المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ذكر ردَّة أهل عمان و مهرة اليمن‏


adnan
08-23-2014, 08:36 PM
الأخ / مصطفى آل حمد

ذكر ردَّة أهل عمان و مهرة اليمن‏
من كتاب البداية و النهاية لأبن كثير يرحمه الله

أمَّا أهل عمان فنبغ فيهم رجل يقال له‏:‏ ذو التَّاج لقيط بن مالك الأزديّ،
وكان يسمَّى في الجاهلية الجلنديّ، فادَّعى النُّبُّوة أيضاً، وتابعه الجهلة
من أهل عمان، فتغلَّب عليها وقهر جيفراً وعبَّاداً وألجأهما إلى أطرافها من
نواحي الجبال والبحر، فبعث جيفر إلى الصِّديق فأخبره الخبر واستجاشه،
فبعث إليه الصِّديق بأميرين وهما حذيفة بن محصن الحميريّ، وعرفجة
البارقي من الأزد، حذيفة إلى عمان، وعرفجة إلى مهرة، وأمرهما أن
يجتمعا ويتَّفقا ويبتدئا بعمان وحذيفة هو الأمير، فإذا ساروا إلى بلاد
مهرة فعرفجة الأمير‏.‏

وقد قدَّمنا أنَّ عكرمة ابن أبي جهل لمَّا بعثه الصِّديق إلى مسيلمة وأتبعه
بشرحبيل بن حسنة عجَّل عكرمة وناهض مسيلمة قبل مجيء شرحبيل
ليفوز بالظفر وحده، فناله من مسيلمة قرح والذين معه فتقهقر حتى جاء
خالد بن الوليد فقهر مسيلمة كما تقدَّم، وكتب إليه الصِّديق يلومه على
تسرِّعه، قال‏:‏ لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، وأمره أن يلحق بحذيفة
وعرفجة إلى عمان، وكلٍّ منكم أمير على جيشه وحذيفة ما دمتم بعمان
فهو أمير النَّاس، فإذا فرغتم فاذهبوا إلى مهرة، فإذا فرغتم منها فاذهب
إلى اليمن وحضرموت فكن مع المهاجر ابن أبي أمية، ومن لقيته من
المرتدَّة بين عمان إلى حضرموت واليمن فنكِّل به، فسار عكرمة لما أمره
به الصِّديق، فلحق حذيفة وعرفجة قبل أن يصلا إلى عمان، وقد كتب
إليهما الصِّديق أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ من السَّير من عمان
أو المقام بها، فساروا فلمَّا اقتربوا من عمان راسلوا جيفراً، وبلغ لقيط
بن مالك مجيء الجيش فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له‏:‏ دبا،
وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى، وجعل الذَّراري والأموال وراء
ظهورهم ليكون أقوى لحربهم، واجتمع جيفر وعبَّاد بمكان يقال له‏:‏ صحار
فعسكرا به، وبعثا إلى أمراء الصِّديق فقدموا على المسلمين فتقابل
الجيشان هنالك، وتقاتلوا قتالاً شديداً، وابتلى المسلمون وكادوا أن يولُّوا،
فمنَّ الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مدداً في السَّاعة الرَّاهنة من بني
ناجية وعبد القيس في جماعة من الأمراء، فلمَّا وصلوا إليهم كان الفتح
والنَّصر فولَّى المشركون مدبرين، وركب المسلمون ظهورهم فقتلوا من
عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذَّراري، وأخذوا الأموال والسُّوق بحذافيرها،
وبعثوا بالخمس إلى الصِّديق رضي الله عنه مع أحد الأمراء وهو عرفجة،
ثمَّ رجع إلى أصحابه‏.

وأمَّا مهرة فأنَّهم لمَّا فرغوا من عمان كما ذكرنا سار عكرمة بالنَّاس إلى
بلاد مهرة بمن معه من الجيوش ومن أضيف إليها، حتى اقتحم على مهرة
بلادها فوجدهم جندين على أحدهما وهم الأكثر أمير يقال له‏:‏ المصبح أحد
بني محارب، وعلى الجند الآخر أمير يقال له‏:‏ شخريت، وهما مختلفان،
وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين فراسل عكرمة شخريت فأجابه
وانضاف إلى عكرمة فقوي بذلك المسلمون وضعف جأش المصبح، فبعث
إليه عكرمة يدعوه إلى الله وإلى السَّمع والطَّاعة فاغترَّ بكثرة من معه
ومخالفةً لشخريت فتمادى على طغيانه، فسار إليه عكرمة بمن معه من
الجنود فاقتتلوا مع المصبح أشدَّ من قتال دبا المتقدِّم، ثمَّ فتح الله بالظَّفر
والنَّصر ففرَّ المشركون، وقتل المصبح وقتل خلق كثير من قومه، وغنم
المسلمون أموالهم، فكان في جملة ما غنموا ألفا نجيبة، فخمَّس عكرمة
ذلك كله، وبعث بخمسه إلى الصِّديق مع شخريت وأخبره بما فتح الله
عليه، والبشارة مع رجل يقال له‏:‏ السَّائب من بني عابد من مخزوم،
وقد قال في ذلك رجل يقال له علجوم‏:‏

