المستشار نبيل جلهوم | ||
المهندس عبدالدائم الكحيل | الدكتور عبدالله بن مراد العطرجى | بطاقات عطاء الخير |
دروس اليوم | أحاديث اليوم | بطاقات لفلي سمايل |
|
تسجيل دخول اداري فقط |
انشر الموضوع |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان"تزكية النفوس وإصلاح القلوب"، والتي تحدَّث فيها عن تزكية النفوس وإصلاح القلوب، والطرق التي ينبغي على كل مسلمٍ سلوكها لتحصيل ذلك، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات والأحاديث والأقوال والآثار عن السلف والعلماء. الحمد لله العليِّ الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ فسوَّى وقدَّر فهدَى، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله نبيُّ الرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمةِ الأبرارِ النُّجَبَا، والتابعين ومن تبِعَهم إلى يوم البعثِ واللِّقاءِ والجَزَا. فاتقوا الله - عباد الله -، واذكرُوا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37]. عباد الله: تزكيةُ النفوسِ وتقويمُها وإصلاحُ القلوبِ وتطهيرُها أملٌ سعَى إليه العُقلاء في كل الثقافات وفي كل الحضارات منذ أقدم العُصور، فسلكوا إلى بلوغه مسالك شتَّى، وشَرَعوا لأنفسهم مناهِج وطرائِق قِددًا، وحسِبُوا أن في أخذهم أنفُسهم بها إدراكَ المُنَى، وبلوغَ الآمال في الحَظوةِ بالحياة الطيبة والعَيشِ الهانِئِ السعيد. فمن تعذيبٍ للجسد بأمورٍ وأعمال مُضنِيةٍ أسمَوها: رياضاتٍ ومُجاهَدات، إلى إغراقٍ في الشهوات، وانهِماكٍ في طلب اللذَّاتِ بإسرافٍ على النفسِ لا حُدود له، إلى عكوفٍ على مناهج فلسفيَّة وتأمُّلاتٍ قائمةٍ على شطَحَاتٍ وخيالاتٍ لا سنَدَ لها من واقعٍ، ولا ظهيرَ لها من عقلٍ، إلى غير ذلك من نزَعاتٍ وطرائِق لا يجِدُ فيها اللبيبُ ضالَّته، ولا يبلُغُ منها بُغيتَه. غيرَ أن كل من أُوتي حظًّا من الإنصافِ، ونصيبًا من حُسن النظر والبصر بالأمور لا يجِدُ حرجًا في الإقرار بأن السعادةَ الحقَّة التي تطيبُ بها الدنيا، وتطمئنُّ بها القلوبُ، وتزكُو النفوسُ هي تلك التي يُبيِّنُها ويكشِفُ عن حقيقتها الكتابُ الحكيمُ والسنةُ الشريفةُ بأوضحِ العبارة وأدقِّها وأجمعِها في الدلالة على المقصود. عباد الله: لقد أرسلَ الله رُسُلَه، وأنزلَ كُتبَه ليُرشِدَ الناسَ إلى سُبُل تزكيةِ أنفسهم وإصلاحِ قلوبهم، وليُبيِّن لهم أن ذلك الأمر لن يتحقَّق إلا حين يُؤدُّون حقَّ الله عليهم في إخلاص العبودية له؛ إذ هي الغايةُ من خلقهِ لهم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 58]. وقد جاء في كتاب الله وسنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانُ الطريقِ إلى هذه التزكية التي جعل اللهُ فلاحَ المرء مرهونًا بها، وجعل الخيبةَ والخُسران مرهونًا بضدِّها، وهو: التَّدسِيَة؛ أي: تخبيثُ وتلويثُ النفس وإفسادُها بالخطايا؛ فقال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7- 10]، وقال - عزَّ اسمُه -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، وقال - سبحانه - في خطابِ نبيِّه موسى - على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام - حين أرسله إلى فرعون، قال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17- 19]. وإن هذا الكتابَ المُبارَك - يا عباد الله - الذي جعله الله روحًا تحيا به القلوبُ، ونورًا تنجابُ به الظُّلُماتُ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. إن هذا الكتابَ ليُصرِّحُ أن أساسَ التزكية في الإسلام ورُوحها وعِمادَها ومِحورَها: توحيدُ الله تعالى، وحقيقتُه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أن يشهدَ العبدُ انفرادَ الربِّ - تبارك وتعالى - بالخلق والحُكم، وأنه ما شاء كان، وما لم يشَأ لم يكُن، وأنه لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، وأن الخلقَ مقهورون تحت قبضَته، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعين من أصابعه إن شاءَ أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه. فالقلوبُ بيده، وهو مُقلِّبُها ومُصرِّفُها كيف شاءَ وكيف أراد، وأنه هو الذي آتَى نفوسَ المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهمَ نفوسَ الفُجَّار فُجورَها وأشقاها، من يهدِ الله فهو