المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثم دخلت سنة أربع و ستين


adnan
12-15-2014, 10:25 PM
الأخ / مصطفى آل حمد



ثم دخلت سنة أربع و ستين للهجرة النبوية الشريفة
من كتاب البداية والنهاية لابن كثير يرحمه الله

ففيها‏:‏
في أول المحرم منها سار مسلم بن عقبة إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير
ومن التفَّ عليه من الأعراب، على مخالفة يزيد بن معاوية، واستخلف
على المدينة روح بن زنباع‏.‏فلما بلغ ثنية هرشا بعث إلى رؤوس الأجناد
فجمعهم، فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين عهد إليّ إن حدث بي حدث الموت أن
أستخلف عليكم حُصين بن نمير السكوني، ووالله لو كان الأمر لي ما
فعلت‏.‏ثم دعا به فقال‏:‏ انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به،
ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث‏.‏ثم قال‏:‏ اللهم إني
لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أحب
إليّ من قتل أهل المدينة، وأجزى عندي في الآخرة‏.‏وإن دخلت النار بعد
ذلك إني لشقي، ثم مات قبحه الله ودفن بالمسلك فيما قاله الواقدي‏.‏

ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الأول لأربع عشرة ليلة
خلت منه، فما متعهما الله بشيء مما رجوه وأملوه، بل قهرهم القاهر فوق
عباده، وسلبهم الملك، ونزعه منهم من ينزع الملك ممّن يشاء‏.‏وسار
حصين بن نمير بالجيش نحو مكة فانتهى إليها لأربع بقين من المحرم
فيما قاله الواقدي‏.‏

وقيل‏:‏ لسبع مضين منه‏.‏

وقد تلاحق بابن الزبير جماعات ممن بقي من أشراف أهل المدينة،
وانضاف إليه نجدة بن عامر الحنفي - من أهل اليمانة - في طائفة من
أهلها ليمنعوا البيت من أهل الشام، فنزل حصين بن نمير ظاهر مكة،
وخرج إليه ابن الزبير في أهل مكة ومن التفّ معه فاقتتلوا عند ذلك
قتالاً شديداً‏.‏وتبارز المنذر بن الزبير ورجل من أهل الشام فقتل كل واحد
منهما صاحبه، وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة‏.‏فانكشف أهل
مكة، وعثرت بغلة عبد الله بن الزبير به، فكرّ عليه المسور بن مخرمة
ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف وطائفة فقاتلوا دونه حتى قتلوا جميعاً،
وصابرهم ابن الزبير حتى الليل فانصرفوا عنه ثم اقتتلوا في بقية شهر
المحرم وصفراً بكماله‏.‏

فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق
على الكعبة ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت في يوم السبت،
وهذا قول الواقدي، وهم يقولون‏:‏

خطَّاره مثل الفتيق المزبد * ترمى بها جدران هذا المسجد

وجعل عمر بن حوطة السدوسي يقول‏:‏
كيف ترى صنيع أم فروة * تأخذهم بين الصفا والمروة
وأم فروة اسم المنجنيق‏.‏

وقيل‏:‏ إنما احترقت لأن أهل المسجد جعلوا يوقدون النار وهم حول الكعبة،
فعلقت النار في بعض أستار الكعبة فسرت إلى أخشابها
وسقوفها فاحترقت‏.‏

وقيل‏:‏ إنما احترقت لأن ابن الزبير سمع التكبير على بعض جبال مكة
قي ليلة ظلماء، فظن أنهم أهل الشام، فرفعت نار على رمح لينظروا من
هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت الريح شررة من رأس الرمح إلى ما
بين الركن اليماني والأسود من الكعبة، فعلقت في أستارها وأخشابها
فاحترقت، وأسود الركن وانصدع في ثلاثة أمكنة منه‏.‏

واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء الناس نعُي يزيد بن معاوية
وأنه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين،
وهو ابن خمس أو ثمان، أو تسع وثلاثين سنة‏.‏فكانت ولايته ثلاث سنين
وستة أو ثمانية أشهر، فغُلب أهل الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ
خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة،
ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام، فنادى فيهم‏:‏ يا أهل
الشام قد أهلك الله طاغيتكم، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس
فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع، فلم يصدق الشاميون أهل
مكة فيما أخبروهم به‏.‏ حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع بالخبر اليقين‏.‏
ويذكر أن حصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدثه بين الصفين فاجتمعا
حتى اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفها‏.‏
فقال له ابن الزبير‏:‏ مالك‏؟‏فقال‏:‏ أن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل من
الروث فأكره أن أطأ حمام الحرم‏.‏ فقال له‏:‏ تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين‏؟‏
فقال له حصين‏:‏ فأذن لنا فلنطف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم
فطافوا‏.‏وذكر ابن جرير أن حصيناً وابن الزبير اتعدا ليلة أن يجتمعا
فاجتمعا بظاهر مكة، فقال له حصين‏:‏ إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق
الناس بهذا الأمر بعده، فهلم فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف
عليك اثنان‏.‏

فيقال‏:‏ إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك، وأغلظ له في المقال فنفر منه
ابن نمير وقال‏:‏ أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال‏؟‏ثم كر
بالجيش راجعاً إلى الشام‏.‏وقال‏:‏ أعده بالملك، ويتواعد بالقتل‏؟‏ثم ندم
ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له‏:‏ أما الشام
فلست آتية، ولكن خذ لي البيعة على من هناك، فإني أؤمنكم وأعدل فيكم‏.‏
فبعث إليه يقول له‏:‏ إن من يبتغيها من أهل البيت بالشام لكثير‏.‏ فرجع
فاجتاز بالمدينة فطمع فيه أهلها وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم علي
بن الحسين زين العابدين، وأهدى لحصين ابن نمير قتاً وعلفاً وارتحلت،
بنو أمية مع الجيش إلى الشام فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد
استخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك،
والله سبحانه أعلم بالصواب‏.‏

وهذه ترجمة يزيد بن معاوية
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية
بن عبد شمس، أمير المؤمنين أبو خالد الأموي‏.‏ولد سنة خمس أو ست
أو سبع وعشرين، وبويع له بالخلافة في حياة أبيه أن يكون ولي العهد
من بعده، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين،
فاستمر متولياً إلى أن توفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة
أربع وستين‏.‏وأمه ميسون بنت مخول بن أنيف بن دلجة بن نفاثة بن عدي
بن زهير بن حارثة الكلبي‏.‏
روى عن أبيه معاوية
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏ من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ‏‏)‏‏

وحديثاً آخر في الوضوء‏.‏

وعنه ابنه خالد، وعبد الملك بن مروان، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي
في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي العليا، وقال‏:‏ له أحاديث، وكان كثير
اللحم، عظيم الجسم، كثير الشعر، جميلاً طويلاً، ضخم الهامة، محدد
الأصابع غليظها مجدراً‏.‏وكان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به، فرأت أمه
في المنام أنه خرج منها قمر من قُبلها، فقصّت رؤياها على أمها فقالت‏:‏
إن صدقت رؤياك لتلدن من يبايع له بالخلافة‏.‏

وجلست أمه ميسون يوماً تمشطه وهو صبي صغير، وأبوه معاوية
مع زوجته الحظية عنده في المنظرة، وهي فاختة بنت قرظة، فلما فرغت
من مشطه نظرت أمه إليه فأعجبها فقبلته بين عينيه، فقال معاوية
عند ذلك‏:‏

