حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ رضى الله تعالى عنهم أجمعين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله تعالى عنه
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ
وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ
وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ
امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ
أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ
خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ )
هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وخبيب بضم المعجمة وهو
خال عبيد الله الراوي عنه، وحفص بن عاصم هو ابن عمر بن الخطاب
وهو جد عبيد الله المذكور لأبيه.
قوله: (عن أبي هريرة)
لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك، ورواه مالك في الموطأ عن خبيب
فقال " عن أبي سعيد وأبي هريرة " على الشك، ورواه أبو قرة عن مالك
بواو العطف فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزبيري، وشذا في ذلك
عن أصحاب مالك، والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه
من رواية خاله وجده، والله أعلم.
ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجهه الكرماني بما
محصله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب أو بينه وبين الخلق،
فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن
والثاني عام وهو العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال
وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة.
وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه
أبو إسحاق التنوخي إذنا عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه
سماعا من لفظه قال: وقال النبي المصطفى إن سبعة يظلهم الله الكريم
بظله محب عفيف ناشئ متصدق وباك مصل والإمام بعـدله ووقع في
صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعا " من أنظر معسرا أو وضـع
له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وهاتان الخصلتان غير السبعة
الماضية فدل على أن العدل المذكور لا مفهوم له.
وقد ألقيت هذه المسألة على العالم شمس الدين بن عطاء الرازي
المعروف بالهروي لما قدم القاهرة وادعى أنه يحفظ صحيح مسلم، فسألته
بحضرة الملك المؤيد عن هذا وعن غيره فما استحضر في ذلك شيئا،
ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة في مثل ذلك فزادت على عشر خصال،
وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد ونظمتها في بيتين تذييلا على
بيتي أبي شامة وهما: وزد سبعة: إظلال غاز وعونه وإنظار ذي عسر
وتخفيف حمله وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب وتاجر صدق في المقال
وفعله فأما إظلال الغازي فرواه ابن حبان وغيره من حديث عمر، وأما
عون المجاهد فرواه أحمد والحاكم من حديث سهم بن حنيف، وأما إنظار
المعسر والوضيعة عنه ففي صحيح مسلم كما ذكرنا، وأما إرفاد الغارم
وعون المكاتب فرواهما أحمد والحاكم من حديث سهل بن حنيف المذكور،
وأما التاجر الصدوق فرواه البغوي في شرح السنة من حديث سلمان
وأبو القاسم التيمي من حديث أنس، والله أعلم.
ونظمته مرة أخرى فقلت في السبعة الثانية: وتحسين خلق مع إعانة غارم
خفيف يد حتى مكاتب أهله وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني من
حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى
ونظمتها في بيتين آخرين وهما: وزد سبعة: حزن ومشى لمسجد وكره
وضوء ثم مطعم فضله وآخـذ حق باذل ثم كافـل وتاجر صدق في المقال
وفعله ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى، ولكن أحاديثها ضعيفة وقلت
في آخر البيت: " تربع به السبعات من فيض فضله".
وقد أوردت الجميع في " الأمالي"، وقد أفردته في جزء سميته "
معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال".
قال عياض: إضافة الظل إلى الله إضافة ملك، وكل ظل فهو ملكه.
كذا قال، وكان حقه أن يقول إضافة تشريف، ليحصل امتياز هذا على
غيره، كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه.
وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلان في ظل الملك، وهو قول
عيسى بن دينار وقواه عياض، وقيل المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث
سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن " سبعة يظلهم الله في ظل
عرشه " فذكر الحديث، وإذا كان المراد ظل العرش استلزم ما ذكر من
كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم
القرطبي، ويؤيده أيضا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به.
ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب
الحدود، وبهذا يندفع قول من قال: المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأن
ظلهما إنما يحصل ثم بعد الاستقرار في الجنة.
ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب
الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش، وروى الترمذي وحسنه
من حديث أبي سعيد مرفوعا " أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم
منه مجلسا إمام عادل".
قوله: (الإمام العادل)
اسم فاعل من العدل، وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك رواه
بلفظ " العدل " قال وهو أبلغ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا، والمراد به
صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولى شيئا من أمور المسلمين
فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه " أن
المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون
في حكمهم وأهليهم وما ولوا " وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع
أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، وقدمه
في الذكر لعموم النفع به.
خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة
الهوى؛ فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى.
قوله: (في عبادة ربه)
في رواية الإمام أحمد عن يحيى القطان " بعبادة الله " وهي رواية
مسلم، وهما بمعنى، زاد حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر "
حـتى توفى على ذلك " أخرجه الجوزقي.
وفي حديث سلمان " أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله".
قوله: (معلق في المساجد)
هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق
في المسجد كالقنديل مثلا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده
خارجا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي " كأنما قلبه معلق في المسجد "
ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد
" معلق بالمساجد " وكذا رواية سلمان " من حبها " وزاد الحموي
والمستملى " متعلق " بزيادة مثناة بعد الميم وكسر اللام، زاد سلمان
" من حبها " وزاد مالك " إذا خرج منه حتى يعود إليه".
وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للترجمة، ومناسبتها للركن
الثاني من الترجمة وهو فضل المساجد ظاهرة، وللأول من جهة ما دل
عليه من الملازمة للمسجد واستمرار الكون فيه بالقلب وإن عرض
بتشديد الباء وأصله تحابيا أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما
الآخر حقيقة لا إظهارا فقط، ووقع في رواية حماد بن زيد " ورجلان
قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله فصدرا على ذلك " ونحوه
قوله: (اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)
في رواية الكشميهني " اجتمعا عليه " وهي رواية مسلم أي على الحب
المذكور، والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض
دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت.
ووقع في الجمع للحميدي " اجتمعا على خير " ولم أر ذلك في شيء
من نسخ الصحيحين ولا غيرهما من المستخرجات وهي عندي تحريف.
عدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأن المحبة لا تتم
إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنيا
عن عد الآخر، لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها.
قوله: (ورجل طلبته ذات منصب)
بين المحذوف أحمد في روايته عن يحيى القطان فقال " دعته امرأة "
وكذا في رواية كريمة، ولمسلم وهو للمصنف في الحدود
عن ابن المبارك، والمراد بالمنصب الأصل أو الشرف.
وفي رواية ومالك " دعته ذات حسب " وهو يطلق على الأصل وعلى
المال أيضا، وقد وصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة
لمن تحصل فيه وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال مع الجمال وقل
من يجتمع ذلك فيها من النساء، زاد ابن المبارك " إلى نفسها " وللبيهقي
في الشعب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة " فعرضت نفسها عليه "
والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره.
وقال بعضهم يحتمل أن تكون دعته إلى التزوج بها فخاف أن يشتغل
عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة
عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر، ويؤيده وجود الكناية في قوله
" إلى نفسها " ولو كان المراد التزويج لصرح به، والصبر عن
الموصوفة بما ذكر من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر
تحصيلها لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها.
قوله: (فقال إني أخاف الله)
زاد في رواية كريمة " رب العالمين " والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه إما
ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها، ويحتمل أن يقوله بقلبه، قال عياض
قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين
قال الكرماني هو جملة حالية بتقدير قد، ووقع في رواية أحمد " تصدق
فأخفى " وكذا للمصنف في الزكاة عن مسدد عن يحيى " تصدق بصدقة
فأخفاها " ومثله لمالك في الموطأ، فالظاهر أن راوي الأولى حذف
العاطف، ووقع في رواية الأصيلي " تصدق إخفاء " بكسر الهمزة
ممدودا على أنه مصدر أو نعت لمصدر محذوف، ويحتمل أن يكون حالا
من الفاعل أي مخفيا، وقوله "بصدقة " نكرها ليشمل كل ما يتصدق به
من قليل وكثير، وظاهره أيضا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل
النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها.
قوله: (حتى لا تعلم)
قوله: (شماله ما تنفق يمينه)
هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره، ووقع
في صحيح مسلم مقلوبا " حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله " وهو نوع
من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح وإن كان أفرد نوع المقلوب
لكنه قصره على ما يقع في الإسناد، ونبه عليه شيخنا في محاسن
الاصطلاح ومثل له بحديث " إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل " وقد قدمنا
الكلام عليه في كتاب الأذان.
وقال شيخنا: ينبغي أن يسمى هذا النوع المعكوس.انتهى.
والأولى تسميته مقلوبا فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن
كما قالوه في المدرج سواء، وقد سماه بعض من تقدم مقلوبا، قال
عياض: هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم
وهو مقلوب أو الصواب الأول وهو وجه الكلام لأن السنة المعهودة
في الصدقة إعطاؤها باليمين، وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة "
باب الصدقة باليمين " قال: ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم
بدليل قوله في رواية مالك لما أوردها عقب رواية عبيد الله بن عمر فقال
بمثل حديث عبيد الله فلو كانت بينهما مخالفة لبينها كما نبه على الزيادة
في قوله " ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه".
وليس الوهم فيه ممن دون مسلم ولا منه بل هو من شيخه أو من شيخ
شيخه يحيى القطان، فإن مسلما أخرجه عن زهير بن حرب وابن نمير
كلاهما عن يحيى وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير، وكذا أخرجه أبو يعلى
في مسنده عن زهير، وأخرجه الجوزقي في مستخرجه عن أبي حامد
بن الشرقي عن عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم عن يحيى القطان كذلك،
وعقبه بأن قال: سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول يحيى القطان عندنا
واهم في هذا، إنما هو " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " قلت:
والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر، لأن الإمام أحمد قد رواه عنه
على الصواب، وكذلك أخرجه البخاري هنا عن محمد بن بشار وفي الزكاة
عن مسدد، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يعقوب الدورقي وحفص
بن عمر وكلهم عن يحيى، وكأن أبا حامد لما رأى عبد الرحمن قد تابع
زهيرا ترجح عنده أن الوهم من يحيى، وهو محتمل بأن يكون منه لما
حدث به هذين خاصة، مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه.
وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة، وليس بجيد لأن
المخرج متحد ولم يختلف فيه على عبيد الله بن عمر شيخ يحيى فيه
ولا على شيخه خبيب ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه.
وأما استدلال عياض على أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية
مالك مثل عبيد الله فقد عكسه غيره فواخذ مسلما بقوله مثل عبيد الله
لكونهما ليستا متساويتين، والذي يظهر أن مسلما لا يقصر لفظ المثل
على المساوي في جميع اللفظ والترتيب، بل هو في المعظم إذا تساويا
في المعنى، والمعنى المقصود من هذا الموضع إنما هو إخفاء الصدقة
والله أعلم، ولم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه إلا عن أبي هريرة،
إلا ما وقع عند مالك من التردد هل هو عنه أو عن أبي سعيد كما قدمناه
قبل، ولم نجده عن أبي هريرة إلا من رواية حفص، ولا عن حفص
نعم أخرجه البيهقي في الشعب من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه
عن أبي هريرة والراوي له عن سهيل عبد الله بن عامر الأسلمي وهو
ضعيف لكنه ليس بمتروك، وحديثه حسن في المتابعات، ووافق في قوله
" تصدق بيمينه " وكذا أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان
الفارسي بإسناد حسن موقوفا عليه لكن حكمه الرفع.