ثم ذهَبَ إلى أزواجِه.
ومِن كرامتِها - رضي الله عنها - على أبِيها: أنَّه ضمَّها وضمَّ عليًّا
والحسنَ والحُسَينَ، وألقَى عليهم الكِساءَ، ثم قال:
( اللهم هؤلاء أهلُ بَيتِي، فأذهِب عنهم الرِّجسَ وطهِّرهم تطهِيرًا )؛
أخرجه أحمد والترمذي.
وبلَغَت منزلتُها ومكانتُها أن قال فيها النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:
( إنَّما فاطمةُ بَضعةٌ مِنِّي - يعني: قِطعة مِنِّي -، يَرِيبُني ما أرابَها،
ويُؤذِيني ما آذاها )؛
أخرجه الشيخان.
وفي راويةٍ:
( يبسُطني ما يبسُطها، ويقبِضُني ما يقبِضُها )؛
أخرجها أحمد والحاكم.
وأبقَى الله سبَبَ ونسَبَ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فيها وفي
ولدَيها الحسنِ والحُسينِ - رضي الله عن الجميع - كما ثبَتَ عند الحاكم والبيهقيِّ -:
( كلُّ سبَبٍ ونسَبٍ مُنقطِعٌ يوم القِيامة إلا سبَبِي ونسَبِي ).
ومِن كرامتِها - رضي الله عنها - ومنزلتِها: أنَّه نزلَ ملَكٌ مِن السماء لم ينزِل قطُّ،
لكي يُبشِّر النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ فاطمة سيِّدةُ نساء الجنَّة،
وأنَّ الحسنَ والحُسينَ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّة؛ ولذلك شهِدَ لها أبُوها
- صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّها مِن خَير النساء، كما في مُسند أحمد :
( خَيرُ نساءِ العالَمين: مريمُ بنتُ عِمران، وخديجةُ بنتُ خُوَيلِد،
وفاطِمةُ بنتُ مُحمد، وآسِيةُ امرأةُ فِرعون ).