إذا مات لم تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما

وانطلق يزيد يمشي وفاختة تتبعه بصرها ثم قالت‏:‏ لعن الله سواد
ساقي أمك‏.‏فقال معاوية‏:‏ أما والله إنه لخير من ابنك عبد الله - وهو ولده
منها وكان أحمق -‏.‏فقالت فاختة‏:‏ لا والله لكنك تؤثر هذا عليه‏.‏فقال‏:‏ سوف
أبين لك ذلك حتى تعرفينه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم استدعى
بابنها عبد الله فقال له‏:‏ إنه قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي
هذا‏.‏فقال‏:‏ حاجتي أن تشتري لي كلباً فارهاً وحماراً فارهاً‏.‏فقال‏:‏ يا بني أنت
حمار وتشتري لك حماراً‏؟‏ قم فاخرج‏.‏ثم قال لأمه‏:‏ كيف رأيت‏؟‏ثم استدعى
بيزيد فقال‏:‏ إني قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا،
فسلني ما بدا لك‏.‏فخر يزيد ساجداً ثم قال حين رفع رأسه‏:‏ الحمد لله الذي
بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه فيّ هذا الرأي‏.‏حاجتي أن تعقد لي
العهد من بعدك، وتوليني العام صائفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا
رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل في
عطائه، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتعرض لأيتام بني جمح، وأيتام بني سهم،
وأيتام بني عدي‏.‏فقال‏:‏ مالك ولأيتام بني عدي‏؟‏فقال‏:‏ لأنهم حالفوني
وانتقلوا إلى داري‏.‏فقال معاوية‏:‏ قد فعلت ذلك كله، وقبّل وجهه‏.‏
ثم قال لفاختة بنت قرظة‏:‏ كيف رأيت‏؟‏فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين أوصه
بي فأنت أعلم به مني، ففعل‏.‏وفي رواية‏:‏ أن يزيد لما قال له أبوه‏:‏ سلني
حاجتك‏.‏قال له يزيد‏:‏ اعتقني من النار أعتق الله رقبتك منها‏.‏قال‏:‏ وكيف‏؟‏
قال‏:‏ لأني وجدت في الآثار أنه من تقلد أمر الأمة ثلاثة أيام حرّمه الله
على النار، فاعهد إليّ بالأمر من بعدك ففعل‏.‏وقال العتبي‏:‏ رأى معاوية ابنه
يزيد يضرب غلاماً له فقال له‏:‏ اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك
‏!‏‏!‏ أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك‏؟‏والله لقد منعتني القدرة من
الانتقام من ذوي الأحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر‏.‏

قلت‏:‏ وقد ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود
يضرب غلاماً له فقال‏:

‏(‏‏ ‏اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه ‏‏)‏‏.‏

قال العتبي‏:‏
وقدم زياد بأموال كثيرة وبسفط مملوء جواهر على معاوية فسرّ بذلك
معاوية، فقام زياد فصعد المنبر ثم أفتخر بما يفعله بأرض العراق من
تمهيد الممالك لمعاوية‏.‏ فقام يزيد فقال‏:‏ إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك
من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد
إلى حرب بني أمية‏.‏ فقال له معاوية‏:‏ اجلس فداك أبي وأمي‏.‏

وعن عطاء بن السائب قال‏:‏
غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره‏.‏فقال له الأحنف بن قيس‏:‏ يا أمير
المؤمنين إنما هم أولادنا، ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء
ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فارضهم، وإن طلبوا فأعطهم، ولا تكن
عليهم ثقلاً فيملوا حياتك ويتمنوا موتك‏.‏فقال معاوية‏:‏ لله درك يا أبا بحر،
يا غلام ائت يزيد فأقره مني السلام وقل له‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أمر لك
بمائة ألف درهم، ومائة ثوب‏.‏فقال يزيد‏:‏ من عند أمير المؤمنين‏؟‏فقال
الأحنف، فقال يزيد‏:‏ لا جرم لأقاسمنه، فبعث إلى الأحنف بخمسين ألفاً
وخمسين ثوباً‏.‏

وقال الطبراني‏:‏
حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا ابن عائشة، عن أبيه‏.‏قال‏:‏ كان يزيد
في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك فأحب
أن يعظه في رفق، فقال‏:‏ يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من
غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ويشمت بك عدوك، ويسيء بك
صديقك، ثم قال‏:‏ يا بني إني منشدك أبياتاً فتأدب بها واحفظها، فأنشده‏:‏

أنصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجا * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسقٍ تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمرٍ عجيب
غطى عليه الليل أستاره * فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيب
ولذة الأحمق مكشوفةٌ * يسعى بها كل عدوٍ مريب

