المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ابن الجوزي - الواعظ المربي ‏(الجزء الثاني)‏


adnan
03-06-2015, 08:22 PM
الأخت / الملكة نـــور





ابن الجوزي - الواعظ المربي ( الجزء الثاني )


ابن الجوزي - الواعظ المربي ( الجزء الثاني )
مجالس وعظ ابن الجوزي :
ما ذكر ابن الجوزي إلا وذكر معه الوعظ، وما ذكر الوعظ إلا وذكر معه
ابن الجوزي، فهما متلازمان دائما، فما ترجم له مؤرخ إلا وذكر معه كلمة
(الواعظ)، وما بلغ عالم في فن الوعظ بمثل ما بلغه ابن الجوزي –رحمه الله،

حتى قال ابن كثير:
"وَتَفْرَّدَ بِفَنِّ الْوَعْظِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته
وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وَحَلَاوَةِ تَرْصِيعِهِ وَنُفُوذِ وَعْظِهِ
وَغَوْصِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ، وَتَقْرِيبِهِ الْأَشْيَاءَ الْغَرِيبَةَ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنَ
الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع
المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة[30]".

وقال ابن خلكان:
"كان علاّمة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ[31]".

وقد بدأت ملكات الوعظ عند ابن الجوزي –رحمه الله- من الصغر، فبدأ
التصنيف والوعظ وهو صغير جدا، وذلك بعد وفاة شيخه ابن الزاغوني
سنة 527هـ، أي كان يبلغ من العمر 16 أو 17 عاما، وقد أخذ عنه الوعظ
والفقه بل وخلف أستاذه ودرّس في حلقته مع صغر سنه
في جامع المنصور [32] .

وأما عن زمان ومكان مجالس وعظ ابن الجوزي - رحمه الله - فقد ذكرها
ابن جبير الأندلسي في رحلته فهو بإزاء دار ابن الجوزي - رحمه الله –
بالجانب الشرقي على شاطئ نهر دجلة بجوار قصور الخلافة ببغداد
وبمقربة من باب البصيلة آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس
به كل يوم سبت [33].

وعن وصف مجالس وعظ ابن الجوزي يقول سبطه أبو المظفر:
"أقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف،
وأوقع الله له في القلوب القبول والهيبة. وكان زاهدا في الدنيا، متقللا
منها، وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعي هاتين ألفي
مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف
يهودي ونصراني [34]".

وقد قدّم الرحالة المسلم ابن جبير وصفا عجيبا لمجالس ابن الجوزي –
رحمه الله - في رحلته الشهيرة فيُرجع إليه [35]. وكان ابن الجوزي –
رحمه الله - إذا وعظ اختلس القلوب وتشققت النفوس دون الجيوب[36]،
ولرقة ما يسمع وخشوع ما يقال

قال ابن الجوزي في تاريخه:
"وقد تاب على يدي أكثر من مائة ألف وقطعت أكثر من عشرين ألف
طائلة ولم ير لواعظ قط مثل مجلسي جمع الخليفة والوزير وصاحب
المخزن وكبار العلماء[37] ".

ولم تقتصر مجالس وعظ ابن الجوزي على مدرسته وداره بل تعدت إلى
جوامع بغداد ومدارسها، وكان الناس يزاحمون مجالسه من شدة
الحضور، ومن تلك الأماكن مدرسته بدرب دينار، وهي التي بناها
أبو الفرج ابن الجوزي ودرس بها سنة 570هـ، وقد درَّس في أول يوم
تدريسه بها أربعة عشر درسا من فنون العلم[38]، ومن أماكن وعظه
كذلك - رحمه الله - باب بدر[39] وجامع القصر وجامع المنصور
وغيرها كثير .

ولم تكن مجالس وعظ ابن الجوزي مقتصرة على الرقائق وفقط بل كانت
مليئة بفنون العلوم، ومنها تفسير القرآن الكريم، وقد انتهى ابن الجوزي
–رحمه الله من تفسير القرآن الكريم في يوم السبت سابع عشر جمادى
الأولى سنة 570ه [40].

ولسعة شهرة مجالس ابن الجوزي في التدريس والوعظ تعلقت به دار
الخلافة، حتى كان الخليفة ووزراؤه وأعيان الخلافة والفقهاء يحضرون
مجالس وعظ ابن الجوزي في دار الخلافة نفسها، وقد روي أن أمير
المؤمنين المستضيء بأمر الله (من ربيع الآخر 566هـ حتى ذي القعدة
575هـ) سمع ابن الجوزي ينشد تحت داره:

ستنقلك المنايا عن ديارك ... وَيُبْدِلُكَ الردى دارا بدارك
وتترك ما عنيت به زمانا ... وتنقل من غناك إلى افتقارك
فدود القبر في عينيك يرعى ... وترعى عين غيرك في ديارك

فجعل المستضيء يمشي في قصره ويقول: أي والله:
وترعى عين غيرك في ديارك ويكررها ويبكي حتى الليل[41].

فلله در ابن الجوزي - رحمه الله - ، فكم من قلوب خشعت وكم من نفوس
رجعت وكم من عيون دمعت من خشية الله، وليس ذلك كله إلا بفضل الله
ومنِّه عليه.

أخلاق ابن الجوزي وصفاته :

قال الموفق عبد اللطيف[42]:
"كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون
الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة[43]".

وقد تمتع ابن الجوزي –رحمه الله- بجملة من الأخلاق
و الصفات التي لا تتوفر إلا في أفراد الرجال، و نذكر منها:

حب العزلة طلبا للعلم
وذلك طلبا للعلم ورغبة في تحصيل المزيد منه على نحو ما ذكرناه
في نشأته –رحمه الله، وفي هذا يقول ابن كثير: "وَكَانَ وهو صبي دَيِّنًا
مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا ولا يأكل ما فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ
مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان[44]".

الثقة في النفس
وهي وإن كانت زائدة ويراها غيري ذما إلا أنني أراه مدحا، فقد رأى
ابن كثير –رحمه الله- هذه الثقة الزائدة لدى ابن الجوزي –رحمه الله-
عجبا وترفعا في النفس، يقول: "وَقَدْ كَانَ فِيهِ بَهَاءٌ وَتَرَفُّعٌ فِي نَفْسِهِ
وإعجاب وسمو بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كلامه فِي نَثْرِهِ
وَنَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

مَا زِلْتُ أُدْرِكُ مَا غَلَا بَلْ مَا عَلَا ... وَأَكَابِدُ النَّهْجَ الْعَسِيرَ الْأَطْوَلَا
تَجْرِي بِيَ الْآمَالُ في حلباته ... جرى السعيد مدى ما أملا
أفضى بى التوفيق فيه إلى الّذي ... أعيا سِوَايَ تَوَصُّلًا وَتَغَلْغُلَا
لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شخصا ناطقا ... وسألته هل زار مثلي؟ قال: لا[45]".

وما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أراه صفة مدح ما لم تختلط بعجب
ممقوت أو تكبر على الآخرين، وهو ما نحسبه غير موجود في
ابن الجوزي - رحمه الله .

البديهة والذكاء
فمن أحسن ما يحكى عنه –في هذا المقام- أنه وقع النزاع ببغداد بين
أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي -رضي الله عنهما-،
فرضي الكل بما يجيب به أبو الفرج ابن الجوزي، فأقاما شخصاً سأله عن
ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال ابن الجوزي: أفضلهما من
كانت ابنته تحته، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنة:
هو أبو بكر –رضي الله عنه؛ لأن ابنته عائشة -رضي الله عنها- تحت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الشيعة: هو علي
–رضي الله عنه؛ لأن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [46]..

الشجاعة
فكان لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، وكان ابن الجوزي –يقول الحق
ولو فيه رقبته، وكان –رحمه الله- لا يبخل على الأمراء والخلفاء
بمواعظه ونصائحه، فقد روي أنه قال لأحد الأمراء: يا أمير اذكر عند
القدرة عدل الله فيك، وعند العقوبة قدرة الله عليك، ولا تشف غيظك
بسقم دينك[47]. .

