المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفائدة 64 / من فوائد أبن القيم


adnan
04-05-2014, 10:58 PM
الأخت / الملكة نـــور


الـفـوائـد لإبـن الـقـيـم
الفائدة 64
https://mail.google.com/mail/u/0/?ui=2&ik=8c4e62fb9f&view=att&th=1452c6ff630e1521&attid=0.4&disp=emb&zw&atsh=1
[64] (قاعدة جليلة)

قال تعالى:

{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }
الأنعام 55

وقال:

{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ }
النساء115.

و الله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصّلة, وسبيل المجرمين
مفصّلة, وعاقبة هؤلاء مفصّلة, وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وأولياء
هؤلاء, وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء, والأسباب التي
وفق بها هؤلاء, والأسباب التي خذل بها هؤلاء, وجلا سبحانه الآمرين
في كتابه وكشفهما وأوضحهما, وبيّنهما غاية البيان, حتى شاهدتهما
البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام .

فالعالمون بالله وكتاب ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية,
وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية, فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين
للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده , والطريق الموصل إلى الهلكة ..
فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم , وهم الأدلاء الهداة,
وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة ..
فإنهم نشئوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى
الهلاك وعرفوها مفصّلة , ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات
إلى سبيل الهدى, وصراط الله المستقيم , فخرجوا من الظلمة الشديدة
إلى النور التام , ومن الشرك إلى التوحيد , ومن الجهل إلى العلم , ومن
الغي إلى الرشاد, ومن الظلم إلى العدل, ومن الحيرة و العمي إلى الهدى
والبصائر, فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به , ومقدار ما كانوا فيه. فان
الضد يظهر حسنة الضد , و إنما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة
ومحبة فيما انتقلوا إليه, ونفرا وبغضا لما انتقلوا عنه, وكانوا أحب الناس
للتوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس لضده , عالمين بالسبيل
على التفصيل ..

وأما من جاء من بعد الصحابة,
فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده, فالتبس عليه بعض
تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين, فان اللبس إنما يقع إذا ضعف
العلم بالسبيلين أو أحدهما

كما قال عمر بن الخطاب :
" إنما تنتقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"

وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه, فانه إذا لم يعرف الجاهلية
وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فانه
من الجاهلية, فإنها منسوبة إلى الجهل, وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل .
فمن لم يعرف سبيل المجرمين, ولم تستبن له, أوشك أن يظن في بعض
سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين, كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة
في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء
الرسل, أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين, ودعا
إليها , وكفّر من خالفها , واستحل منه ما حرمه الله ورسوله, كما وقع
لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية ولخوارج و الروافض وأشياعهم ,
ممن ابتدع بدعة, ودعا إليها , وكفّر من خالفها.

والناس في هذا الموقع أربع فرق :

الفرقة الأولى :
من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين
على التفصيل علما وعملا, وهؤلاء أعلم الخلق.

الفرقة الثانية :
من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام, وهؤلاء بسبيل
المجرمين أحضر, ولها أسلك.

الفرقة الثالثة :
من صرف عنايته الى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف
ضدها من حيث الجملة والمخالفة, وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو
باطل وان لم يتصوره على التفصيل, بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل
المؤمنين صرف عنه سمعه, ولم يشغل نفسه بفهمه, ومعرفة وجه
بطلانه, وهو بمنزلة من سلمت نفسه من أرادت الشهوات فلم تخطر
بقلبه ولم تدعه إليها نفسه, بخلاف الفرقة الأولى, فإنهم يعرفونها
وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله .

وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل:
رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله , أو رجل نازعته إليها نفسه
فتركها لله ؟

فكتب عمر :
إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من :

{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }

ذكره ابن كثير في التفسير 4\207 وعزّاه للإمام أحمد في كتاب الزهد
و إسناده منقطع لأن مجاهد بن جبر لم يسمعه عن عمر بن الخطاب ..
و هكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله , و حذرها
وحذّر منها, ودفعها عن نفسه , ولم يدعها تخدش وجه إيمانه , و لا
تورثه شبهة و لا شكا , بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له,
وكراهة لها و نفرة عنها , أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه . فانه
كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به
, فيقوى إيمانه بها. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما
مرت به فرغب عنها إلى ضدها وازداد محبة لضدها ورغبة فيه , وطلبا
له و حرصا عليه, فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات
والمعاصي و ميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها ,
وخير له وأنفع وأدوم , وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه , فتورثه
تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك
الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها: صرف ذلك الشوق والمحبة
والإرادة إلى النوع العالي الدائم, فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم,
بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك, فإنها وان كانت طالبة للأعلى لكن
بين الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر
والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب! فليس من آثر محبوبه
على منازعه مع نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره , فهو
سبحانه يبتلي عبده بالشهوات , إما حجابا له عنه, أو حاجبا له يوصله
إلى رضاه و قربه و كرامته .

الفرقة الرابعة:
فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة,
وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع, فعرفها ع
لى التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك, بل
عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له بعض الأشياء. ومن تأمل كتبهم رأى
ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطريق الشر والظلم والفساد على
التفصيل سالكا لها, إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه
بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره
في تصرفها وسلوكها .

والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتتجنب وتبغض,
كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من
الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه
وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها
وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه و ألهيته وحبه
وبغضه وثوابه وعقابه, والله أعلم .

أرباب الحوائج على باب الملك يسألون قضاء حوائجهم, وأولياؤه
المحبون له الذين هو همهم ومرادهم جلساؤه وخواصه, فإذا أراد قضاء
حاجة واحد من أولئك أذن لبعض جلسائه وخاصته أن يشفع فيه رحمة له
وكرامة للشافع, وسائر الناس مطرودون عن الباب مضروبون بسياط البعد ..