قلت‏:‏ وهذا كما جاء في الحديث ‏

(‏‏ ‏من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل‏ )‏‏

وروى المدائني‏:
‏ أن عبد الله بن عباس وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه
فيعزيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحَّب به وأكرمه،
وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال‏:‏
إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني‏.‏

ثم ذكر الحسن فقال‏:‏
رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن
عزاك، وعوضك من مصابك ما هو خيرٌ لك ثواباً وخير عقبى‏.‏فلما نهض
يزيد من عنده قال ابن عباس‏:‏ إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، ثم
أنشد متمثلاً‏:‏

مغاض عن العوراء لا ينطقوا بها * وأصل وراثات الحلوم الأوائل

وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة و تسع وأربعين
في قول يعقوب بن سفيان‏.‏وقال خليفة بن خياط‏:‏ سنة خمسين‏.‏ثم حج
بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم‏.‏
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏

(‏‏ ‏أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور لهم‏ )‏‏

وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه
عند أم حرام فقالت‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏
فقال‏:‏ ‏

(‏‏ ‏أنت من الأولين‏ ‏‏)‏‏.‏

يعني‏:‏ جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام
عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير
الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا‏.‏
وهذا من أعظم دلائل النبوة‏.‏

وقد أورد الحافظ ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر،
عن الأعمش، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله‏:‏
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏ )‏‏.‏

وكذلك رواه عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد، عن زرارة بن أوفى
قال‏:‏ القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ي قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية‏.‏قال‏:‏ قال أبو بكر بن عياش‏:‏ حج
بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين وثنتين وخمسين
وثلاث خمسين‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:
‏ حدثنا أبو كريب، ثنا رشد بن عمرو بن الحارث، عن أبي بكير بن الأشج
أن معاوية قال ليزيد‏:‏ كيف تراك فاعلاً إن وليت‏؟‏قال‏:‏ يمتع الله بك يا
أمير المؤمنين‏.‏قال‏:‏ لتخبرني‏.‏قال‏:‏ كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل
عمر بن الخطاب‏.‏فقال معاوية‏:‏ سبحان الله يا بنيَّ والله لقد جهدت على
سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها فكيف بك وسيرة عمر‏؟‏

وقال الواقدي‏:
‏ حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان
بن أبي سعيد بن المعلى‏.‏

قال‏:‏ قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت‏:‏ يا يزيد ‏!‏‏!‏ اتق الله فقد
وطأت لك هذا الأمر، ووليتُ من ذلك ما وليت، فإن يك خيراً فأنا أسعد به
، وإن كان غير ذلك شقيت به‏.‏فارفق بالناس وأغمض عما بلغك من قول
تؤذي به وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك، وإياك
والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإياك وخيرة أهل
الشرف واستهانتهم والتكبر عليهم، ولنْ لهم ليناً بحيث لا يروا منك ضعفاً
ولا خوراً، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وأدنهم منك فإنهم يعلموا لك
حقك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك‏.‏
فإذا أردت أمراً فادع أهل السن والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل
التقوى فشاورهم ولا تخالفهم، وإياك والاستبداد برأيك فإن الرأي ليس في
صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك
عن نسائك وخدمك؛ وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك
الناس، لا تدع لهم فيك مقالاً فإن الناس سراع إلى الشر‏.‏واحضر الصلاة،
فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك،
وعظمت في أعين الناس‏.‏واعرف شرف أهل المدينة ومكة فإنهم أصلك
وعشيرتك، واحفظ لأهل الشام شرفهم فإنهم أهل طاعتك، واكتب إلى أهل
الأمصار بكتاب تعدهم فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد
عليك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن ورائهم، ولا
تسمعن قول قاذف ولا ما حل فإني رأيتهم وزراء سوء‏.‏ومن وجه آخر أن
معاوية قال ليزيد‏:‏ إن لي خليلاً من أهل المدينة فأكرمه‏.‏قال‏:‏ ومن هو‏؟‏
قال‏:‏ عبد الله بن جعفر‏.‏فلما وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته
التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف،
فأعطاه يزيد ألف ألف‏.‏فقال له‏:‏ بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى‏.‏
فقال له ابن جعفر‏:‏ والله لا أجمع أبوي لأحد بعدك‏.‏ولما خرج ابن جعفر من
عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف، رأى على باب يزيد بخاتي مبركات قد قدم
عليها هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى يزيد فسأله منها
ثلاث بخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد إلى الشام على
يزيد‏.‏فقال يزيد للحاجب‏:‏ ما هذه البخاتي التي على الباب‏؟‏ - ولم يكن شعر
بها -‏.‏فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هذه أربعمائة بختية جاءتنا من خراسان
تحمل أنواع الألطاف - وكان عليها أنواع من الأموال كلها -‏.‏فقال‏:‏ اصرفها
إلى أبي جعفر بما عليها‏.‏فكان عبد الله بن جعفر يقول‏:‏ أتلومونني على
حسن الرأي في هذا‏؟‏ - يعني‏:‏ يزيد -‏.‏وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من
الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك‏.‏
وكان ذا جمال حسن المعاشرة، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات وترك
بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏
حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني‏:‏
أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول‏:
‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:

