المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين


adnan
01-25-2015, 08:59 PM
الأخ / مصطفى آل حمد



ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله

وفيها
افتتح مسلمة بن عبد الملك حصوناً كثيرةً من بلاد الروم منها حصن
الحديد وغزالة وماسة وغير ذلك‏.‏

وفيها
غزا العباس بن الوليد ففتح سمسطية‏.‏

وفيها
غزا مروان بن الوليد الروم حتى بلغ حنجرة‏.‏

وفيها
كتب خوارزم شاه إلى قتيبة يدعوه إلى الصلح وأن يعطيه من بلاده مدائن،
وأن يدفع إليه أموالاً ورقيقاً كثيراً على أن يقاتل أخاه ويسلمه إليه، فإنه
قد أفسد في الأرض وبغى على الناس وعسفهم، وكان أخوه هذا لا يسمع
بشيء حسن عند أحد إلا بعث إليه فأخذه منه، سواء كان مالاً أو نساءً
أو صبياناً أو دواب أو غيره، فأقبل قتيبة نصره الله في الجيوش فسلم
إليه خوارزم شاه ما صالحه عليه، وبعث قتيبة إلى بلاد أخي خوارزم شاه
جيشاً فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وأسروا أخاه ومعه أربعة آلاف أسير من
كبارهم فدفع أخاه إليه، وأمر قتيبة بالأسارى فضربت أعناقهم بحضرته،
قيل‏:‏ ألفاً بين يديه، وألفاً عن يمينه، وألفاً عن شماله، وألفا من وراء
ظهره، ليرهب بذلك الأعداء من الأتراك وغيرهم‏.‏

فتح سمرقند
وذلك أن قتيبة لما فرغ من هذا كله وعزم على الرجوع إلى بلاده، قال له
بعض الأمراء‏:‏ إن أهل الصغد قد أمنوك عامك هذا، فإن رأيت أن تعدل
إليهم وهم لا يشعرون، فإنك متى فعلت ذلك أخذتها إن كنت تريدها يوماً
من الدهر، فقال قتيبة لذلك الأمير‏:‏ هل قلت هذا لأحد‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فلأن
يسمعه منك أحدٌ أضرب عنقك‏.‏ ثم بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن بن مسلم
بين يديه في عشرين ألفاً فسبقه إلى سمرقند، ولحقه قتيبة في بقية
الجيش، فلما سمعت الأتراك بقدومهم إليهم انتخبوا من ينهم كل شديد
السطوة من أبناء الملوك والأمراء، وأمروهم أن يسيروا إلى قتيبة في
الليل فيكبسوا جيش المسلمين، وجاءت الأخبار إلى قتيبة بذلك فجرد أخاه
صالح في ستمائة فارس من الأبطال الذين لا يطاقون، وقال‏:‏ خذوا عليهم
الطريق فساروا فوقفوا لهم في أثناء الطريق وتفرقوا ثلاث فرق، فلما
اجتازوا بهم بالليل - وهم لا يشعرون بهم - نادوا عليهم فاقتتل المسلمون
هم وإياهم، فلم يفلت من أولئك الأتراك إلا النفر اليسير واحتزوا رؤوسهم
وغنموا ما كان معهم من الأسلحة المحلاة بالذهب، والأمتعة، وقال لهم
بعض أولئك‏:‏ تعلمون أنكم لم تقتلوا في مقامكم هذا إلا ابن ملك أو بطل
من الأبطال المعدودين بمائة فارس أو بألف فارس، فنفلهم قتيبة جميع ما
غنموه منهم من ذهب وسلاح، واقترب من المدينة العظمى التي بالصغد –
وهي سمرقند - فنصب عليها المجانيق فرماها بها وهو مع ذلك يقاتلهم
لا يقلع عنهم، وناصحه من معه عليها من بخارى وخوارزم، فقاتلوا أهل
الصغد قتالاً شديداً، فأرسل إليه غورك ملك الصغد‏:‏ إنما تقاتلني بإخواني
وأهل بيتي، فأخرج إليَّ في العرب‏.‏ فغضب عند ذلك قتيبة وميز العرب
من العجم وأمر العجم باعتزالهم، وقدم الشجعان من العرب وأعطاهم جيد
السلاح، وانتزعه من أيدي الجبناء، وزحف بالأبطال على المدينة ورماها
بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدها الترك بغرار الدخن، وقام رجل منهم
فوقها فجعل يشتم قتيبة فرماه رجل من المسلمين بسهم فقلع عينه حتى
خرجت من قفاه‏.‏ فلم يلبث أن مات قبحه الله فأعطى قتيبة الذي رماه
عشرة آلاف، ثم دخل الليل، فلما أصبحوا رماهم بالمجانيق فثلم أيضاً ثلمة
وصعد المسلمون فوقها، وتراموا هم وأهل البلد بالنشاب، فقالت الترك
لقتيبة‏:‏ ارجع عنا يومك هذا ونحن نصالحك غداً، فرجع عنهم وصالحوه
من الغد على ألفي ألفٍ ومائة ألفٍ يحملونها إليه في كل عام، وعلى أن
يعطوه في هذه السنة ثلاثين ألف رأس من الرقيق ليس فيهم صغيرٌ
ولا شيخٌ ولا عيبٌ، وفي روايةٍ مائة ألفٍ من رقيقٍ، وعلى أن يأخذ حلية
الأصنام وما في بيوت النيران، وعلى أن يخلوا المدينة من المقاتلة حتى
يبني فيها قتيبة مسجداً، ويوضع له فيه منبر يخطب عليه، ويتغدى
ويخرج‏.‏ فأجابوه إلى ذلك، فلما دخلها قتيبة دخلها ومعه أربعة آلاف
من الأبطال - وذلك بعد أن بنى المسجد ووضع فيه المنبر – فصلى
في المسجد وخطب وتغدى وأتى بالأصنام التي لهم فسلبت بين يديه،
وألقيت بعضها فوق بعضٍ، حتى صارت كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها
فتصارخوا وتباكوا، وقال المجوس‏:‏ إن فيها أصناماً قديمةً من أحرقها
هلك، وجاء الملك غورك فنهى عن ذلك، وقال لقتيبة‏:‏ إني لك ناصح،
فقام قتيبة وأخذ في يده شعلة نار، وقال‏:‏ أنا أحرقها بيدي فكيدوني جميعاً
ثم لا تنظرون، ثم قام إليها وهو يكبر الله عز وجل، وألقى فيها النار
فاحترقت، فوجد من بقايا ما كان فيها من الذهب خمسون ألف مثقال
من ذهبٍ‏.‏ وكان من جملة ما أصاب قتيبة في السبي جارية من ولد
يزدجرد، فأهداها إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد، ثم استدعى قتيبة
بأهل سمرقند، فقال لهم‏:‏ إني لا أريد منكم أكثر مما صالحتكم عليه، ولكن
لا بد من جند يقيمون عندكم من جهتنا‏.‏ فانتقل عنها ملكها غورك خان
فتلا قتيبة‏:‏

