تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الدفين الصغير / أمـــانى صلاح الدين / وداع


adnan
12-02-2013, 09:58 PM
الأخت الزميلة / أمانى صلاح الدين



https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=8c4e62fb9f&view=att&th=142b316d7c64d4ba&attid=0.3&disp=emb&zw&atsh=1






(http://amany-salah.blogspot.com/)


الدفين الصغير
مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي

https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=8c4e62fb9f&view=att&th=142b316d7c64d4ba&attid=0.4&disp=emb&zw&atsh=1 (http://www.ataaalkhayer.com/)

الآنَ نفَضْتُ يدي من تراب قبرك يا بني،
وعدتُ إلى منزلي كما يعود القائدُ المنكسر من ساحةِ الحرب
لا أملِك إلا دمعة لا أستطيعُ إرسالها، وزَفْرة لا أستطيع تصعيدَها؛
ذلك لأن اللهَ الذي كتَب لي في لوح مقاديره هذا الشقاءَ في أمرك،
فرزقني بك قبل أن أسأَلَه إياك، ثم استلبك مني قبل أن أستعفيَه منك –
قد أراد أن يتممَ قضاءه فيَّ، وأن يجرِّعَني الكأسَ حتى ثمالتها،
فحرَمني حتى دمعةً أرسلها، أو زفرة أصعِّدها، حتى لا أجد في هذه،
ولا تلك ما أتفرَّج به مما أنا فيه؛ فله الحمد راضيًا وغاضبًا،
وله الثناء منعِمًا وسالبًا، وله مني ما يشاءُ من الرِّضا بقضائه،
والصبر على بلائه.

رأيتُك يا بني في فراشك عليلاً فجزِعْتُ، ثم خِفتُ عليك الموت ففزِعْتُ،
وكأنما كان يخيَّلُ إلي أن الموت والحياة شأنٌ من شؤون الناس،
وعملٌ من الأعمال التي تملِكها أيديهم، فاستشرت الطبيبَ في أمرك،
فكتب لي الدواء، ووعَدني بالشفاء،
فجلست بجانبك أصبُّ في فمك ذلك السائلَ الأصفر قطرةً قطرة،
والقدَر ينتزع من بين جنبيك الحياةَ قطعةً قطعة،
حتى نظرتُ فإذا أنت بين يدي جثةٌ باردة لا حراك بها،
وإذا قارورة الدواء لا تزال في يدي، فعلمتُ أني قد ثكِلْتُك،
وأن الأمر أمرُ القضاء، لا أمر الدواء.

سأنام يا بنيَّ بعد قليل على فِراشٍ مثلِ فراشك،
وسيُعالج مني المقدار ما عالَج منك،
وأحسب أن آخرَ ما سيبقى في ذاكرتي في تلك الساعة من شؤون الحياة
وأطوارها، وخطوبها وأحداثها،
هو الندمُ العظيم الذي لا أزال أكابد ألَمَه على تلك الجُرَع المريرة
التي كنت أجرِّعُك إياها بيدي، وأنت تجُود بنفسك فيربَدُّ وجهك،
وتختلج أعضاؤك، وتدمَعُ عيناك،
وما لك يد فتستطيع أن تمدَّها إليَّ لتدفعَني عنك،
ولا لسان فتستطيع أن تشكو إليَّ مرارة ما تذوق.

لقد كان خيرًا لي ولك يا بني أن أكِل إلى الله أمرَك في شفائك ومرضك،
وحياتك وموتك، وألا يكون آخرُ عهدك بي يوم وداعك لهذه الدنيا
تلك الآلامَ التي كنتُ أجشِّمُك إياها؛
فلقد أصبحتُ أعتقد أنني كنتُ عونًا للقضاء عليك،
وأن كأس المنية التي كان يحملها لك القدرُ في يده لم تكُنْ أمرَّ مذاقًا في فمك
من قارورة الدواء التي كنت أحمِلُها لك في يدي.

ما أسمَجَ وجهَ الحياة من بعدك يا بني!
وما أقبَحَ صورةَ هذه الكائنات في نظري،
وما أشدَّ ظُلمةَ البيت الذي أسكنه بعد فِراقِك إياه !
فلقد كنتَ تطلُع في أرجائه شمسًا مشرقة تضيء لي كلَّ شيء فيه،
أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثرَ مما ترى عينُك الآن في ظلمات قبرِك.

بكى الباكون والباكيات عليك ما شاؤوا، وتفجَّعوا ما تفجَّعوا،
حتى إذا استنفدوا ماءَ شؤونهم،
وضعُفت قُواهم عن احتمال أكثرَ مما احتملوا،
لجؤوا إلى مضاجعهم فسكنوا إليها، ولم يبقَ ساهرًا في ظلمة هذا الليل
وسكونه غيرُ عينين قريحتين، عين أبيك الثاكل المسكين،
وعين أخرى أنت تعلَمُها.

لقد طال عليَّ الليلُ حتى مللتُه،
ولكنني أسأل اللهَ أن ينفرج لي سواده عن بياض النهار؛
لأن الفجيعةَ التي فُجِعْتُها بك يا بنيَّ لم تُبْقِ بين جنبيَّ بقيةً أقوى بها
على رؤية أثر من آثار حياتك،ليت النهار يضيء؛ فقد مللتُ هذا الظلام.

دفنتُك اليوم يا بني، ودفنتُ أخاك من قبلك، ودفنتُ من قبلكما أخويكما؛
فأنا في كل يوم أستقبل زائرًا جديدًا، وأودع ضيفًا راحلاً،
فيا لله لقلب قد لاقى فوق ما تلاقي القلوبُ،
واحتمل فوق ما تحتمل من فوادح الخطوب !