أقفالُ العشاق أم ذاتُ أنواط؟
يُحكى أن فتاة من صربيا وقعت في غرام شابٍ من قريتها، وعاشت معه قصة حب مدة من الزمن، ولكنه ذهب للقتال عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأحب فتاة أخرى أثناء غيابة. فلما علمت الأولى بخيانته حزنت حزنا شديدًا ماتت على إثره.
فأصبح بعض فتيات القرية يذهبن إلى جسر قريب كان الحبيبان يلتقيان عنده، وتحمل كل واحدة منهن “قُفلا” كتبت عليه اسمها واسم من تحب، ثم تعلقه على حافة الجسر لئلا يحدث لها ما حدث للفتاة المكلومة. وكأن في اختيار “القفل” دون غيره من الأدوات دلالة ذات مقصد، وهو لأجل الحبس أو الحجر على المحبوب فلا ينفلت عن المرأة إلى غيرها، فيما يشبه أعمال السحرة والمشعوذين.
وقد انتشرت هذه العادة في البلدان الغربية بشكل كبير في العقدين الماضيين، حتى أصبحت الأقفال -لثقلها وكثرتها- تُشكل خطرًا أمنيا في بعض المواطن، مما دعا السلطات إلى منعها واعتبارها أعمالا تخريبية.
وللأسف أننا بتنا نجد مثل هذه العادات -الخرافية- تظهر بين أبناء المسلمين، ونرى آثارها تتكاثر في مهبط الوحي وبلاد التوحيد، دون اعتبارٍ لعقيدة ولا ثقافة ولا هوية تميزنا عن الآخرين، فواقعنا مصداق قول النبي ﷺ: [لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم]!
فقد وُجِدتْ هذه “الأقفال”على سياج أحد الشواطئ المحليّة، وفي بعض المقاهي والمحلات، وفُعّلت حولها مناشط عند إقامة بعض الحملات والمناسبات، بل ربما استاء بعض الناس من إزالتها معتبرين ذلك “حربا” على الحب والعشاق.
وإني لأعجب ممن يُدافع عن عادة جاهلية مستوردة من الغرب، دون أن يعلم خلفيتها الثقافية والأحكام العقدية المتعلقة بمثلها، فالتعبير عن المحبة المباحة -إن كان هو المقصود- لا بد أن ينضبط بالضوابط الشرعية، ومن أراد أن “تدوم” محبته وتزدهر فليرفع يديه إلى من بيده مقاليد القلوب، وليبذل السبب الحقيقي في فعله وسلوكه وتعاملاته بدلاً من التعلق بقطعة معدن لا تقدم ولا تؤخر من الأقدار شيئا.
وإن العاقل ليعلم أن هذه الممارسات لا تمثل جانب التقدم الحضاري والعلمي في الغرب، والذي تحسن الاستفادة منه، بل تمثل شق المعتقدات الخرافية التي تعتبر مثار سخرية من عقلاء تلك البلدان نفسها.
ولذلك لا ينبغي أن يكون المسلم كالإمعة يتبع كل ناعق، ويقلِّد كل صيحة في مشارق الأرض أو مغاربها، بل يجب أن يتحلى بالتفكير الناقد والنظر الفاحص، وأن يزن كل وافد بميزان الشريعة، فلا تغلب عاطفته عقيدته، ولا يهمّش دينه في سبيل هواه. وإذا نظرنا إلى عادة تعليق الأقفال المنتشرة اليوم، نجد أنها لا تخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: أن يعتقد المُعلِّق أنها سببٌ في استدامة المحبة، وصيانة الارتباط. فهي في تلك الحالة من الشرك المحرم، حكمها كحكم التمائم الشركية، التي قال فيها النبي ﷺ: [إن الرقى والتمائم والتولة شرك]، وقال عليه الصلاة والسلام: [من علق تميمة فقد أشرك]، فالتميمة هي الشيء الذي يُعلّق لجلب النفع أو دفع الضر مما ليس من الأسباب الشرعية ولا الكونية، وتعليق القفل لحفظ المحبة ودفع الفرقة يدخل في ذلك جزمًا.
وهذا هو ما يعتقده كثير من أصحاب هذه الممارسة في بلاد الغرب، بل توجد في أحد أشهر مواقع هذه الممارسة الخرافية في الأورغواي لوحة تنص على ذلك الاعتقاد، وتٌبشِّر ببقاء الحب -دوما- لمن علّق قفلا كُتبت عليه أسماء المتحابين.
الحالة الثانية: ألا يعتقد المعلّق في القفل السببية، كأن يراه رمزاً أو شعاراً لدوام المحبة لا سببا لها، أو أن يفعل ذلك عبثا وتقليدا دون أن يكون في قلبه قصد لشيء بعينه. وهذا الحال -وإن أخرج الفعل من مسمى تعليق التمائم- إلا أنه لا يعني خلوه من المحذور الشرعي بإطلاق.
والإشكال في هذه الحالة يظهر من جهتين:
أولاهما: أن هذا الفعل ذريعة إلى الشرك، وهو طريق اعتبره الشارع، فحُرِّم البناء على القبور لأنه ذريعة إلى تعظيم أهلها والوقوع في الشرك، وحُرِّم سؤال الكاهن -ولو بغير تصديق- لكونه ذريعة إلى تصديقه والإيمان بما يقول.
وتعليق الأقفال قد يُفضي -حالاً أو مستقبلاً- إلى الاعتقاد بتأثيرها، لاسيما وأن القفل له دلالة رمزية مرتبطة ظاهريا بأثره المزعوم، وربما لو كُسر القفل أو أزيل لانقبض صدر من علقه ووقع في قلبه شيء من الضيق، وهو ما يدل على نوع اعتقاد بالتأثير. كما أنه من المعلوم أن مشابهة الظاهر تورث مشابهة الباطن وموافقته في كثير من الأحيان، وإن كان ذلك بالتدرج الذي قد لا يتنبه له الإنسان.
قال ابن تيمية رحمه الله: “فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي”.
الثانية: أن في هذا العمل مشابهة للكفار فيما اختصوا به من العادات -وربما المعتقدات- وهذا منهي عنه في الشرع نهيا مشددا، فقد قال النبي ﷺ: [من تشبه بقوم فهو منهم]، قال شيخ الإسلام: “وقد يُحمل -الحديث- على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه،
فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها كان حكمه كذلك. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه”.
وعن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حُنين -ونحن حدثاء عهد بكفر- وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: “ذات أنواط”، قال: فمررنا بالسدرة فقلنا: ( يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ) ، فقال رسول الله ﷺ: [ الله أكبر إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: { إنكم قوم تجهلون} ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: “أنكر النبي ﷺ مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، كيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين؟ أو هو الشرك بعينه؟”.
وبذلك يتضح أن تعليق الأقفال بالصورة المذكورة ممنوع شرعا، وحكمه دائر بين الشرك أو ذرائعه أو التشبه المحرم.
ولنعلم أن استيراد العادات والثقافات لا تدل إلا على انهزام الأمة المستورِدة، وفقرها الحضاري، وغياب العزة والهوية التي تميزها، وإن الأمور التي يعدها بعض الناس تفاهات وصغائر تشكل في ذاتها -أو بمجموعها- خطرًا لا يتصوره من انغمس في موجات التقليد والهزيمة النفسية.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتزودوا بالعلم والعزة والتقوى، وألا يكونوا مطية للخزعبلات والممارسات الخرافية، لنكون أمة قائدة داعية إلى الحق والبصيرة.
وصلى الله على خير البرية، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
الكاتبة: د. هيفاء بنت ناصر الرشيد