المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سنة اثنتي عشرة من الهجرة النَّبوِّية‏


adnan
08-26-2014, 09:43 PM
الأخ / مصطفى آل حمد



سنة اثنتي عشرة من الهجرة النَّبوِّية‏
من كتاب البداية و النهاية لأبن كثير يرحمه الله

استهلت هذه السَّنة وجيوش الصِّديق وأمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الردَّة
جوَّالون في البلاد يميناً وشمالاً لتمهيد قواعد الإسلام، وقتال الطُّغاة من
الأنام حتى رُدَّ شارد الدِّين بعد ذهابه، ورجع الحقُّ إلى نصابه، وتمهَّدت
جزيرة العرب، وصار البعيد الأقصى كالقريب الأدنى‏.‏

وقد قال جماعة من علماء السِّير والتَّواريخ‏:‏
إنَّ وقعة اليمامة كانت في ربيع الأوَّل من هذه السَّنة، وقيل‏:‏ إنَّها كانت في
أواخر التي قبلها، والجمع بين القولين أن ابتداءها كان في السَّنة الماضية
وانتهاءها وقع في هذه السَّنة الآتية، وعلى هذا القول ينبغي أن يذكروا
في السَّنة الماضية كما ذكرناه، لاحتمال أنَّهم قتلوا في الماضية، ومبادرة
إلى استيفاء تراجمهم قبل أن يذكروا مع من قتل بالشَّام والعراق في هذه
السنة على ما سنذكر إن شاء الله، وبه الثِّقة وعليه التُّكلان‏.‏

وقد قيل‏:
‏ إن وقعة جواثا وعمان ومهرة وما كان من الوقائع التي أشرنا إليها إنَّما
كانت في سنة اثنتي عشرة، وفيها كان قتل الملوك الأربعة‏:‏ حمد،
ومحرس، وأبضعة، ومشرحاً، وأختهم العمرَّدة الذين ورد الحديث
في مسند أحمد بلعنهم، وكان الذي قتلهم زياد بن الأنصاريّ‏.‏

بعث خالد بن الوليد إلى العراق‏:‏
لمَّا فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث إليه الصِّديق أن يسير إلى العراق
وأن يبدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، ويأتي العراق من أعاليها وأن يتألَّف
النَّاس ويدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإن
امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره أن لا يكره أحداً على المسير معه، ولا
يستعين بمن ارتدَّ عن الإسلام وإن كان عاد إليه، وأمره أن يستصحب
كل امرئ مرَّ به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السَّرايا
والبعوث، والجيوش، إمداداً لخالد رضي الله عنه‏.‏

قال الواقديّ‏:‏
اختلف في خالد فقائل يقول‏:‏ مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق،
وقائل يقول‏:‏ رجع من اليمامة إلى المدينة، ثمَّ سار إلى العراق من المدينة
فمرَّ على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة‏.‏

قلت‏:‏ والمشهور الأوَّل، وقد ذكر المدائني بإسناده أنَّ خالداً توجَّه إلى
العراق في المحرَّم سنة اثنتي عشرة فجعل طريقه البصرة وفيها
قطبة بن قتادة، وعلى الكوفة المثنى بن حارثة الشَّيبانيّ‏.‏

وقال محمَّد بن إسحاق‏:‏
عن صالح بن كيسان إنَّ أبا بكر كتب إلى خالد أن يسير إلى العراق فمضى
خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السَّواد يقال لها‏:‏ بانقيا،
وباروسما، وصاحبها حابان فصالحه أهلها‏.‏

قلت‏:‏ وقد قتل منهم المسلمون قبل الصُّلح خلقاً كثيراً، وكان الصُّلح
على ألف درهم، وقيل‏:‏ دينار في رجب، وكان الذي صالحه بصبهري بن
صلوبا، ويقال‏:‏ صلوبا بن بصبهري، فقبل منهم خالد وكتب لهم كتاباً، ثمَّ
أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع بيصة بن إياس بن حيَّة
الطَّائيّ وكان أمَّره عليها كسرى بعد النُّعمان بن المنذر، فقال لهم خالد‏:‏
أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم
وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم
أحرص على الموت منكم على الحياة جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم‏.‏

فقال له قبيصة‏:‏ مالنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية‏.‏
فقال لهم خالد‏:‏ تباً لكم إنَّ الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها،
فلقيه رجلان أحدهما عربي والآخر أعجمي فتركه واستدلَّ بالعجمي، ثمَّ
صالحهم على تسعين ألفاً، وفي رواية مائتي ألف درهم، فكانت أوَّل جزية
أخذت من العراق وحملت إلى المدينة هي والقريات قبلها التي صالح
عليها ابن صلوبا‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان مع نائب كسرى على الحيرة ممَّن وفد إلى خالد
عمرو بن عبد المسيح بن حيان بن بقيلة وكان من نصارى العرب
فقال له خالد‏:‏ من أين أثرك ‏؟‏قال‏:‏ من ظهر أبي‏.‏قال‏:‏ ومن أين خرجت ‏؟‏
قال‏:‏ من بطن أمي‏.‏قال‏:‏ ويحك على أي شيء أنت ‏؟‏قال‏:‏ على الأرض‏.‏
قال‏:‏ ويحك وفي أي شيء أنت ‏؟‏قال‏:‏ في ثيابي‏.‏قال‏:‏ ويحك تعقل‏؟‏
قال‏:‏ نعم، وأقيد‏.‏قال‏:‏ إنَّما أسألك ‏؟‏قال‏:‏ وأنا أجيبك‏.‏قال‏:‏ أسلم أنت
أم حرب ‏؟‏قال‏:‏ بل سلم‏.‏قال‏:‏ فما هذه الحصون التي أرى ‏؟‏قال‏:‏ بنيناها
للسَّفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه، ثمَّ دعاهم إلى الإسلام أو الجزية
أو القتال فأجابوا إلى الجزية بتسعين، أو مائتي ألف كما تقدَّم‏.‏