‏ ‏(‏‏ يكون خلفٌ من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات
فسوف يلقون غياً، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يجاوز
تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر‏ )‏‏.‏

فقلت للوليد‏:‏ ما هؤلاء الثلاثة‏؟‏قال‏:‏ المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به،
والمؤمن يؤمن به‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏
حدثنا زهير بن حرب، ثنا الفضل بن دكين، ثنا كامل أبو العلاء‏:‏
سمعت أبا صالح سمعت أبا هريرة يقول‏:‏
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏

(‏‏ ‏تعوذوا بالله من سنة سبعين، ومن إمارة الصبيان‏ )‏‏.‏

وروى الزبير بن بكار، عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد
بن عمرو بن نفيل أنه قال في يزيد بن معاوية‏:‏

لست منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات

قال‏:‏ وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن يسار، ويعرف بموسى
شهوات‏.‏وروي عن عبد الله بن الزبير أنه سمع جارية له تغني بهذا البيت
فضربها وقال قولي‏:‏

أنت منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات

وقال أبو يعلى‏:‏
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عوف،
عن خالد بن أبي المهاجر، عن أبي العالية‏.‏قال‏:‏ كنا مع أبي ذر بالشام
فقال أبو ذر‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:

‏ ‏(‏‏ ‏أول من يغير سنتي رجل من بني أمية‏ )‏‏

ورواه ابن خزيمة‏:‏ عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد،
عن عوف‏:‏ حدثنا مهاجر بن أبي مخلد، حدثني أبو العالية، حدثني
أبو مسلم، عن أبي ذر فذكر نحوه‏.‏

وفيه قصة وهي‏:‏
أن أبا ذر كان في غزاة عليهم يزيد بن أبي سفيان فاغتصب يزيد من رجل
جارية، فاستعان الرجل بأبي ذر على يزيد أن يردّها عليه، فأمره
أبو ذر أن يردها عليه، فتلكأ فذكر أبو ذر له الحديث فردها‏.‏
وقال يزيد لأبي ذر‏:‏ نشدتك بالله أهو أنا‏؟‏قال‏:‏ لا‏.‏

وكذا رواه البخاري في ‏(‏التاريخ‏)‏ وأبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن
عبد الوهاب‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏
والحديث معلول ولا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب‏.‏
قال‏:‏ وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر فولى مكانه أخاه معاوية‏.‏
وقال عباس الدوري‏:‏ سألت ابن معين‏:‏ أسمع أبو العالية من أبي ذر‏؟‏
قال‏:‏ لا إنما يروي عن أبي مسلم عنه‏.‏ قلت‏:‏ فمن أبو مسلم هذا‏؟‏قال‏:
‏ لا أدري‏.‏وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها
موضوعة لا يصح شيء منها، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف
أسانيده وانقطاع بعضه والله أعلم‏.‏