‏{ ‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى‏ }‏
الآيات ‏[‏النجم‏:‏ 50-51‏]‏

ثم ارتحل عنها قتيبة إلى بلاد مرو، واستخلف على سمرقند أخاه عبد الله
بن مسلم، وقال له‏:‏ لا تدع مشركاً يدخل باب سمرقند إلا مختوم اليد، ثم
لا تدعه بها إلا مقدار ما تجف طينة ختمه، فإن جفت وهو بها فاقتله،
ومن رأيت منهم ومعه حديدة أو سكينة فاقتله بها، وإذا أغلقت الباب
فوجدت بها أحداً فاقتله، فقال في ذلك كعب الأشقري - ويقال هي لرجل
من جعفي -‏:‏

كل يوم يحوي قتيبة نهبا * ويزيد الأموال مالاً جديدا
باهليٌّ قد ألبس التاج حتى * شاب منه مفارق كن سودا
دوخ الصغد بالكتائب حتى * ترك الصغد بالعراء قعودا
فوليد يبكي لفقد أبيه * وأب موجع يبكي الوليدا
كلما حل بلدة أو أتاها * تركت خيله بها أخدودا

وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير نائب بلاد المغرب مولاه طارقاً
عن الأندلس، وكان قد بعثه إلى مدينة طليلطة ففتحها، فوجد فيها مائدة
سليمان بن داود عليهما السلام، وفيها من الذهب والجواهر شيءٌ كثيرٌ
جداً، فبعثوا بها إلى الوليد بن عبد الملك فما وصلت إليه حتى مات، وتولى
أخوه سليمان بن عبد الملك، فوصلت مائدة سليمان عليه السلام إلى
سليمان على ما سيأتي بيانه في موضعه، وكان فيها ما يبهر العقول لم
ير منظرٌ أحسن منها، واستعمل موسى بن نصير مكان مولاه ولده
عبد العزيز بن موسى بن نصير‏.‏

