المستشار نبيل جلهوم | ||
المهندس عبدالدائم الكحيل | الدكتور عبدالله بن مراد العطرجى | بطاقات عطاء الخير |
دروس اليوم | أحاديث اليوم | بطاقات لفلي سمايل |
|
تسجيل دخول اداري فقط |
انشر الموضوع |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بعنوان :تأمُّلات في سُورة يونس - عليه السلام -
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: تأمُّلات في سُورة يونس - عليه السلام - ، والتي تحدَّث فيها عن سُورة يونس - عليه السلام -، وما اشتمَلَت عليه مِن معانٍ وحِكَمٍ جليلةٍ، وفوائِد عظيمةٍ، ومُناسَبَاتٍ مُهمَّةٍ. الخطبة الأولى إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله مِن شُرور أنفُسنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له عزَّ عن الشَّبيه وعن النِّدِّ وعن المَثِيل وعن النَّظِير، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، وأشهدُ أن مُحمدًا عبدُ الله ورسولُه بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصَحَ الأمةَ، وجاهَدَ في الله حقَّ جِهادِه حتى أتاهُ اليَقين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين. أما بعد .. أيها الناس: أُوصِيكم ونفسِي بتقوَى الله تعالى؛ فهي سِتارُ الأمن يوم الفزَع، ولِباسُ السَّعادة والرِّضا عند الجَزَع، وهي البِشارةُ العُظمى: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [يونس: 62- 64]. أيها المُسلمون: إنَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مُحمدُ بن عبد الله بن عبد المُطلب القُرشيُّ الهاشميُّ، أشرفُ الناسِ نسَبًا، وأحسَنُهم خَلقًا وخُلُقًا، طهَّرَه الله واصطفاه، وعرَفَ قومُه صِدقَه وأمانتَه مِن شبابِه بل مِن صِباه، لما بلغَ مِن العُمر أربعين بعثَه الله رحمةً للعالمين. وإنَّ الله نظَرَ إلى أهل الأرضِ فمقَتَهم عربَهم وعجمَهم إلا بقايا مِن أهل الكِتاب، ونظَرَ في قلوبِ العباد فرأَى قلبَ مُحمدٍ خيرَ قلوبِ العباد، فاختارَه لرسالتِه. نزلَ الوحيُ مِن السماء، وآذَنَ الله بصُبحٍ جديدٍ، وتسلَّلَ النُّورُ الموصُولُ بالسماء العُليا مِن غار حراء إلى مكَّة، فغمَرَ بيوتَ مكَّة وفِجاجَها، وسالَ في طُرقاتِها ونوادِيها، وتناثَرَ على وجوهِ الرَّائِحِين والغادِين. وعجِبَ المُشرِكون أن ينزِلَ الوحيُ على رجُلٍ مِنهم، وكذَّبُوه وكانُوا في أمرٍ مرِيجٍ، وقالُوا: ساحِرٌ مجنُون، وقالُوا: أساطِيرُ الأولين، وقالُوا: ائتِ بقُرآنٍ غير هذا أو بدِّلْهُ. وما زالَ القُرآنُ يُجادِلُهم في إثباتِ الرسالةِ وصِدقِ الرسول حتى نزلَت سُورةُ يُونس - عليه السلام -، سُورةٌ كاملةٌ في إثباتِ الرسالة، وصِدقِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. سُورةٌ نزلَت بمكَّة، وإنَّ للسُّور المكيَّة لعبِقًا وألَقًا، وفيها ما في السُّور المكيَّة مِن تقرير التوحيدِ، والبعثِ والجزاء، والرسالة والقُرآن، وبيان عاقِبة الفريقَين. ومَن تأمَّلَ في هذه السُّورة خبَرَ نوحٍ وجَهرَه بالدعوة، وخبَرَ مُوسَى وقومِه واتِّخاذَهم بيوتَهم أماكِن للصلاة، علِمَ أنَّ هذه السُّورة مِن أوائِلِ ما نزلَ في مكَّة قبل أن يجهَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة. وذواتُ ﴿الر﴾ خمسُ سُور، كلُّ سُورةٍ مِنها تحمِلُ اسمَ نبيٍّ، وهي: يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والخامِسةُ الحِجرُ دِيارُ ثمود قوم صالِحٍ - عليه السلام -. بِسمِ الله الرحمن الرحيم { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } [يونس: 1، 2]. إنَّها البِشارةُ والنِّذارةُ، إنذارُ الناسِ وظيفةُ الرُّسُلِ وأتباعِهم إلى يوم القِيامة، إنذارُ الناس وبِشارةُ المُؤمنين لا يقتصِرُ الداعِيةُ على إحداهُما دون الأُخرى: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 45- 47]. أيها المُسلمون: آيةُ هذا الرسُول الكريم هذا القُرآنُ العظيمُ يتلُوه عليهم، ويقرَعُ به