ثمَّ بعث خالد ابن الوليد كتاباً إلى أمراء كسرى بالمدائن، ومرازبته،
ووزرائه كما قال هشام بن الكلبي‏:‏ عن أبي مخنف، عن مجالد، عن
الشعبي قال‏:‏ أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن‏:‏
من خالد ابن الوليد إلى مرازبة أهل فارس، سلام على من اتَّبع الهدى،
أمَّا بعد فالحمد لله الذي فضَّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم، وإنَّ من
صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم الذي له مالنا
وعليه ما علينا، أمَّا بعد فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إليَّ بالرَّهن واعتقدوا
منِّي الذِّمة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبُّون الموت
كما تحبُّون أنتم الحياة، فلمَّا قرؤوا الكتاب أخذوا يتعجَّبون‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏
عن طليحة الأعلم، عن المغيرة بن عيينة - وكان قاضي أهل الكوفة - قال‏:‏
فرَّق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق ولم يحملهم
على طريق واحدة‏:‏ فسرَّح المثنى قبله بيومين، ودليلة ظفر، وسرَّح عديّ
بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عبَّاد وسالم بن نصر،
أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد - يعني‏:‏ في آخرهم - ودليله رافع،
فواعدهم جميعاً الحفير ليجتمعوا به، ويصادموا عدوَّهم، وكان فرج الهند
أعظم فروج فارس بأساً، وأشدَّها شوكة، وكان صاحبه يحارب في البرِّ
والهند في البحر وهو هرمز، فكتب إليه خالد فبعث هرمز بكتاب خالد إلى
شيرى بن كسرى، وأردشير بن شيرى، وجمع هرمز، وهو نائب كسرى
جموعاً كثيرة وسار بهم إلى كاظمة، وعلى مجنبتيه قباذ وأنوشجان –
وهما من بيت الملك - وقد تفرَّق الجيش في السَّلاسل لئلا يفرُّوا، وكان
هرمز هذا من أخبث النَّاس طويَّة، وأشدَّهم كفراً، وكان شريفاً في الفرس،
وكان الرَّجل كلَّما ازداد شرفاً زاد في حليته، فكانت قلنسوة هرمز بمائة
ألف، وقدم خالد ومن معه من الجيش وهم ثمانية عشر ألفاً فنزل تجاههم
على غير ماء فشكى أصحابه ذلك، فقال‏:‏ جالدوهم حتى تجلوهم عن الماء،
فإنَّ الله جاعل الماء لأصبر الطَّائفتين، فلمَّا استقرَّ بالمسلمين المنزل وهم
ركبان على خيولهم بعث الله سحابة فأمطرتهم حتى صار لهم غدران من
ماء، فقوي المسلمون بذلك وفرحوا فرحاً شديداً، فلمَّا تواجه الصفَّان،
وتقاتل الفريقان، ترجَّل هرمز ودعا إلى النزال، فترجل خالد وتقدَّم إلى
هرمز فاختلفا ضربتين، واحتضنه خالد، وجاءت حامية هرمز فما شغله
عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو على حامية هرمز فأناموهم، وانهزم
أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى اللَّيل، واستحوذ المسلمون
وخالد على أمتعتهم وسلاحهم فبلغ وقر ألف بعير، وسميت هذه الغزوة
ذات السَّلاسل لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس، وأفلت قباذ
وأنوشجان‏.‏

ولمَّا رجع الطَّلب نادى منادي خالد بالرَّحيل فسار بالنَّاس وتبعته الأثقال
حتى نزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وبعث بالفتح والبشارة
والخمس مع زرّ ابن كليب إلى الصِّديق، وبعث معه بفيل فلمَّا رآه نسوة
أهل المدينة جعلن يقلن‏:‏ أمن خلق الله هذا أم شيء مصنوع ‏؟‏

فردَّه الصِّديق مع زر، وبعث أبو بكر لمَّا بلغه الخبر إلى خالد فنفله سلب
هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف، وكانت مرصعة بالجوهر، وبعث خالد
الأمراء يميناً وشمالاً يحاصرون حصوناً هنالك ففتحوها عنوة وصلحاً،
وأخذوا منها أموالاً جمَّة، ولم يكن خالد يتعرَّض للفلاحين - من لم يقاتل
منهم - ولا أولادهم، بل للمقاتلة من أهل فارس‏.‏