وفيها
بعث موسى بن نصير العساكر وبثها في بلاد المغرب، فافتتحوا مدناً
كثيرةً من جزيرة الأندلس منها قرطبة وطنجة، ثم سار موسى بنفسه
إلى غرب الأندلس فافتتح مدينة باجة والمدينة البيضاء وغيرهما من
المدن الكبار والأقاليم، ومن القرى والرساتيق شيء كثير، وكان لا يأتي
مدينة فيبرح عنها حتى فتحها أو ينزلوا على حكمه، وجهز البعوث
والسرايا غرباً وشرقاً وشمالاً، فجعلوا يفتتحون المغرب بلداً بلداً، وإقليماً
إقليماً، ويغنمون الأموال ويسبون الذراري والنساء، ورجع موسى
بن نصير بغنائم وأموال وتحف لا تحصى ولا تعد كثرة‏.‏

وفيها
قحط أهل إفريقية وأجدبوا جدباً شديداً، فخرج بهم موسى بن نصير
يستسقي بهم، فمازال يدعو حتى انتصف النهار، فلما أراد أن ينزل
عن المنبر قيل له‏:‏ ألا تدعوا لأمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ ليس هذا الموضع
موضع ذاك، فلما قال هذه المقالة أرسل الله عليهم الغيث فأمطروا مطراً
غزيراً وحسن حالهم، وأخصبت بلادهم‏.‏

وفيها
ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطاً
بأمر الوليد له في ذلك، وصب فوق رأسه قربة من ماءٍ باردٍ في يوم شتاءٍ
باردٍ، وأقامه على باب المسجد يوم ذلك فمات رحمه الله‏.‏ وكان عمر
بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بشر
بشيء من أمر الآخرة يقول‏:‏ وكيف وخبيب لي بالطريق‏؟‏ وفي رواية
يقول هذا إذا لم يكن خبيب في الطريق، ثم يصيح صياح المرأة الثكلى،
وكان إذا أثني عليه يقول‏:‏ خبيب وما خبيب إن نجوت منه فأنا بخير‏.
‏ وما زال على المدينة إلى أن ضرب خبيباً فمات فاستقال وركبه الحزن
والخوف من حينئذ، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك
هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير، من عبادة وبكاء وحزن
وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك‏.‏

وفيها
افتتح محمد بن القاسم - وهو ابن عم الحجاج بن يوسف - مدينة الدبيل
وغيرها من بلاد الهند، وكان قد ولاه الحجاج عزو الهند وعمره سبع
عشرة سنة، فسار في الجيوش فلقوا الملك داهر وهو ملك الهند في جمع
عظيم ومعه سبع وعشرون فيلاً منتخبةً، فاقتتلوا فهزمهم الله، وهرب
الملك داهر، فلما كان الليل أقبل الملك ومعه خلقٌ كثيرٌ جداً، فاقتتلوا قتالاً
شديداً فقتل الملك داهر وغالب من معه، وتبع المسلمون من انهزم من
الهنود فقتلوه، ثم سار محمد بن القاسم فافتتح مدينة الكبرج وبرها،
ورجع بغنائم كثيرة وأموال لا تحصى كثرة من الجواهر والذهب وغير
ذلك‏.‏ فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك،
قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها،
وقد أذلوا الكفر وأهله وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعباً،
لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم
وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين،
في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه‏.‏ فقتيبة بن مسلم
يفتح في بلاد الترك يقتل ويسبي ويغنم حتى وصل إلى تخوم الصين،
وأرسل إلى ملكه يدعوه فخاف منه، وأرسل له هداياً وتحفاً وأموالاً كثيرةً
هديةً، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده بحيث أن ملوك تلك النواحي
كلها تؤدي إليه الخراج خوفاً منه ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد
الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش
كما مر‏.‏

ثم إن قتيبة قتل بعد ذلك، قتله بعض المسلمين‏.‏
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر
يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى
القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعاً يعبد الله فيه وامتلأت قلوب
الفرنج منهم رعباً‏.‏

ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها
في طائفة من جيش العراق وغيرهم‏.‏

