قد أصبحت الأرض عروساً
يالله كم يجتهد الناس في تزيين هذه الأرض ، حتى جعلوها كالعروس ليلة دخلتها !
الأصل أن الله سبحانه قد زينها قبل الخلق ،
ثم أذن لهم أن يعملوا إبداع عقولهم في مزيد من التزيين لها ،
فكان إن أخذت الأرض زخرفها وازينت ، حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها ،
أو قد أوشكوا أن يظنوا ذلك ..!
أما تزيين الله سبحانه للأرض ، فقد بين وأوضح حكمته ..فقال تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }
سورة الكهف
فهي مزينة فاتنة لتكون محطة ابتلاء للناس ، وهم يرون هذه الزينة ،
ويمشون في مناكبها ، ويخوضون خلالها ..
وفي موضع آخر بين أن اكتمال زينتها إيذان بنهايتها !
{ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ }
- سورة يونس
ولأنها مزينة مغرية فاتنة ، حتى أصبحت تدير عقل الحليم ،
فما أكثر الذين وقعوا في فخها ، وسقطوا في فتنتها ، وانحدروا في سيلها ، وضاعوا في متاهتها ..!
ولم ينتبهوا أن سر التزيين فيها ، إنما هو أشبه بورقة امتحانيه ،
على العاقل أن يمعن النظر فيها ، قبل أن يجيب عليها ..!
فهي مزينة مزخرفة إذن ليستيقظوا لا ليسقطوا ولكن ما أكثرالذين سقطوا!
عندما يقدم لك أحدهم كاس عسلٍ ، ثم يقول لك وهو يمد يده بالكأس إليك :
هو رائع شهي ممتع لذيذ غير أن فيه كمية بسيطة من السم الزعاف ،
ولا عليك ، لا تلتفت إلى سمه القاتل
واستمتع هذه الدقائق من بقية عمرك مع حلاوة هذه الكأس ،
وتلذذ بها ، ولا تحمل هم أنهاستقتلك ؟
بالله عليك كيف ستكون ردة فعلك ، وأنت تسمع مثل هذا ؟
هل يكفي أن يكون العسل شهياً ، ولونه مغرياً ، وطعمه لذيذاً ،
وحلاوته باهرة ، بحيث تغض الطرف تماماً عن وجود السم الزعاف فيه ؟
أم أنك ستنسى تماماً كل ميزة فيه طيبة ، لتتجلى بينعينك كمية السم القاتل فيه !
ومن ثم يقشعر جسمك ، وتتحفز أعصابك ، وتتداخل إلى داخلك ،
وتحذر كل الحذر من مجرد الاقتراب منه ،
بل أحسبك ستحذر كل الحذر من هذا الإنسان الذي يزين لك الشرب من هذه الكأس
ومثال آخر
لو انك رأيت ثعباناً جميل المنظر ، ناعم الملمس ،هادئ الحركة ،
وأنت تعلم تماماً أن عضته والقبر ..!
ترى هل سيغريك منظره الجميل ، وملمسه الناعم ، أن تقرب منه ،
وتحتضنه ، وتضمه إلى صدرك ، وتقرب وجهك من وجهه ..!!
أم أنه يكفي اسم الثعبان فقط ، لتبقي حذرا منه ، غاية الحذر ..!
فإن كنت ممن يحسن التعامل بحكمة مع هذه الثعابين القاتلة ،
قادر على الانتفاع منها ، واستخلاص ما يفيد من بين أنيابها !
فإنك ستكون حينها في منتهى الحذر ، وأنت تتعامل معها في كياسة وتوجس
كذلك شأن الدنيا ، تماماً
الدنيا ليست محرمة على الإطلاق ، ولكن الحذر يلزم عند التعامل معها ،
فكم قتلت من عشاقها ، وكم أهلكت من محبيها ..!
أما الناس فقد أضافوا إلى أصل زينتها ،ألواناً من الزينة والزخرفة والبهرجة ،
ليزدادوا إيغالاً في الفتنة بها ، والسقوط فيها ، والسحر معها !
حتى أن منهم من شك في وجود الآخرة أصلا ،
وهو يرى كل يوم ما يرى من ألوان المخترعات الحديثة ، التي لحست عقله كله !!
ومنهم من شغلته تماماً عن الالتفات إلى ما هو أولى له ،
عند ربه سبحانه ، فنسي ما يريده الله منه ، حيث لم يعد رأسه مشغولاً إلا ببهرج هذه الدنيا ..!
أما العقلاء _ وقليل ما هم _ فلم تزدهم هذه الزخرفة والزينة والبهرجة ،
إلا عشقاً للآخرة ، وتشميرا في العبادة ، وحبا لله بديع السماوات والأرض .!
سر ذلك : أنهم أعملوا عقولهم في هذه البدائع والعجائب المذهلة ، وقالوا لأنفسهم :
هذا ما أعد المخلوق وأبدع ، فكيف بما أعده الله سبحانه في جنة عرضها السماوات والأرض ،
لاشك أن كل هذه الزينة والزخرفة لا تساوي شيئا أبداً بجانب ما أعده الله لعباده المؤمنين ،
الذين أحبهم ,أحبوه ، وترجموا هذه المحبة إلى عمل وطاعة ، واجتهاد وتشمير في طريق الله عز وجل ،
ليعيشوا في هذه الدنيا كما يحب ويرضى ، وحتى إذا ماتوا ماتوا وهو راضٍ عنهم ..!
فما كان سبب فتنة لكثيرين لا يحصيهم إلا الله ،
كان هو هو سبب تقوية إيمان لهؤلاء القلة من عباد الله
وسبباً قويا في تنوير قلوبهم وشدهم إلى ربهمسبحانه
ومن هنا قال بعض العلماء في قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء }
قال : خلقها لكم لتنتفعوا بها من وجهين .. دنيوي وأخروي !
أما الدنيوي فمعروف ، أن يجتهد الإنسان على هذه الأرض فيستخرج خيراتها ،
وينتفع بما فيها من أقوات وطاقات وكنوز …الخ
أما الانتفاع الأخروي ، فإن تكون زينتها ، سببا في مزيد من قربهم من ربهم سبحانه ،
فكل شيء فيها يشدهم إلى مولاهم ، ويزيدهم قربا منه ، وارتباطا به ،
وذكرا له ، وحبا له ، وشوقا إليه ،
كما قال القائل :وفي كلشيء له آية ** تدل على أنه واحدُ