قال الحارث بن مسكين‏:‏
عن سفيان، عن شبيب، عن عرقدة بن المستظل‏.‏
قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ قد علمت ورب الكعبة متى تهلك
العرب، إذا ساسهم من لم يدرك الجاهلية ولم يكن له قدم في الإسلام‏.‏
قلت‏:‏ يزيد بن معاوية أكثر ما نقم عليه في عمله شرب الخمر، وإتيان
بعض الفواحش، فأما قتل الحسين فإنه كما قال جده سفيان يوم أُحد لم
يأمر بذلك ولم يسؤه‏.‏وقد قدمنا أنه قال‏:‏ لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله
ابن مرجانة - يعني‏:‏ عبيد الله بن زياد -‏.‏وقال للرسل الذين جاؤوا برأسه‏:‏
قد كان يكفيكم من الطاعة دون هذا، ولم يعطهم شيئاً، وأكرم آل بيت
الحسين، وردّ عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة
في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله في منزله على الحسين حين كان
أهل الحسين عندهم ثلاثة أيام‏.‏وقيل‏:‏ إن يزيد فرح بقتل الحسين أول
ما بلغه ثم ندم على ذلك‏.‏ فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ إن يونس
بن حبيب الجرمي حدثه قال‏:‏ لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه بعث
برؤوسهم إلى يزيد، فسرّ بقتله أولاً وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده،
ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم ‏!‏فكان يقول‏:‏ وما كان عليّ لو احتملت الأذى
وأنزلته في داري وحكمته فيما يريده، وإن كان عليّ في ذلك وكف ووهن
في سلطاني، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية لحقه
وقرابته‏.‏ ثم يقول‏:‏ لعن الله ابن مرجانة فإنه أحرجه واضطره، وقد كان
سأله أن يخلي سبيله أو يأتيني أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى
يتوفاه الله، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين،
وزرع لي في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس
من قتلي حسيناً، مالي ولابن مرجانة قبحه الله وغضب عليه‏.‏

ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه وولوا عليهم ابن مطيع
وابن حنظلة، لم يذكروا عنه - وهم أشد الناس عداوة له - إلا ما ذكروه
عنه من شرب الخمر، وإتيانه بعض القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما
يقذفه بذلك بعض الروافض‏.‏

بل قد كان فاسقاً والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور بسبب ذلك
من الفتنة ووقوع الهرج، كما وقع زمن الحرة، فإنه بعث إليهم من يردّهم
إلى الطاعة وأنظرهم ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم وغير ذلك، وقد كان
في قتال أهل الحرة كفاية، ولكن تجاوز الحد بإباحة المدينة ثلاثة أيام،
فوقع بسبب ذلك شر عظيم كما قدمنا‏.‏وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب
وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحداً بعد
بيعته ليزيد‏.‏

كما قال الإمام أحمد‏:‏
حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية، عن نافع‏.‏
قال‏:‏ لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد
ثم قال‏:‏ أما بعد، فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله،
وإني سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏

(‏‏ ‏إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان،
وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الإشراك بالله، أن يبايع رجل رجلاً
على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته‏ ‏‏)‏‏.‏

فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون
الفيصل بيني وبينه‏.‏

وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية،

وقال الترمذي‏:‏
حسن صحيح‏.‏

وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني‏:‏
عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر فذكر مثله‏.‏

ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه
إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال
ابن مطيع‏:‏ إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب‏.‏
فقال لهم‏:‏ ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته
مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة‏.‏
قالوا‏:‏ فإن ذلك كان منه تصنعاً لك‏.‏ فقال‏:‏ وما الذي خاف مني أو رجا حتى
يظهر إليّ الخشوع‏؟‏ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر‏؟‏ فلئن كان
أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا
بما لم تعلموا‏.‏ قالوا‏:‏ إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه‏.‏
فقال لهم‏:‏ أبى الله ذلك على أهل الشهادة‏.‏
فقال‏:‏

‏{‏ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏}
‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏،