جزى اللهُ شَخْريتاً وأَفْناءَ هاشمَاً * وَفرضِم إذْ سارَتْ إلينَا الحَلائِبُ
جزاءَ مسيءٍ لمْ يُراقَبْ لذِمَّةٍ * ولمْ يُرجِهَا فيما يُرجَّى الأقَاربُ
أعِكرمُ لَولا جمْعُ قَومِي وَفعلهُمْ * لَضَاقَتْ عليكُمْ بالفضاءِ المذَاهبُ
وكنَّا كمن اقتادَ كفَّاً بأختهَا * وحلَّتْ عَلينا في الدُّهورِ النَّوائِبُ

وأمَّا أهل اليمن فقد قدَّمنا أنَّ الأسود العنسيّ - لعنه الله - لمَّا نبغ باليمن
أضلَّ خلقاً كثيراً من ضعفاء العقول والأديان حتى ارتدَّ كثير منهم أو
أكثرهم عن الإسلام، وأنَّه لمَّا قتله الأمراء الثَّلاثة‏:‏ قيس بن مكشوح،
وفيروز الدَّيلميّ، وداذويه، وكان ما قدَّمنا ذكره، ولمَّا بلغهم موت
رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ازداد بعض أهل اليمن فيما كانوا فيه من
الحيرة والشَّكِّ - أجارنا الله من ذلك - وطمع قيس بن مكشوح في الإمرة
باليمن فعمل لذلك وارتدَّ عن الإسلام، وتابعه عوام أهل اليمن‏.‏وكتب
الصِّديق إلى الأمراء والرُّؤساء من أهل اليمن أن يكونوا عوناً إلى فيروز
والأبناء على قيس بن مكشوح حتى تأتيهم جنوده سريعاً، وحرص قيس
على قتل الأميرين الأخيرين فلم يقدر إلا على داذويه، واحترز منه فيروز
الدَّيلميّ وذلك أنَّه عمل طعاماً وأرسل إلى داذويه أولاً فلمَّا جاءه عجَّل عليه
فقتله، ثمَّ أرسل إلى فيروز ليحضر عنده فلمَّا كان ببعض الطَّريق سمع
امرأة تقول لأخرى‏:‏ وهذا أيضاً والله مقتول كما قتل صاحبه، فرجع من
الطَّريق وأخبر أصحابه بقتل داذويه، وخرج إلى أخواله خولان فتحصَّن
عندهم، وساعدته عقيل، وعك وخلق‏.‏

وعمد قيس إلى ذراري فيروز وداذويه والأبناء فأجلاهم عن اليمن،
وأرسل طائفة في البرِّ وطائفة في البحر، فاحتدَّ فيروز فخرج في خلق كثير
فتصادف هو وقيس فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزم قيساً وجنده من العوام
وبقية جند الأسود العنسيّ فهزموا في كل وجه، وأسر قيس وعمرو
بن معدي كرب - وكان عمرو قد ارتدَّ أيضاً وبايع الأسود العنسي - وبعث
بهما المهاجر ابن أبي أمية إلى أبي بكر أسيرين فعنَّفهما وأنَّبهما، فاعتذرا
إليه، فقبل منهما علانيَّتهما، ووكل سرائرهما إلى الله عزَّ وجلَّ وأطلق
سراحهما، وردَّهما إلى قومهما، ورجعت عمَّال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
الذين كانوا باليمن إلى أماكنهم التي كانوا عليها في حياته عليه السلام بعد
حروب طويلة لو استقصينا إيرادها لطال ذكرها‏.‏

وملخَّصها أنَّه ما من ناحية من جزيرة العرب إلا وحصل في أهلها ردَّة
لبعض النَّاس فبعث الصِّديق إليهم جيوشاً وأمراء يكونون عوناً لمن في
تلك النَّاحية من المؤمنين، فلا يتواجه المشركون والمؤمنون في موطن
من تلك المواطن إلا غلب جيش الصِّديق لمن هناك من المرتدِّين،
ولله الحمد والمنَّة‏.‏

وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فيتقوُّون بذلك على
من هنالك، ويبعثون بأخماس ما يغنمون إلى الصِّديق فينفقه في النَّاس
فيحصل لهم قوَّة أيضاً ويستعدُّون به على قتال من يريدون قتالهم من
الأعاجم والرُّوم على ما سيأتي تفصيله‏.‏

ولم يزل الأمر كذلك حتى لم يبق بجزيرة العرب إلا أهل طاعة لله ولرسوله
وأهل ذمَّة من الصِّديق كأهل نجران وما جرى مجراهم، ولله الحمد‏.‏

وعامَّة ما وقع من هذه الحروب كان في أواخر سنة إحدى عشرة وأوائل
سنة اثنتي عشرة، ولنذكر بعد إيراد هذه الحوادث من توفِّي في هذه السَّنة
من الأعيان والمشاهير وبالله المستعان، وفيها رجع معاذ بن جبل من
اليمن، وفيها استبقى أبو بكر الصِّديق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما