المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حَالِى وَحَالَ النَّاسِ 2


vip_vip
05-12-2010, 12:56 AM
العضو هشام خالد



حَالِى وَحَالَ النَّاسِ


((2 ))

هذا هو الجزء الثاني من دروسٌ في فقه الداعية لبيئة الدعوة، وطبائع
العباد، ومعادن الرجال ، الذي استلهمه الاستاذ مسعد ياقوت من حديث
عمرو بن عبسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أراد
أن يتعرف على حقيقة دعوة الإسلام .. درسٌ في طبيعة المراحل
الأولى للدعوة.

***


التعمية عن المؤمنين

قال عمرو بن عبسة: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟
قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم -: « حُرٌّ وَعَبْدٌ ».
وهذه توريةٌ على الأرجح؛ إذا لا يُعقل أن عدد من أسلموا- خلال مرحلة
الدعوة السرية - محصور في شخصين، حر وعبد! ... فقوله: حر
وعبد ينسحب - من الناحية اللغوية والبلاغية - على جمع غفير من
الأحرار والعبيد؛ إذ هذا الجمعُ يتألف من حر وعبد !
ولماذا التورية ؟ ولماذا لم يخبره بعدد أفراد الجماعة؟ ولماذا لم يُصرح له
بأسماء أشراف الدعوة الإسلامية ورجالاتها من أولي الحسب والمال ؟

إن طبيعة المرحلة المكية عامة وظروف الاضطهاد خاصة تقتضيان
ذلك، خشية أن يتعرف المشركون على العدد الحقيقي للمسلمين،
الأمر الذي يساعد الوثنية على احتواش المسلمين، فيترصدوهم،
فيرصدوا لهم القوة المناسبة للانقضاض على أفرادها وانتشالهم زَرفات
وواحدنًا، وضربهم ضربة قوي خبير.
وهو درس لرجال الدعوة، أن يكونوا ستارًا للمؤمنين، وحصنًا لضعفاء
المسلمين؛ فليس من أخلاق قائد الدعوة أن يقذف برجاله أمام فوهة
المدفع؛ متكلاً على إيمانهم وثباتهم، فيفتن المؤمنين، فيخسر ويخسرون.

إن قائد الدعوة يتحرى دومًا التعمية عن رجاله؛ كما يظلل الأب على
أبنائه .. ولهذا أَثرٌ بعيد في تعميق العلاقة بين القائد وجنده أو بين الأخ
وأخيه؛ لِـما يراه الأخُ من تلهف أخيه عليه خشية أن يمسسه سوء .

***

وسؤال عمرو بن عبسة - " فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟ " -يظهر لك طبيعة
الجماهير والعامة من الدعوات؛ وتأثرهم بالكم لا الكيف، إن العامة تغتر
بالدكان الذي اقتظ حوله المبتاعون، وبالموقع الذي كثر زواره؛
وبالمنتدى الذي كثر رواده، يغترون بهذا، ولا يهتمون في الغالب الأعم
بالمضمون أو بمدى مصداقية هذا الموقع وسلامة منهجه.
أما العقلاء المخلصون فيهتمون بمضمون الحق لا بظاهره وإن
عزف عنه الناسُ أجمعون.

***


رجال ورجال

قال عمرو بْن عَبَسَة : فَقُلْتُ : إِنِّى مُتَّبِعُكَ !
فقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا،
أَلاَ تَرَى حَالِى وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِى قَدْ
ظَهَرْتُ فَأْتِنِى ".
وهذا الرد يفيدك أن الدعوات تكون أكثر فعالية في البيئة الحرة، عندما
تُرفع القيود، ويُطلق الدعاة يبلغون رسالات الله بكامل إرادتهم دون
حظر أو منع؛ هذه هي أنسب بيئة لنمو الدعوات بين عامة الناس،
وأفضل الأوقات لجذب الجماهير.
أما من ينضم إلى الدعوة أثناء محنتها وفي وقت حظرها -فهم أولي
العزم والصبر والثبات، وهم دومًا من يقيمون الدعوات، فلم نرَ في
تاريخ الإنسانية دعوة قامت إلا على أكتاف من دخلوها في فترة
محنتها، وصبروا على لأوائها، وكابدوا صعابها، وقاموا كثيرا،
وناموا قليلاً، من أجلها. فالأيادي الناعمة لا تبني الدول، والمترفون
لا يصنعون حضارة.
ولذلك لا تعجب إذا علمتَ أن مؤسسي الحركة الصهيونية تركوا رغد
العيش في أوربا، وتركوا بيوتهم وأموالهم، وهاجروا متجردين من أجل
فكرتهم، وكابدوا القتال في فلسطين من أجل إقامة دولتهم الباطلة،
ونجحوا في ذرع هذا الكيان السرطاني في جسد الأمة الإسلامية.
ولا تعجب إذا علمتَ أن كارل ماركس -مؤسس الشيوعية -كان لا ينام
إلا أربع ساعات، ثم يمضي آناء نهاره في الدعوة، وآناء ليله في
الكتابه، وهو بين ذلك متقشف تقشف الزاهد العابد .. هكذا أهل الباطل
في باطلهم، فأحرى بأهل الحق أن يتخلقوا بأخلاق نبيهم.
أما الذين يقطفون الثمرة سهلة دون تعب، فإنما يأكلون ويتنعمون في جهد
من بذلوا وضحوا، وليس من يحمل الدعوة كمن تحمله الدعوة، وليس
من أسس بنيان كمن لم يبذل شيئًا سوى العيش في ظلاله .. ليس صانع
البئر كالشارب منه.
{... لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ
الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ}[ الحديد:10].