وموسى بن نضير يجاهد في بلاد الغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش
الديار المصرية وغيرها، وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الإسلام
وتركوا عبادة الأوثان‏.‏ وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان
فتحوا غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها بعد هذه الأقاليم الكبار مثل
الشام ومصر والعراق واليمن وأوائل بلاد الترك، ودخلوا إلى ما وراء
النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد الهند‏.‏ فكان سوق الجهاد قائماً
في القرن الأول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية وفي أثناء
خلافة بني العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده في بلاد
الروم والترك والهند‏.‏ وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلاداً
كثيرةً من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد
المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها‏.‏ ثم لما بطل الجهاد
من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلاداً كثيرةً، وضعف الإسلام
فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية،
وضعف الإسلام وقل ناصروه، وجاء الفرنج فاخذوا غالب بلاد الشام حتى
أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب
مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة
وسيأتي ذلك كله في مواضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها
عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن إمرة المدينة، وكان سبب ذلك،
أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره عن أهل العراق أنهم في
ضيم وضيق مع الحجاج من ظلمه وغشمه، فسمع بذلك الحجاج فكتب
إلى الوليد‏:‏ إن عمر ضعيفٌ عن إمرة المدينة ومكة، وهذا وهن وضعف
في الولاية، فاجعل على الحرمين من يضبط أمرهما‏.‏ فولي على المدينة
عثمان بن حيان، وعلى مكة خالد بن عبد الله القسري، وفعل ما أمره به
الحجاج‏.‏ فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة في شوال فنزل السويداء
وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة‏.‏
وحج بالناس فيها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك‏.‏

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏
أنس بن مالك ابن النضر بن ضمضم
بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة
ويقال أبو ثمامة الأنصاري النجاري، خادم رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏
وصاحبه، وأمه أم حرام مليكة بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام،
زوجة أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري‏.‏

روى عن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ أحاديث جمة، وأخبر بعلوم
مهمة، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم‏.‏
وحدث عنه خلق من التابعين، قال أنس‏:‏ قدم رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏
المدينة وأنا ابن عشر سنين، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة، وقال محمد
بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة، قال‏:‏ قيل لأنس أشهدت بدراً‏؟‏
فقال‏:‏ وأين أغيب عن بدر لا أم لك‏؟‏ قال الأنصاري‏:‏ شهدها يخدم
رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏ قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي‏:‏
لم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازي، قلت‏:‏ الظاهر أنه إنما شهد ما بعد
ذلك من المغازي، والله أعلم‏.‏

وقد ثبت أن أمه أتت به - وفي رواية عمه زوج أمه أبو طلحة إلى رسول
الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله هذا أنس خادم لبيب
يخدمك، فوهبته منه فقبله، وسألته أن يدعو له فقال‏:

‏ ‏(‏‏ ‏اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة‏ ‏‏)‏‏.‏

وثبت عنه أنه قال‏:‏ كنَّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة
كنت أجتنيها‏.‏

وقد استعمله أبو بكر ثم عمر على عمالة البحرين وشكراه في ذلك،
وقد انتقل بعد النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فسكن البصرة، وكان له بها
أربع دور، وقد ناله أذى من جهة الحجاج، وذلك في فتنة ابن الأشعث،
توهم الججاج منه أنه له مداخلة في الأمر، وأنه أفتى فيه، فختمه الحجاج
في عنقه، هذا عنق الحجاج، وقد شكاه أنس كما قدمنا إلى عبد الملك،
فكتب إلى الحجاج يعنفه، ففزع الحجاج من ذلك وصالح أنساً‏.‏

وقد وفد أنس على الوليد بن عبد الملك في أيام ولايته، قيل‏:‏ في سنة
ثنتين وتسعين، وهو يبني جامع دمشق، قال مكحول‏:‏ رأيت أنساً يمشي
في مسجد دمشق، فقمت إليه فسألته عن الوضوء من الجنازة، فقال‏:
‏ لا وضوء‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏
حدثني إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، قال‏:‏ قدم أنس على الوليد
فقال له الوليد‏:‏ ماذا سمعت من رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ يذكر به
الساعة‏؟‏ فقال‏:‏ سمعت رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ يقول‏:‏

‏(‏‏ أنتم والساعة كهاتين‏ )‏‏.‏

ورواه عبد الرزاق بن عمر، عن إسماعيل قال‏:‏ قدم أنس على الوليد
في سنة ثنتين وتسعين، فذكره‏.‏

وقال الزهري‏:‏
دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏
لا أعرف مما كان رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وأصحابه إلا هذه
الصلاة، وقد صنعتم فيها ما صنعتم‏.‏ وفي رواية‏:‏ وهذه الصلاة قد ضيعت
يعني ما كان يفعله خلفاء بني أمية من تأخير الصلاة إلى آخر وقتها
الموسع - كانوا يواظبون على التأخير إلا عمر بن عبد العزيز في أيام
خلافته كما سيأتي‏.‏

وقال عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت،
عن أنس‏.‏ قال‏:‏ جاءت بي أمي إلى رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏
وأنا غلام، فقالت‏:‏ يا رسول خويدمك أنيس فادع الله له‏.‏ فقال‏:‏

‏(‏‏ ‏اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة‏ )‏‏.