أسماعَهم، ويتحدَّاهم به: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 57، 58]، { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } [يونس: 37- 40]. عن أبي هُريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما مِن الأنبِياء مِن نبيٍّ إلا قد أُعطِيَ مِن الآياتِ ما مِثلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتِيتُ وحيًا أوحَى اللهُ إلَيَّ، فأرجُو أن أكون أكثَرُهم تابِعًا يوم القِيامة )؛ رواه مسلم. فالقُرآنُ مُعجِزةُ النبيِّ مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْر ِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [يونس: 15، 16]. وهذا مِن أعظمِ دلائِلِ نبُوَّتِه - عليه الصلاة والسلام -، فقد لبِثَ في قومِه أربعين سنةً قبل أن يُوحَى إليه، وهم يعرِفُون صِدقَه وأمانتَه، فلم يكُن ليَذَرَ الكذِبَ على النَّاس ويكذِبَ على الله، كما قال هِرقلُ في حديثِ أبي سُفيان الطويل. أيها المُؤمنون: وفي هذه السُّورة ذكَرَ اللهُ خبَرَ ثلاثةٍ مِن الرُّسُل الكِرام، وهم نُوحٌ ومُوسى ويُونس - عليهم وعلى نبيِّنا مُحمدٍ أفضلُ الصلاةِ والسلام -، ولما كانت السُّورةُ في إثباتِ الرسالة ناسَبَ أن يُذكَرَ هؤلاء الأنبِياء الثلاثة؛ فنُوحٌ أولُ رسولٍ بعَثَه الله إلى أهلِ الأرضِ بعد أن وقَعُوا في الشِّرك، وكانُوا قبل ذلك كلُّهم على التوحيد. ورسالةُ مُوسَى - عليه السلام - أعظمُ رسالةٍ بعد القُرآن، ولهذا يقرِنُ الله بينَهما في مواضِعَ كثيرةٍ، كقولِه تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَ كْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [القصص: 48، 49]. وأما يُونس - عليه السلام -، فإنَّه نبيٌّ كريمٌ بعثَه الله إلى أهل نَينَوَى، فلما كذَّبُوه لم يصبِر، وذهبَ مُغاضِبًا، فقال الله لنبيِّه مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [القلم: 48]. ومُناسبةٌ أُخرى في ذِكرِ نُوحٍ ومُوسَى - عليهما السلام -، وهي: أنَّ الله ذكَرَ في هذه السُّورة قولَ المُشرِكين لنبيِّنا مُحمدٍ – صلى الله عليه وسلم -: { وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } [يونس: 20]، فناسَبَ أن يُذكَرَ نُوحٌ - عليه السلام -؛ فإنَّ الله لم يذكُر له في القُرآن مُعجِزةً وآيةً، كما ذكَرَ مُوسَى - عليه السلام - الذي آتاه الله تِسعَ آياتٍ بيِّناتٍ، { قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأنعام: 37]، { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ } [الإسراء: 59]. ومُناسبةٌ أُخرى - أيها المُؤمنون -، وهي: اختِلافُ النِّهايات وعاقِبة أقوامِ الرُّسُل الثلاثةِ؛ فنُوحٌ - عليه السلام - كذَّبَه قومُه فأغرَقَهم الله { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ } [هود: 40]، ومُوسى - عليه السلام - آمَنَت به بنُو إسرائيل، وكانُوا سوادًا عظيمًا، وكذَّبَه فِرعونُ وقومُه فأغرَقَهم الله، ويُونسُ - عليه السلام - آمَنَ قومُه أجمَعُون، وذلك أنَّه لما خرَجَ مِن بين أظهُرِهم، ورأَوا العذابَ الذي انعقَدَت أسبابُه جأَرُوا إلى الله وتضرَّعُوا إليه، فكشفَ الله عنهم العذابَ، { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس: 98]. فكأنَّ السُّورةَ تقولُ لنبيِّنا مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليك هُدى قومِك، وإنَّما عليك الدعوةُ والبلاغُ، وعاقِبةُ أمرِهم علينا، بل قالت السُّورةُ ذلك بأوضَحِ بيانٍ: { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } [يونس: 46]. ومُناسبةٌ أُخرى - أيها المُسلمون -، وهي: أنَّ نُوحًا ومُوسَى - عليهما السلام - مِن أُولِي العَزم مِن الرُّسُل الذين جمعُوا الاتِّباعَ والصَّبر، وأمَرَ اللهُ نبيَّه مُحمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يقتَدِيَ بهم: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف: 35]. فنُوحٌ - عليه