أيها المُسلمون:
لقد وضعَ الله في شخصيَّة فاطمة - رضي الله عنها - مِن الأسبابِ
والعوامِلِ ما رفعَها الله به فوقَ نساءِ العالَمين،
وجعَلَها قُدوةً عظيمةً للنِّساء في كل زمانٍ ومكانٍ.
وإضافةً إلى ما سبَقَ ذِكرُه مِن جوانِبِ عظمتِها، فقد كانت فاطمةُ
- رضي الله عنها - امرأةً عابِدةً قانِتةً صوَّامةً قوَّامةً، قانِعةً باليسير،
صابِرةً على حياتِها وشظَف العَيش وشِدَّته، حرِيصةً على طاعةِ أبِيها
- صلى الله عليه وآله وسلم - واتِّباع سُنَّته، قائِمةً لزوجِها بحقِّه وطاعتِه،
لم يُحفَظ عليها - رضي الله عنها - زلَّةٌ أو خطأٌ، عظيمةُ الخوف والمُراقبَة لله،
مُتدثِّرةٌ بثَوبِ الحياء والعِفَّة والتصَوُّن، لم يُؤثَر عنها كذِبٌ في الحديثِ،
أو إخلافٌ لموعِد، أو تصرُّفٌ مَشِين.
تقولُ عائشةُ - رضي الله عنها -:
ما رأيتُ أحدًا أصدَقَ لهجةً مِن فاطمة، إلا أن يكون الذي ولَدَها .
وكانت - رضي الله تعالى عنها - طيِّبةَ المعشَر، كريمةَ المحتِد،
مُحبَّبةً للناسِ كلِّهم، تحتفِظُ بعلاقاتٍ طيبةٍ مع الجميع حتى مع
زوجاتِأبِيها - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد كُنَّ
ويُرسِلنَها أحيانًا إلى أبِيها - صلى الله عليه وآله وسلم -
لتشفَعَ لهنَّ عنده في بعضِ الأمور.
عباد الله:
ومِن جوانِبِ عظمتِها - رضي الله عنها -: ما سطَّرَه التاريخُ بمِدادٍ
مِن نُورٍ في قصةِ زواجِها بعليٍّ - رضي الله عنه -،
فهل سمِعتُم بخَبَره؟ وكيف كان؟ وما مهرُها؟ وما جهازُ بيتِها؟
إنَّه حدَثٌ لم يشهَد التاريخُ مثلَه؛ فهو زواجُ سيِّدة نساءِ الجنَّة،
ابنةُ سيِّد الأنبِياء - صلى الله عليه وآله وسلم -، وزوجُها هو عليٌّ
- رضي الله عنه - رابِعُ الخُلفاء الراشِدين، ومِن أكابِرِ ساداتِ الصحابةِ
- رضي الله عنهم -، لقد كان عُرسُها عُرسًا سهلًا مُيسَّرًا
مُتواضِعًا مع كل هذا المجدِ والشَّرَف.
تزوَّجَها عليٌّ - رضي الله عنه - بعد غزوة بدرٍ، ولم يكُن عنده مهرٌ،
فأشارَ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُمهِرَها قيمةَ دِرعِه
الحُطميَّة التي غنِمَها في بدرٍ، وبلَغَت قيمتُها في ذلك الوقتِ أربعمائة
وثمانِين درهمًا تقريبًا، ثم أولَمَ عليها وليمةً مُبارَكةً على شاةٍ واحدةٍ.
وأما جهازُ بيتِها وأثاثُه، فتقولُ أسماءُ بنتُ عُمَيسٍ - رضي الله عنها -:
جهَّزتُ فاطمةَ إلى عليٍّ، فما كان حَشوُ فِراشِهما ووسائِدِهما إلا اللِّيف .
ولقد أولَمَ على فاطمة، فما كانت وليمةٌ في ذلك الزمان أفضلَ مِن وليمتِه.
وقال جعفَرُ بن مُحمدٍ:
دخَلتُ بيتَ عليٍّ، فإذا إهابُ كبشٍ على دكَّةٍ، ووِسادةٌ فيها لِيفٌ،
وقِربةٌ، ومُنخُلٌ، ومِنشَفةٌ، وقَدَحٌ .
هذا هو زواجُ فاطمة، وهذا هو بيتُها وأثاثُه، وهي ابنةُ سيِّد
الخلقِ - صلى الله عليه وآله وسلم -.
عباد الله:
وبعد زواجِها كانت فاطمةُ - رضي الله عنها - مِثالًا للزوجةِ الرَّاضِيةِ القانِعةِ
المُتحبِّبةِ إلى زوجِها، وقد كان يحصُلُ بينَهما ما يحصُلُ بين الزَّوجَين مِن
خِلافٍ وتبايُنٍ في وجهاتِ النَّظَر، ولكنَّها - رضي الله عنها - لم تكُن لتتجاوَزَ
أدبَها مع زوجِها عليٍّ، ولم يكُن عليٌّ - رضي الله عنه - ليظلِمَها،
بل سُرعان ما يتراضَيَا؛ لكرامتِها عليه، ولما بينَهما مِن
الحُبِّ الذي تذُوبُ معه كلُّ الخِلافاتِ.
وقد رزَقَها الله مِن عليٍّ: الحسنَ، والحُسينَ، ومُحسِنًا، وأمَّ كُلثُوم، وزينَب.
وأمُّ كلثُوم هذه هي التي تزوَّجَها عُمرُ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - بعد ذلك؛
رغبةً مِنه في مُصاهَرة أهل بيتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وقد كانت فاطمةُ - رضي الله عنها - ترعَى شُؤون أولادِها وزوجِها بنفسِها،
وتقومُ بأعمالِ بيتِها، حتى أثَّرَ عملُ البيتِ في يدَيها، وتعِبَت مِن ذلك ولاقَت شِدَّةً،
فذهَبَت إلى أبِيها - صلى الله عليه وآله وسلم - تطلُبُ مِنه خادِمةً مِن السَّبي
تُعينُها على أعمالِ البيتِ، فامتنَعَ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -، وقال:
( واللهِ لا أُعطِيكِي وأدَعُ أهلَ الصُّفَّة ).
وأهلُ الصُّفَّة هم الفُقراء الذين لا مأوَى لهم.
فرجَعَت فاطمةُ - رضي الله عنها - إلى بيتِها، وإذا برسولِ الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - يأتِيها، فوجَدَها مع عليٍّ، فلاطَفَهما،
ثم أرشَدَهما إلى أن يُسبِّحَا ويحمَدَا الله ثلاثًا وثلاثين،
ويُكبِّرَا أربعًا وثلاثين عند النَّوم؛ فهو خَيرٌ لهما مِن خادِمٍ.
فرضِيَت فاطمةُ - رضي الله عنها -، وأسلَمَت لله ولرسولِه، وحافَظَت
على هذا الذِّكر العظيم، فرَزَقَها الله بعد ذلك قوَّةً ونشاطًا وتحمُّلًا وصبرًا،
ولم يترُك عليٌّ - رضي الله عنه - هذا الذِّكرَ ولا ليلةَ صِفِّين؛ فلذلك كان
مِن أقوَى الرِّجال - رضي الله عنه -، وذلك كلُّه ببركةِ طاعةِ
الله ورسولِه، وبركةِ ذِكرِ الله تعالى.
والمَجدُ يُشرِقُ مِن ثلاثِ مطالِعٍ