‏ قال‏:‏ فقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة، وفي رواية قال أنس‏:‏ فوالله إن
مالي لكثير حتى نخلي وكرمي ليثمر في السنة مرتين، وإن ولدي وولد
ولدي ليتعادون على نحو المائة، وفي رواية‏:‏ وإن ولدي لصلبي مائة
وستة‏.‏ ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ منتشرة جداً، وفي رواية
قال أنس‏:‏ وأخبرتني بنتي آمنة أنه دفن لصلبي إلى حين مقدم الحجاج
عشرون ومائة، وقد تقصى ذلك بطرقه وأسانيده وأورد ألفاظه الحافظ
ابن عساكر في ترجمة أنس، وقد أوردنا طرفاً من ذلك في كتاب دلائل
النبوة في أواخر السيرة ولله الحمد‏.‏

وقال ثابت لأنس‏:‏ هل مست يدك كف رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏؟‏
قال‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ فأعطنيها أقبلها‏.‏ وقال محمد بن سعد، عن مسلم
بن إبراهيم، عن المثنى بن سعيد الذراع، قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك،
يقول‏:‏ ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي رسول الله
‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ثم يبكي‏.‏

وقال محمد بن سعد، عن أبي نعيم، عن يونس بن أبي إسحاق،
عن المنهال بن عمرو، قال‏:‏ كان أنس صاحب نعل رسول الله
‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وإداوته‏.‏

وقال أبو داود‏:‏
ثنا الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس‏.‏ قال‏:‏ إني لأرجو أن ألقي
رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فأقول‏:‏ يا رسول الله خويدمك‏.‏

وقال شعبة، عن ثابت، قال‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏
ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏
من ابن أم سليم - يعني أنس بن مالك –

وقال ابن سيرين‏:
‏ كان أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر‏.‏

وقال أنس‏:‏
خذ مني فأنا أخذت من رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ عن الله
عز وجل، ولست تجد أوثق مني‏.‏

وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه، سمعت أنساً يقول‏:
‏ ما بقي أحدٌ صلى إلى القبلتين غيري‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏
حدثنا عفان، حدثني شيخ لنا يكنى أبا جناب، سمعت الحريري، يقول‏:‏
أحرم أنس من ذات عرق فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله عز وجل حتى
أحل، فقال لي‏:‏ يا ابن أخي هكذا الإحرام‏.‏

وقال صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف‏:‏
دخل علينا أنس يوم الجمعة ونحن في بعض أبيات أزواج النبي ‏
(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ نتحدث فقال‏:‏ مه، فلما أقيمت الصلاة قال‏:‏
إني لأخاف أن أكون قد أبطلت جمعتي بقولي لكم‏:‏ مه‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏
ثنا بشار بن موسى الخفاف، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، قال‏:‏ كنت
مع أنس فجاءت قهرمانة فقالت‏:‏ يا أبا حمزة عطشت أرضنا، قال‏:‏ فقام
أنس فتوضأ وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا فرأيت السحاب يلتئم
ثم أمطرت حتى خيِّل إلينا أنها ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس
بعض أهله فقال‏:‏ انظر أين بلغت السماء، فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيراً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏
حدثنا معاذ بن معاذ، ثنا ابن عون، عن محمد، قال‏:‏ كان أنس إذا حدث
عن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ حديثاً ففرغ منه قال‏:‏ أو كما قال
رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وقال الأنصاري، عن ابن عوف، عن محمد، قال‏:‏
بعث أمير من الأمراء إلى أنس شيئاً من الفيء فقال‏:‏ أخمس‏؟‏ قال‏:‏ لا،
فلم يقبله‏.‏

وقال النضر بن شداد، عن أبيه‏:
‏ مرض أنس، فقيل له‏:‏ ألا ندعو لك الطبيب‏؟‏ فقال‏:‏ الطبيب أمرضني‏.‏