المُهتَد، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، يهدِي من يشاءُ بفضله ورحمته، ويُضِلُّ من يشاءُ بعدلهِ وحِكمته، هذا فضلُه وعطاؤُه، وما فضلُ الكريم بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ... وفي هذا المشهَد يتحقَّقُ للعبدِ مقامُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] علمًا وحالاً، فيثبُتُ قدمُ العبدِ في توحيد الربوبية، ثم يرقَى منه صاعِدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقَّن أن الضُّرَّ والنفعَ والعطاءَ والمنعَ والهُدى والضلال والسعادةَ والشقاءَ، كل ذلك بيد الله لا بيدِ غيره، وأنه الذي يُقلِّبُ القلوبَ ويُصرِّفُها كيف يشاء، وأنه لا موفِّقَ إلا من وفَّقه وأعانَه، ولا مخذولَ إلا من خذلَه وأهانَه وتخلَّى عنه، وأن أصحَّ القلوبَ وأسلمَها وأقومَها وأرقَّها وأصفاها وأشدَّها وأليَنها: من اتخَذَه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كلِّ ما سِواه، وأخوفَ عنده من كل ما سِواه، وأرجَى له من كل ما سِواه. فتتقدَّمُ محبَّتُه في قلبه جميعَ المحابِّ تبَعًا لها، كما ينساقُ الجيشُ تبَعًا للسلطان، ويتقدَّم خوفُه في قلبه جميعَ المخوفات، فتنساقُ المخاوِفُ كلها تبَعًا لخوفه - سبحانه -، ويتقدَّم رجاؤه في قلبه جميعَ الرجاء، فينساقُ كل رجاءٍ تبعًا لرجائه. فهذا علامةُ توحيد الإلهية في هذا القلب، والبابُ الذي دخلَ إليه منه هو توحيدُ الربوبية ... والمقصود: أن العبدَ يحصُل له في هذا المشهد من مُطالَعة الجنايات والذنوب وجريانها عليه وعلى الخليلَ بمعونته، ولا وصول لمرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه، ومصادِرها إليه، وأزِمَّةُ التوفيقِ جميعُها بيديه، فلا مُستعان للعباد إلا به، ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال شُعيب - خطيبُ الأنبياء -: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]". اهـ كلامُه. وإن أثرَ التوحيد في التزكية - يا عباد الله -؛ بل في حياة المسلم لَيبدو جلِيًّا في توحيد الهدَف والغاية واتفاقِ العلمِ والعمل، حتى يكون فهمُ المُسلم وعقيدتُه وعلمُه وعملُه وقصدُه واتجاهاتُ قلبه ونشاطُه مُنتظمًا في سلكٍ واحدٍ، مُتوافقٍ مُؤتلفٍ لا تعارُضَ فيه ولا تضارُب، ويرتفعُ عن كاهلِ الإنسان ذلك الضيقُ المُمِضُّ الذي يستشعِرُه حين تتعارَضُ في نفسه الأهداف، وتتناقضُ الأعمال. ومما يُزكِّي النفوسَ - يا عباد الله -: تجيدُ الإيمان فيها على الدوام؛ إذ الإيمانُ يخلَقُ كما تخلَقُ الثياب، ولذا كان صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخُذ أحدُهم بيدِ الآخر فيقول: "تعالَ نُؤمنُ ساعةً"، فيجلِسان فيذكُران اللهَ تعالى. وفي ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وطاعته والازدِلافِ إليه أعظمُ ما يُجدِّدُ الإيمان في نفس المؤمنِ الذي يعلمُ أن الإيمانَ يزيدُ بالطاعة، وينقُصُ بالمعصية، فيعملُ على زيادة إيمانه بصدقِ الالتِجاءِ إلى الله تعالى الذي تكونُ أظهرُ ثماره المُبارَكة تزكية النفوس، كما جاء في الدعاء النبوي الكريم: «اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها». ومما يُزكِّي النفوس ويُصلِحُ القلبَ - يا عباد الله - أيضًا: دوامُ تذكُّر نعمِ الله التي أنعمَ بها على عباده، وإحصاؤُها خارجٌ عن مقدور البشر، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]. فإن هذا التذكُّر لهذا النعَمِ يُورِثُ الذاكِرَ لها كمال تعلُّقٍ بربِّه، وتمامَ توجُّهٍ إليه، وخضوعًا وتذلُّلاً له - سبحانه -؛ فإن كل ما وهبَهُ من حياةٍ وصحةٍ ومالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرها إنما هو منَّةٌ منه، وفضلٌ وإِنعامٌ أنعمَ به كيف ومتى شاء، ولو شاء لسلَبَ ذلك منه متى شاء؛ فإنه مالكُ الملكِ كلِّه، بيده الخيرُ يُؤتيه من يشاءُ، ويصرِفُه عمَّن يشاءُ، ومعرفةُ ذلك ودوامُ تذكُّره باعِثٌ على معرفةِ العبدِ بعجزه وضعفِه وافتِقاره إلى ربِّه في كل شؤُونه. غيرَ أن تذكُّر النِّعَم لا بُدَّ من اقتِرانه بالعمل الذي يرضاه الله ويُحبُّه ويُثيبُ عليه يوم القيامة، وحقيقتُه: فعلُ الخيراتِ، وتركُ المُنكرات، على هُدًى من الله، ومُتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع العنايةِ الخاصَّةِ بالفرائِض التي افترَضَها الله