ولست من أمركم في شيء‏.‏ قالوا‏:‏ فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك
فنحن نوليك أمرنا‏.‏ قال‏:‏ ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً
ولا متبوعاً‏.‏ ‏قالوا‏:‏ فقد قاتلت مع أبيك‏.‏ قال‏:‏ جيئوني بمثل أبي أقاتل
على مثل ما قاتل عليه‏.‏ فقالوا‏:‏ فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا‏.‏
قال‏:‏ لو أمرتهما قاتلت‏.‏ قالوا‏:‏ فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على
القتال‏.‏قال‏:‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏ آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت
لله في عباده‏.‏ قالوا‏:‏ إذاً نكرهك‏.‏ قال‏:‏ إذاً آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون
المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏
حدثنا مصعب الزبيري، ثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن زيد بن أسلم،
عن أبيه‏:‏ أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع، فلما دخل عليه‏.‏
قال‏:‏ مرحباً بأبي عبد الرحمن ضعوا له وسادة‏.‏فقال‏:‏ إنما جئتك لأحدثك
حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏ ‏من نزع يداً من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له،
ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت موتة جاهلية‏ ‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم من حديث هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه،
عن ابن عمر به‏.‏وتابعه إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن زيد
بن أسلم، عن أبيه‏.‏وقد رواه الليث عن محمد بن عجلان، عن زيد
بن أسلم، عن ابن عمر فذكره‏.‏

وقال أبو جعفر الباقر‏:‏
لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرة، ولما
قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه وأعطاه كتاب أمان‏.‏

وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة
الحرة، فلما أخبره بما وقع قال‏:‏ وا قوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس
الفهري فقال له‏:‏ ترى ما لقي أهل المدينة‏؟‏ فما الذي يجبرهم‏؟‏
قال‏:‏ الطعام والأعطية‏.‏ فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته‏.‏
وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى
بقتلهم، وأنه أنشد ذكراً وأثراً شعر ابن الزبعري المتقدم ذكره‏.‏

وقال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان بن بسام‏:‏
حدثني محمد بن القاسم، سمعت الأصمعي يقول‏:‏ سمعت هارون الرشيد
ينشد ليزيد بن معاوية‏:‏

إنها بين عامر بن لؤيٍ * حين تمنى وبين عبد مناف
ولها في الطيبين جدودٌ * ثم نالت مكارم الأخلاف
بنت عم النبي أكرم من * يمشي بنعلٍ على التراب وحافي
لن تراها على التبدل والغلـ*ـظة إلا كدرة الأصداف

وقال الزبير بن بكار‏:
‏ أنشدني عمي مصعب ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان‏:‏
آب هذا الهم فاكتنفا * ثمَّ مر النوم فامتنعا
راعياً للنجم أرقبه * فإذا ما كوكبٌ طلعا
حام حتى أنني لأرى * أنه بالغور قد وقعا
ولها بالمطارون إذا * أكل النمل الذي جمعا
نزهه حتى إذا بلغت * نزلت من خلّق تبعا
في قبابٍ وسط دسكرةٍ *حولها الزيتون قد ينعا

ومن شعره‏:‏
وقائلةٌ لي حين شبهت وجهها * ببدر الدجى يوماً وقد ضاق منهجي
تشبهني بالبدر هذا تناقصٌ * بقدري ولكن لست أول من هجي
ألم تر أنَّ البدر عند كماله * إذا بلغ التشبيه عاد كدملجي
فلا فخر إن شبهت بالبدر مبسمي * وبالسحر أجفاني وبالليل مدعجي

قد ذكره الزبير بن بكار، عن أبي محمد الجزري قال‏:‏ كانت بالمدينة جارية
مغنية يقال لها‏:‏ سلامة، من أحسن النساء وجهاً، وأحسنهن عقلاً،
وأحسنهن قداً، قد قرأت القرآن‏.‏وروت الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن
بن حسان، والأحوص بن محمد يجلسان إليها‏.‏فعلقت الأحوص فصدت
عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام فامتدحه
ودله على سلامة وجمالها وحسنها وفصاحتها‏.‏

وقال‏:‏ لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمارك، فأرسل
يزيد فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعاً عظيماً، وفضلها على
جميع من عنده، ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمر بالأحوص فوجده
مهموماً، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم هماً فقال‏:‏