وقال حنبل بن إسحاق‏:‏
ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا علي بن يزيد، قال‏:‏
كنت في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء
أنس بن مالك، فقال الحجاج‏:‏ هي يا خبيث جوال في الفتن، مرة مع علي،
ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده
لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضـب‏.‏ قال‏:‏ يقول
أنس إياي يعني الأمير‏؟‏ قال‏:‏ إياك أعني، أصم الله سمعك، قال‏:‏ فاسترجع
أنس، وشغل الحجاج، فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال‏:‏ لولا أني
ذكرت ولدي - وفي رواية لولا أني ذكرت أولادي الصغار - وخفته عليهم
ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يتسخفني بعده أبداً‏.‏

وقد ذكر أبو بكر بن عياش‏:‏
أن أنساً بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول‏:‏ والله لو أن اليهود
والنصارى رأوا من خدم نبيهم لأكرموه، وأنا قد خدمت رسول الله
‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ عشر سنين‏.‏

كتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً فيه كلام جد وفيه‏:
‏ إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبي حمزة فترضّاه، وقبل يده ورجله،
وإلا حل بك مني ما تستحقه‏.‏

فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، همَّ أن ينهض إليه
فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن
لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة –
وكان إسماعيل صديق الحجاج - فجاء أنس فقام إليه الحجاج يتلقاه،
وقال‏:‏ إنما مثلي ومثلك إياك أعني واسمعي يا جارة‏.‏ أردت أن لا يبقى
لأحد علي منطق‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏
كتب عبد الملك إلى الحجاج - لما قال لأنس ما قال -‏:‏ يا ابن المستقرمة
بعجم الزبيب لقد هممت أن أركلك ركلة تهوي بها إلى نار جهنم، قاتلك الله
أخيفش العينين، أفيتل الرجلين، أسود العاجزين - ومعنى قوله المستقرمة
عجم الزبيب - أي‏:‏ تضيق فرجها عند الجماع به، ومعنى أركلك أي‏:‏
أرفسك برجلي، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة الحجاج في سنة
خمس وتسعين‏.‏

وقال أحمد بن صالح العجلي‏:
‏ لم يبتل أحد من الصحابة إلا رجلين، معيقيب كان به الجذام، وأنس
بن مالك كان به وضح‏.‏

وقال الحميدي،
عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، قال‏:‏ رأيت
أنساً يأكل فرأيته يلقم لقماً عظاماً، رأيت به وضحاً شديداً‏.‏

وقال أبو يعلى‏:
‏ ثنا عبد الله بن معاذ بن يزيد، عن أيوب، قال‏:‏ ضعف أنس عن الصوم
فصنع طعاماً ودعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم‏.‏ وذكره البخاري تعليقاً‏.‏

وقال شعبة، عن موسى السنبلاوي، قلت لأنس‏:‏
أنت آخر من بقي من أصحاب رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏؟‏ قال‏:
‏ قد بقي قوم من الأعراب، فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي‏.‏

وقيل له في مرضه‏:‏ ألا ندعو لك طبيباً‏؟‏ فقال‏:‏ الطبيب أمرضني، وجعل
يقول‏:‏ لقِّنوني لا إله إلا الله وهو محتضر، فلم يزل يقولها حتى قبض‏.‏
وكانت عنده عصية من رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فأمر بها
فدفنت معه‏.‏قال عمر بن شبة وغير واحد‏:‏ مات وله مائة وسبع سنين‏.‏

وقال الإمام أحمد في مسنده‏:‏
ثنا معتمر بن سليمان، عن حميد‏:‏ أن أنساً عمّر مائة سنة غير سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏
وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وكذا قال علي بن المديني
والفلاس وغير واحد‏.‏

وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته، فقيل‏:‏
سنة تسعين، وقيل‏:‏ إحدى وتسعين، وقيل‏:‏ ثنتين وتسعين، وقيل‏:‏ ثلاث
وتسعين، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏
حدثني أبو نعيم، قال‏:‏ توفي أنس بن مالك وجابر بن زيد في جمعة واحدة،
سنة ثلاث وتسعين‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لما مات أنس قال مؤرق العجلي‏:‏ ذهب اليوم نصف العلم، قيل
له‏:‏ وكيف ذاك يا أبا المعتمر‏؟‏ قال‏:‏ كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفونا
في الحديث عن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ قلنا‏:‏ لهم تعالوا
إلى من سمعه منه‏.‏