على عباده؛ إذ هي أحبُّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى ربِّه، كما جاء في الحديثِ: (إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنَّه)؛ أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -. ومما يُزكِّي النفسَ أيضًا - يا عباد الله -: أعمالُ القلوب؛ فإن القلبَ ملكُ الجوارِح تصلُح بصلاحه وتفسُد بفساده، كما جاء في الحديثِ: (ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب)؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديثِ النُّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -. ومن أهمِّها وأعظمِها: نيَّةُ المرء ومقصودُه من كلِّ عملٍ يعملُه، فقد قال رسول الهُدى - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: (إنما الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوَى؛ فمن كانت هِجرتُه إلى الله ورسولِه فهِجرتُه إلى الله ورسولِه، ومن كانت هِجرتُه لدُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه)؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما". فاتقوا اللهَ - عباد الله -، واتخِذوا من كتاب ربِّكم وسنةِ نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - خير منهجٍ لتزكيةِ النفوسِ وإصلاحِ القلوبِ ابتغاءَ رِضوان الله على هُدًى من الله، وتأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واقتِفاءً لأثر الصفوةِ من عباد الله، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18]. نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّال لما يُريد، أحمده - سبحانه - يخلُق ما يشاءُ ويفعلُ ما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتَّقي بها نارًا حرُّها شديد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله صاحبُ الخُلُق الراشدِ والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه. فيا عباد الله:
إن النقصَ والتقصيرَ والخطأ لا ينفكُّ عنه إنسانٌ، ولا يسلَمُ منه إلا من عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا بقوله - سبحانه -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. والتوبةُ - يا عباد الله - من أعظمِ أسباب التزكيةِ للنفس والإصلاحِ للقلبِ؛ فإن عبوديةَ التوبة - كما قال ابن القيم - يرحمه الله -: "من أحبِّ العبودياتِ إلى الله وأكرمِها عليه؛ فإنه - سبحانه - يحبُّ التوابين، ولو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتَلَى بالذنبِ أكرمَ الخلقِ عليه، فلمحبَّته لتوبةِ عبادهِ ابتلاه بالذنبِ الذي يُوجِبُ وقوعَ محبوبهِ من التوبةِ، وزيادةَ محبَّته لعبده؛ فإن للتوبة عنده - سبحانه - منزلةً ليست لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرحُ - سبحانه - بتوبةِ عبده حين يتوبُ إليه أعظمَ فرحٍ يُقدَّمُ، كما مثَّلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفرَحِ الواجدِ لراحِلَته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرضِ الدوِيَّةِ المُهلِكة بعدما فقدَها وأيِسَ من أسباب الحياة، ولم يجِئ هذا الفرحُ - يا عباد الله - في شيءٍ من الطاعاتِ سِوى التوبة. ومعلومٌ أن لهذا الفرحِ تأثيرًا عظيمًا في حال التائبِ وقلبه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه، وهو من أسبابِ تقدير الذنوبِ على العباد؛ فإن العبدَ ينالُ بالتوبةِ درجةَ المحبوبيَّة فيصيرَ حبيبًا لله، فإن الله يُحبُّ التوابين، ويُحبُّ العبدَ المُفتَّن التوَّاب، ويُوضِّحُه: أن عبوديَّة التوبة فيها من الذلِّ والانكِسار والخُضوع والتملُّقِ لله والتذلُّل له ما هو أحبُّ إليه من كثيرٍ من الأعمال الظاهرة، وإن زادَت في القدرِ والكمية على عبودية التوبة، فإن الذلَّ والانكِسار روحُ العبودية ومُخُّها ولُبُّها. يُوضِّحُ ذلك: أن حُصول مراتب الذلِّ والانكِسار للتائبِ أكملُ منها لغيره، فإنه قد شاركَ من لم يُذنِب في ذلِّ الفقر والعبوديةِ والمحبةِ، وامتازَ عنه بانكِسار قلبه، ولأجل هذا فإن أقربَ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجِدٌ، كما أخبرَ بذلك نبيُّ الرحمة والهُدى - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه مقامُ ذلٍّ وانكِسارٍ بين يدَي ربِّه. ويُوضِّحُ ذلك: أن الذنبَ قد يكونُ أنفعَ للعبدِ إذا اقترنَت به التوبةُ من كثيرٍ من الطاعات؛ فإنه قد يعملُ الذنبَ فلا يزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعَد وإن مشَى ذكَر ذنبَه، فيُحدِثُ له انكِسارًا وتوبةً واستِغفارًا وندَمًا، فيكونُ ذلك سببَ نجاته، ويعملُ الحسنةَ فلا تزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشَى، كلما ذكَرَها أورثَتْه عُجبًا وكِبرًا ومِنَّة، فتكونُ سببَ هلاكِه. فيكون الذنبُ مُوجِبًا لترتُّب طاعاتٍ وحسناتٍ ومُعاملاتٍ قلبيَّةٍ؛ من خوفِ الله والحياء منه، والإطراقِ بين يديه، مُنكِّسًا رأسَه، خجِلاً، باكِيًا، نادِمًا، مُستقيلاً ربَّه. وكلُّ واحدٍ من هذه الآثار أنفعُ للعبد من طاعةٍ تُوجِبُ له صولةً وكِبرًا وازدِراءً للناس ورؤيتَهم بعين الاحتِقار، ولا ريبَ أن هذا المُذنِبَ خيرٌ عند الله وأقربُ إلى النجاةِ والفوزِ من هذا المُعجَبِ بطاعته، الصائلِ بها، المانِّ بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده". اهـ كلامُه. ألا وإن عمادَ التزكيةِ التي تُورِثُ الحياةَ الطيبةَ في الدنيا، والفوزَ بعيشِ السُّعداءِ في الآخرةِ، وأساسُها ولُبُّها ورُوحُها: عبادةُ الله على بصيرةٍ، بألا يُعبَدَ - سبحانه - إلا بما شرَعه في كتابه، أو صحَّ به الخبرُ عن رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وهذا يستلزِمُ الاستِمساك بسُنَّته - صلوات الله وسلامه عليه - والعضَّ عليها بالنواجِذ، كما جاء في حديثِ العِرباضِ بن ساريةَ - رضي الله عنه -، وفيه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: (إنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعيد، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ)؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في "سننهم"، والحاكم، وابنُ حبان في "صحيحه". وجاء في الحديثِ الذي أخرجه مُسلمٌ في "صحيحه"، والنسائيُّ - واللفظُ له - من حديثِ جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خُطبته: «نحمَدُ الله ونُثنِي عليه بما هو أهلُه»، ثم يقول: (من يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِي له، إن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار ..) الحديث. وفي "الصحيحين" من حديثِ عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ) وفي لفظٍ لمُسلمٍ - رحمه الله -: (من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ) أي: مردودٌ على صاحبِه، غيرُ مرضِيٍّ ولا مقبولٍ عند الله. وهذا الحديثُ العظيمُ - كما قال أهلُ العلمِ - قاعدةٌ جليلةٌ، وأصلٌ عظيمٌ في ردِّ الابتِداعِ وإبطال الإحداثِ في دين الله، يجبُ على كل لبيبٍ ناصحٍ لنفسه، مُريدٍ للخيرِ لها أن يضعَه نُصبَ عينيه. وما أحسنَ قول الصحابيِّ الجليلِ حُذيفة بن اليَمان - رضي الله عنه - ناصِحًا به، ومُحذِّرًا أصحابَه القُرَّاء من مُجانَبة سبيل سلفِ الأمةِ وخِيارها، والتردِّي في ظُلمات البِدَع؛ حيث قال - رضي الله عنه -: "كلُّ عبادةٍ لم يتعبَّدها أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبَّدوها؛ فإن الأولَ لم يدَع للآخر مقالاً، فاتقوا الله - يا معشرَ القُرَّاء - وخُذوا طريقَ من قبلكم". فاتقوا الله - عباد الله -، وحذارِ من الابتِداعِ في دين الله حَذَارِ. وصلُّوا وسلِّموا على النبيِّ المُختار؛ فقد أمَرَكم بذلك ربُّكم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين. اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء. اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد. اللهم احفَظ المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، وفي كل بلاد الإسلام يا رب العالمين، اللهم احقِن دماءهم، وكُن لهم، وارحَم عفَهم، واجبُر كسرَهم، واشفِ جرحاهم، وارحَم موتاهم يا رب العالمين، وقِهِم شرَّ الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن يا رب العالمين. اللهم آتِ نُفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا. اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ. اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك. {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]. وصلِّ اللهم وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
|
|
|