يا مبتلى بالحب مقروحا * لاقى من الحب تباريحا
أفحمه الحب فما ينثني * إلا بكاس الحب مصبوحا
وصار ما يعجبه مغلقاً * عنه وما يكره مفتوحا
قد حازها من أصبحت عنده * ينال منها الشمَّ والريحا
خليفة الله فسل الهوى * وعزَّ قلباً منك مجروحا

قال‏:‏ فأمسك الأحوص عن جوابه ثم غلبه وجدة عليها فسار إلى يزيد
فامتدحه فأكرمه يزيد وحظي عنده، فدست إليه سلامة خادماً وأعطته
مالاً على أن يدخله إليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك‏.‏فقال‏:‏ امض لرسالتها،
ففعل وأدخل الأحوص عليها وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما
بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فأُلقي له كرسي
فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه فلم
يزالا يتحدثان إلى السحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما
ريبة، حتى إذا همَّ الأحوص بالخروج قال‏:‏

أمسى فؤادي في همٍ وبلبال * من حب من لم أزل منه على بال

فقالت‏:‏
صحا المحبُّون بعد النأي إذ يئسوا * وقد يئست وما أضحوا على حال

فقال‏:‏
من كان يسلو بيأس عن أخي ثقةٍ * فعنك سلامٌ ما أمسيت بالسالي

فقالت‏:‏
والله والله لا أنساك يا شجني * حتى تفارق مني الروح أوصالي

فقال‏:‏
والله ما خاب من أمسى وأنت له * يا قرة العين في أهلٍ وفي مال

قال‏:‏ ثم ودعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال‏:‏ أخبراني عما كان
في ليلتكما وأصدقاني، فأخبراه وأنشداه ما قالا، فلم يحرفا منه حرفاً
ولا غّيرا شيئاً مما سمعه‏.‏ فقال لها يزيد‏:‏ أتحبينه‏؟‏قالت‏:‏ إي والله يا
أمير المؤمنين‏:‏

حباً شديداً جرى كالروح في جسدي * فهل يفرق بين الروح والجسد‏؟‏

فقال له‏:‏ أتحبها‏؟‏فقال‏:‏ إي والله يا أمير المؤمنين‏:‏

حباً شديداً تليداً غير مطرفٍ * بين الجوانح مثل النار يضطرم

فقال يزيد‏:‏ إنكما لتصفان حباً شديداً خذها يا أحوص فهي لك، ووصله
صلة سنية‏.‏ فرجع بها الأحوص إلى الحجاز وهو قرير العين‏.‏وقد روي
أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد، واتخاذ
الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من
يوم إلا يصبح فيه مخموراً‏.‏وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال
ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق
بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه‏.‏وقيل‏:‏ إن سبب موته أنه حمل
قردة وجعل ينقزها فعضته‏.‏وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

وقال عبد الرحمن بن أبي مدعور‏:‏
حدثني بعض أهل العلم قال‏:‏ آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية‏:‏ اللهم
لا تؤاخذني بما لم أحبه، ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد الله بن زياد‏.‏
وكان نقش خاتمه آمنت بالله العظيم‏.‏مات يزيد بحوارين من قرى دمشق
في رابع عشر ربيع الأول‏.

‏وقيل‏:‏ يوم الخميس للنصف منه، سنة أربع وستين‏.‏وكانت ولايته
بعد موت أبيه في منتصف رجب سنة ستين، وكان مولده في سنة خمس‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ست‏.‏

وقيل‏:‏ سبع وعشرين‏.‏

ومع هذا فقد اختلف في سنّه ومبلغ أيامه في الإمارة على أقوال كثيرة،
وإذا تأملت ما ذكرته لك من هذه التحديدات انزاح عنك الإشكال من هذا
الخلاف، فإن منهم من قال‏:‏ جاوز الأربعين حين مات فالله أعلم‏.‏
ثم حمل بعد موته إلى دمشق وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد
أمير المؤمنين يومئذٍ، ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏وفي أيامه وسع النهر
المسمى بيزيد في ذيل جبل قاسيون، وكان جدولاً صغيراً فوسعه أضعاف
ما كان يجري فيه من الماء‏.‏