في مهدِ فاطمةٍ فما أعلاها

هي بنتُ مَن، هي زَوجُ مَن، هي أمُّ مَن؟

مَن ذا يُساوِي في الفَخَارِ أبَاهَا؟

هي أُسوةٌ للأمَّهاتِ وقُدوةٌ

يترسَّمُ القَمرُ المُنِيرُ خُطاها

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكر الحكيم،
أقولُ قَولِي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين
من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي جعلَ في كل زمانٍ بقايا مِن أهل العلمِ والفضلِ
والقُدوات، يُحيِي بشمائِلِهم القلوب، ويُجدِّدُ بعلمِهم ما اندَرَسَ مِن أمرِ الدِّين،
والصلاةُ والسلامُ على الهادي البشير والسِّراج المُنِير،
وعلى آلِه وصحابتِه والتابِعِين.
أما بعد .. يا أيها المُسلمون:
فإنَّ جوانِبَ العظمة والقُدوة في شخصيَّة السيِّدة الجليلة فاطِمة بنتِ رسولِ الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - لا ينقَضِي مِنها العجَب، ولا يُقضَى مِنها الأرَب،
لكنَّنا نُشِيرُ إلى أنَّ أمرَ وفاةِ أبِيها - صلى الله عليه وآله وسلم - كان
له أعظمُ الأثَر على قلبِها وروحِها، واهتَزَّ له كيانُها هزَّةً عنيفةً،
وهي الصابِرةُ المُحتسِبة، ولكنَّ الأمرَ كان شديدًا عليها، بل وعلى المُسلمين جميعًا.
وتبدأُ هذه القصةُ المُؤلِمةُ مُنذ أن ابتَدَأَ المرضُ الأخيرُ الذي ماتَ فيه النبيُّ
الأعظمُ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ففقَدَ الكونُ كلُّه هذه الرحمةَ المُهداة،
وانقطَعَ خبَرُ السماء ووحيُ الله بموتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وقد ابتدَأَ مرضُ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في مطلَع شهرِ ربيعٍ الأول،
في سنة إحدى عشرة مِن الهِجرة النبويَّة، وقد اشتدَّت عليه الحُمَّى وألمُ
الرأس مُتأثِّرًا بالأكلَة التي أكلَها في خيبَر مِن الشاةِ المسمُومة التي سمَّتْها
له المرأةُ اليهوديَّة

رد مع اقتباس