***


طاقة الناس وبيئة الدعوة

"أَلاَ تَرَى حَالِى وَحَالَ النَّاسِ" !
ليس من الحكمة تكديس أبناء الدعوة في بقعة خطرة؛ فهذا أجدر
لضربها، بل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يسعى دومًا لإنشاء
عدة قواعد للدعوة، فإذا ضُربت في قاعدة انبرت أخرى تحمل اللواء،
وتم ذلك في إنشاء جالية إسلامية في الحبشة، ومحاولة إيجاد دعوة في
الطائف، وإرسال مصعب إلى المدينة تمهيدًا لبناء المجتمع الإسلامي
الجديد.

هذا، وليس من الحنكة- أيضًا- فتح باب الانضمام إلى الدعوة -
في مراحلها الأولى - على مصراعيه؛ بحيث يدخل الصالح والطالح،
والواثق والمتردد، إن الدعوة تحتاج في مراحلها الأولى إلى الانتقائية،
واختيار العناصر الأفضل، والمعادن الأخلص، فأنت ترى أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قَبِل إسلام الطفيل بن عمرو
الدوسي وكلّفه بمهمة الدعوة في قبيلة دوس، بيد أنه -
صلى الله عليه وسلم -أخّرَ قبول إسلام عمرو بن عبسة،
وذلك لمعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعادن الرجال، وشرفها،
وفضلها، وقدرتها في تحمل الصعاب والبلاء، كما أن الطفيل كان سيد
قومه وشاعرهم، ولم يذكر كُتاب السير أي سيادة لعمرو بن عبسة، فمن
الحكمة النبوية عدم تكليفه بأي نشاط دعوي؛ إذ ربما فتنته قريش
أو فتنه قومه، فيحيد ولا يعود، كما الظبية إذا برزت، كانت صيدًا لصائدٍ
أو لألف صائد، أما الأسد؛ فليس غنيمة سهلة، فلا تضيره وقفته على
الربوة.
وعليك يا داعي الله أن تتخير من معادن القوم، وتنتق أطايب الرجال،
ولا تكلف الناس إلا في حدود طاقتهم، ألم تعلم أن ربك قال:
{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ..} البقرة 286 ...
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا
أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }... الأعراف42 .

***


"أَلاَ تَرَى حَالِى وَحَالَ النَّاسِ " !

هذه الكلمة التي تنفطر لها قلوب المؤمنين، تبين لك حالة الكرب التي
عاشها سيد الداعين، هذا النبي الصابر المحتسب، لم يتعجل النصر،
ولم يمتعض من القدر، وهو -صلى الله عليه وسلم - أولى الناس
بشرف سرعة الإجابة والتمكين، ولكنَّ الله يسن سننًا، وينظم نواميس،
ويرسي معالمًا، ذلك لكيما نعلم أن تحرير العقول وبناء الأمم وإقامة
الدول تحتاج إلى الصبر، ثم الصبر، ثم الصبر.
نعم، لقد كان حال الناس سيئة، سيئة في تصوراتهم، سيئة في أخلاقهم،
سيئة في تعاملها مع منهج الله .. كان حالهم الإيذاء والتكذيب، والرفض
التعذيب ..
وكانت حالك - صلى الله عليك -حال الداعي الواثق من نصر الله،
المتفهم لسنن الكون، المتبصر بحاضرك وطبيعة مجتمعك .. تعرف
جيدًا حالك وحالهم!

***


يا قارئي ..

- اعرف حالك، وافهم قدراتك، فربمًا تظن فيك العجز وأنت القوي
الأمين؛ فامض في سّرٍ مِن حِفْظ الله، وحِجاب من كلاءته في دعوته
ورسالته، امض الآن! فاعص بالله وأطع بالله، غير مبالٍ في رضا
الخالق بسخط المخلوق.
- واعرف حال الناس، تاريخهم وثقافاتهم، أنظمتهم وطبائعهم، خصالهم
الحميدة، ومسالبهم القبيحة، مفاتيح نفوسهم، ومغاليق قلوبهم، تفهم
موقفهم من الدعوة، في أي السبل بك يلتقون، وفي أي الأفكار معك
يتفقون .. واقرأ مقدمة ابن خلدون.

***


توصية عملية

- رَسّخ نفسك في بابي الأخلاق والعقيدة، علمًا وعملاً، قولاً وفعلاً ..

- صل رحمًا واكسر صنمًا . زرْ والدَيْك أو قِفْ على قَبريْهما، واكسر
عادة من عاداتك، عادة لا تفيد، أو عادة أثمُها أكبر من نفعها .

********