السلام - بقِيَ في قومِه يدعُوهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، ودعاهم ليلًا ونهارًا فلم يزِدهم ذلك إلا فِرارًا، وما غيَّرَ ولا بدَّل. ومُوسَى - عليه السلام - بعثَه الله إلى فِرعون داعِيًا، وكان مِن أمرِه ما كان، ثم لقِيَ مِن بنِي إسرائيل ما لقِي، وكان نبيُّنا مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إذا أذاه قومُه قال: ( يرحَمُ اللهُ مُوسَى، لقد أُوذِيَ بأكثَرَ مِن هذا فصَبَر ). فكأنَّ السُّورةَ تقولُ لنبيِّنا مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: اصبِر كما صبَرَ نُوحٌ ومُوسَى، ولا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ، وهي أيضًا تقولُ لأتباعِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: اصبِرُوا كما صبَرَ نُوحٌ ومُوسَى، ولا تيأسُوا ولا تُغادِرُوا مواقِعَكم. ومِن لطيفِ العلمِ ومُلَحِه: أنَّ لكل واحدٍ مِن هؤلاء الرُّسُل الثلاثة خبَرًا مع الماء؛ فنُوحٌ أغرَقَ الله قومَه بماءٍ مُنهمِرٍ، وفجَّر الأرضَ عيونًا فالتَقَى الماءُ على أمرٍ قد قُدِر، وأنجاه الله ومَن معَه في الفُلك المشحُون على ذاتِ ألواحٍ ودُسُر. ومُوسَى - عليه السلام - فلَقَ الله له البحرَ، وجاوَزَ ببني إسرائيل، ثم غرَّقَ الله فِرعونَ وقومَه. ويُونسُ - عليه السلام - ركِبَ البحرَ في الفُلك المشحُون، وكان في بطنِ الحُوتِ في ظُلمةِ البحر في ظُلُماتٍ ثلاثٍ. أيها المُؤمنون: ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الرَّحيمُ الشَّفيقُ يدعُو قومَه، ويحرِصُ على هِدايتِهم، حتى لتكادُ نفسُه تذهَبُ عليهم حسرات، فيقولُ الله لهم: { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [الحجر: 88]، { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]، ويقولُ له: { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [الأنعام: 35]. ويقولُ الله في سُورة يُونس: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } [يونس: 99، 100]. مُخطِئٌ مَن ظنَّ يومًا أنَّه يستطيعُ هدايةَ النَّاسِ أجمَعين، أو جمعَهم على كلمةِ الحقِّ الواحِدة، إنَّ هذا خِلافُ سُنَّة الله وتقديرِه، وخارِجٌ عن قُدرةِ البشَر: { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود: 118]، { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [الأنعام: 35]. فالواجِبُ على الداعِية أن يقوم بما أمَرَه الله به، وأن يُبلِّغَ الدعوةَ إلى النَّاس، { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } [الشورى: 48]، قُل كما أمَرَ الله نبيَّه أن يقُول: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } [يونس: 104- 106]. وهذا في حقيقتِه غايةُ التثبيتِ واليَقين، قُل كما أمَرَ الله نبيَّه أن يقُول: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [يونس: 108، 109]. إنَّهما الأصلان العزيمان المُتلازِمان: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ } اتِّباعُ الوحيِ والصَّبرُ على وَعثاءِ الطريقِ، ومَن جمعَ هذَين الأمرَين فقد سارَ على طريقِ الأنبِياء ودعوتِهم، ومَن نقَصَ مِنهما فقد نُقِصَ مِن أمرِ دعوتِه بقَدرِ ذلك. وما وقَعَت فِرقٌ وأحزابٌ وجماعاتٌ مِن المُسلمين في التحريفِ والتبديلِ وتهوينِ التمسُّك بالشَّريعةِ إلا بتضييعِ أصلِ الاتِّباع، وما وقَعَت طوائِفُ في الغلُوِّ والخُروجِ إلا بتضييعِ الأصلِ الثانِي وهو الصَّبرُ، والهُدى هُدى الله الجامِع بين الصَّبر والاتِّباع { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [يونس: 109]، { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم: 60]. { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [يونس: 15]. بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفَعَنا بما فِيهما مِن الآياتِ والحِكمة، أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم. |
|
|