المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصَّة الفجاءة


adnan
08-21-2014, 10:19 PM
الأخ / مصطفى آل حمد



قصَّة الفجاءة‏
من كتاب البداية و النهاية لأبن كثير يرحمه الله

واسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف من بني سليم
قاله ابن إسحاق، وقد كان الصِّديق حرَّق الفجاءة بالبقيع في المدينة،
وكان سببه أنَّه قدم عليه فزعم أنَّه أسلم وسأل منه أن يجهِّز معه جيشاً
يقاتل به أهل الرِّدَّة، فجهَّز معه جيشاً فلمَّا سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد
إلا قتله وأخذ ماله، فلمَّا سمع الصِّديق بعث وراءه جيشاً فردَّه، فلمَّا أمكنه
بعث به إلى البقيع فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النَّار فحرقه
وهو مقموط‏.‏

قصَّة سجاح وبني تميم‏:‏
كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيَّام الرِّدَّة فمنهم من ارتدَّ ومنع الزَّكاة،
ومنهم من بعث بأموال الصَّدقات إلى الصِّديق، ومنهم من توقَّف لينظر
في أمره، فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن
عقفان التَّغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب وقد ادَّعت النُّبُّوة
ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر
الصِّديق، فلمَّا مرَّت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها
عامَّتهم، وكان ممَّن استجاب لها‏:‏ مالك بن نويرة التَّميميّ، وعطارد
بن حاجب، وجماعة من سادات أمراء بني تميم، وتخلَّف آخرون منهم
عنها، ثمَّ اصطلحوا على أن لا حرب بينهم إلا أنَّ مالك بن نويرة لمَّا
وادعها ثناها عن عودها وحرضها على بني يربوع، ثمَّ اتَّفق الجميع
على قتال النَّاس وقالوا‏:‏ بمن نبدأ ‏؟‏فقالت لهم فيما تسجعه‏:‏ أعدُّوا
الرِّكاب، واستعدُّوا للنِّهاب، ثمَّ أغيروا على الرَّباب فليس دونهم حجاب،
ثمَّ إنَّهم تعاهدوا على نصرها‏.‏

فقال قائل منهم‏:‏
أَتَتْنَا أُختُ تَغلبٍ في رجالٍ * جَلائبَ من سُراةِ بني أَبينَا
وأَرسَتْ دعوةً فينَا سَفاهاً * وَكانتْ مِنْ عَمَائرَ آخَرينَا
فَمَا كنَّا لِنَرزِيهمْ زبالاً * وَمَا كانتْ لتسلمَ إذْ أَتينَا
أَلا سَفَهَتْ حُلومُكمْ وضلَّتْ * عشيَّةَ تحشدُونَ لها ثُبينَا

وقال عطارد بن حاجب في ذلك‏:‏
أَمسَتْ نبيَّتُنا أُنثى نطيفُ بهَا * وأَصبحَتْ أنْبياءُ النَّاسِ ذُكرانَا

ثمَّ إنَّ سجاح قصدت بجنودها اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب
الكذَّاب فهابه قومها وقالوا‏:‏ إنَّه قد استفحل أمره وعظم‏.‏فقالت لهم فيما
تقوله‏:‏ عليكم باليمامة، دفُّوا دفيف الحمامة، فإنَّها غزوة صرامة،
لا تلحقكم بعدها ملامة‏.‏

قال‏:‏ فعمدوا لحرب مسيلمة، فلمَّا سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده،
وذلك أنَّه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة ابن أبي جهل
بجنود المسلمين، وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد
كما سيأتي‏.‏ ‏

فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان
لقريش لو عدلت، فقد ردَّه الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في
طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه، وجاء إليها فاجتمعا في
خيمة فلمَّا خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك‏.‏
قال مسيلمة‏:‏ سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا يزال أمره
في كل ما يسَّر مجتمع، رآكم ربُّكم فحيَّاكم، ومن وحشته أخلاكم، ويوم
دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار لا أشقياء ولا فجَّار،
يقومون اللَّيل ويصومون النَّهار، لربِّكم الكبَّار، ربِّ الغيوم والأمطار‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ لمَّا رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت‏.‏
قلت لهم‏:‏ لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنَّكم معشر أبرار
تصومون، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السَّماء
كيف ترقون، فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور،
ولأكثر الناس فيها الثبور‏.‏وقد كان مسيلمة - لعنه الله - شرع لمن اتَّبعه أن
الأعزب يتزوج فإذا ولد له ذكر فيحرم عليه النِّساء حينئذ إلا أن يموت ذلك
الولد الذَّكر فتحلُّ له النِّساء حتى يولد له ذكر، هذا مما اقترحه - لعنه الله -
من تلقاء نفسه‏.‏ويقال‏:‏ إنَّه لمَّا خلا بسجاح سألها ماذا يوحى إليها ‏؟‏فقالت‏:‏
وهل يكون النِّساء يبتدئن بل أنت ماذا أوحي إليك ‏؟‏فقال‏:‏ ألم تر إلى ربِّك
كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا‏.‏
فقالت‏:‏ أشهد أنَّك نبيّ‏.‏فقال لها‏:‏ هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك
العرب‏.‏قالت‏:‏ نعم‏.‏وأقامت عنده ثلاثة أيَّام، ثمَّ رجعت إلى قومها‏.‏فقالوا‏:‏
ما أصدقك ‏؟‏فقالت‏:‏ لم يصدقني شيئاً‏.‏فقالوا‏:‏ إنَّه قبيح على مثلك أن تتزوج
بغير صداق‏.‏فبعثت إليه تسأله صداقاً‏.‏فقال‏:‏ أرسلي إليَّ مؤذنك، فبعثته إليه
وهو شبت بن ربعي‏.‏قال‏:‏ ناد في قومك إنَّ مسيلمة بن حبيب رسول الله
قد وضع عنكم صلاتين ممَّا أتاكم به محمَّد - يعني‏:‏ صلاة الفجر، وصلاة
العشاء الآخرة - فكان هذا صداقها عليه - لعنهما الله -‏.‏ثمَّ انثنت سجاح
راجعة إلى بلادها وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض اليمامة، فكرَّت
راجعة إلى الجزيرة بعد ما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت
في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية، فأجلاهم منها عام الجماعة
كما سيأتي بيانه في موضعه

فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التَّميمي‏:‏
كان قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة فلمَّا اتَّصلت بمسيلمة -
لعنهما الله - ثمَّ ترحَّلت إلى بلادها، فلمَّا كان ذلك ندم مالك بن نويرة على
ما كان من أمره، وتلوَّم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له‏:‏ البطاح،
فقصدها خالد بجنوده وتأخَّرت عنه الأنصار وقالوا‏:‏ إنَّا قد قضينا
ما أمرنا به الصِّديق‏.‏فقال لهم خالد‏:‏ إنَّ هذا أمر لابدَّ من فعله وفرصة
لا بدَّ من انتهازها وإنَّه لم يأتني فيها كتاب وأنا الأمير، وإليَّ تردُّ الأخبار،
ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البطاح فسار يومين، ثمَّ
لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار فلحقوا به، فلمَّا وصل البطاح
وعليها مالك بن نويرة فبث خالد السَّرايا في البطاح يدعون النَّاس
فاستقبله أمراء بني تميم بالسَّمع والطَّاعة وبذلوا الزَّكوات إلا ما كان
من مالك بن نويرة فإنَّه متحير في أمره، متنح عن النَّاس فجاءته السَّرايا
فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السَّرية فيهم فشهد أبو قتادة
الحرث بن ربعي الأنصاري أنَّهم أقاموا الصَّلاة، وقال آخرون‏:
‏ إنَّهم لم يؤذِّنوا ولا صلُّوا‏.‏

فيقال‏:‏ إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي
خالد‏:‏ أن أدفئوا أسراكم، فظنَّ القوم أنَّه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار
بن الأزور مالك بن نويرة، فلمَّا سمع الدَّاعية خرج وقد فرغوا منهم،
فقال‏:‏ إذا أراد الله أمراً أصابه واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة وهي
أم تميم ابنة المنهال وكانت جملية، فلمَّا حلت بني بها، ويقال‏:‏ بل استدعى
خالد مالك بن نويرة فأنَّبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى
منعه الزَّكاة وقال‏:‏ ألم تعلم أنها قرينة الصَّلاة ‏؟‏فقال مالك‏:‏ إنَّ صاحبكم
كان يزعم ذلك‏.‏فقال‏:‏ أهو صاحبنا وليس بصاحبك يا ضرار إضرب عنقه،
فضربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثَّلاثة قدرا
فأكل منها خالد تلك اللَّيلة ليرهب بذلك الأعراب من المرتدَّة وغيرهم‏.‏
ويقال‏:‏ إنَّ شعر مالك جعلت النَّار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر، ولم
تفرغ الشَّعر لكثرته‏.‏وقد تكلَّم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك
حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصِّديق، وتكلَّم عمر مع أبي قتادة في
خالد وقال للصِّديق‏:‏ إعزله فإنَّ في سيفه رهقاً‏.‏فقال أبو بكر‏:‏ لا أشيم سيفاً
سلَّه الله على الكفَّار‏.‏

وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلى الصِّديق خالداً وعمر يساعده،
وينشد الصِّديق ما قال في أخيه من المراثي، فوداه الصِّديق من عنده‏.‏

ومن قول متمم في ذلك‏:‏
وكنَّا كَنَدْمَانى جُذيمَةَ بُرهةً * مِنَ الدَّهر حتى قيلَ لنْ يَتَصَدَّعا
فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي وَمالكاً * لطولِ اجْتِمَاع لم نبتْ ليلةٍ معاً

وقال أيضا‏:‏
لقَد لامَني عِنْدَ العُبورِ عَلى البُكَى * رَفْيقِي لتذرَافِ الدُّموعِ السَّوافِكِ
وقال أتَبْكِي كلَّ قبرٍ رأيتَهُ * لقَبرٌ ثَوى بين اللِّوى فَالدكَادِكِ
فقلتُ لهُ إنَّ الأسَى يبعثُ الأسَى * فدَعْني فهذا كلَّه قبرُ مَالِكِ

والمقصود أنَّه لم يزل عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يحرِّض الصِّديق
ويذمِّره على عزل خالد عن الإمرة ويقول‏:‏ إنَّ في سيفه لرهقاً، حتَّى بعث
الصِّديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة وقد لبس درعه التي من
حديد وقد صدئ من كثرة الدِّماء، وغرز في عمامته الَّنشاب المضمَّخ
بالدِّماءفلمَّا دخل المسجد قام إليه عمر بن الخطَّاب فانتزع الأسهم من
عمامة خالد فحطَّمها وقال‏:‏ أرياء قتلت امرأً مسلماً، ثمَّ نزوت على امرأته،
والله لارجمنَّك بالجنادل وخالد لا يكلِّمه ولا يظنَّ إلا أنَّ رأي الصِّديق فيه
كرأي عمر، حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما
كان منه في ذلك، وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس
في المسجد فقال خالد‏:‏ هلمَّ إليَّ يا ابن أم شملة، فلم يردَّ عليه وعرف أنَّ
الصِّديق قد رضي عنه‏.‏واستمرَّ أبو بكر بخالد على الإمرة وإن كان قد
اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله كما أنَّ رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا بعثه إلى أبي جذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين
قالوا‏:‏ صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا‏:‏ أسلمنا، فوداهم رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم حتى ردَّ إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه وقال‏:‏

‏(‏‏ ‏اللَّهم إنِّي أبرأ إليك مما صنع خالد‏ )‏

ومع هذا لم يعزل خالدا عن الإمرة‏.‏