وكان الخلفاء والأمراء يواظبون على حضور مجالس وعظ ابن الجوزي،
فالتفت مرة وهو وعظه إلى الخليفة العباسي المستضيء وقال له: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَكَلَّمْتُ خِفْتُ مِنْكَ، وَإِنْ سَكْتُّ خِفْتُ عَلَيْكَ، وَإِنَّ قَوْلَ القائل لك
اتّق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إِذَا بَلَغَنِي عَنْ عامل لي أنه ظلم فَلَمْ أُغَيِّرْهُ فَأَنَا الظَّالِمُ،
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ يُوسُفُ لَا يَشْبَعُ فِي زَمَنِ الْقَحْطِ حتى لا ينسى
الجائع، وَكَانَ عُمْرُ يَضْرِبُ بَطْنَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ وَيَقُولُ قرقرا ولا تقرقرا،
والله لا ذاق عمر سَمْنًا وَلَا سَمِينًا حَتَّى يُخْصِبَ النَّاسُ. قَالَ فبكى
المستضيء وتصدق بمال كثير، وَأَطْلَقَ الْمَحَابِيسَ وَكَسَا خَلْقًا
مِنَ الْفُقَرَاءِ[48]. .

محاربته البدع والرافضة :
فقد كان زمانه - رحمه الله - زمان فتن وبدع وبُعد عن الله تعالى، إلا أن
الله تعالى قيض للأمة ابن الجوزي - رحمه الله - فكان لأصحاب البدع
بالمرصاد، يقول عن نفسه - رحمه الله : " وظهر أقوام يتكلمون بالبدع
ويتعصبون في المذاهب، فأعانني الله سبحانه وتعالى عليهم. وكانت
كلمتنا هي العلي[49]".

وأما عن الشيعة الرافضة فقد وقف لهم ولأكاذيبهم بالمرصاد، وكانوا قد
كثروا وقويت شوكتهم في زمان الخليفة المستضيء، يقول ابن الجوزي
فكتب صاحب المخزن إلى الخليفة: "إن لم تُقَوَِّ يدَ ابن الجوزي لم يطق
دفع البدع". فكتب الخليفة بتقوية يدي، فأخبرت الناس ذلك على المنبر،
وقلت: "إن أمير المؤمنين، قد بلغه كثرة الرفض، وقد خرج توقيعه
بتقوية يدي في إزالة البدع، فمن سمعتموه من العوام ينتقص الصحابة
فأخبروني حتى أنقض داره، وأخلده الحبس، فإن كان من الوعاظ حفرته
إلى المثال، فانكف الناس[50]". .

عبادة ابن الجوزي وزهده :
يقول ابن رجب الحنبلي: "وكان رحمه الله مع هذه الفضائل والعلوم
الواسعة ذا أوراد وتأله، وله نصيب من الأذواق الصحيحة، وحظ
من شرب حلاوة المناجاة. وقد أشار هو إلى ذلك. ولا ريب أن كلامه في
الوعظ والمعارف ليس بكلام ناقل أجنبي مجرد عن الذوق، بل كلام
مشارك فيه[51]". .

وقد ذكر ابن القادسي في تاريخه:
"أن الشيخ كان يقوم الليل ويصوم النهار، وله معاملات، ويزور
الصالحين إذا جن الليل، ولا يكاد يفتر إذا جن الليل، ولا يكاد يفتر عن ذكر
الله، وله في كل يوم وليلة ختمة يختم فيها القرآن .. ورأى رب العزة
في منامه ثلاث مرات[52]". .

آثار ابن الجوزي العلمية :
ترك ابن الجوزي -رحمه الله- جملة من المصنفات والمؤلفات العلمية التي
ما نال الزمان بمثلها، حتى قال ابن كثير: " وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ
مَا يَضِيقُ هذا المكان عَنْ تِعْدَادِهَا، وَحَصْرِ أَفْرَادِهَ[53]".

وقال ابن الجوزي:
"أول ما صنفت وألفت ولي من العمر 13 سنة[54]".

ونذكر منها :
1- كتاب المغني في التفسير. 2- زاد المسير في علم التفسير. 3- تيسير
البيان في تفسير القرآن. 4- تذكرة الأريب في تفسير الغريب. 5- الوجوه
والنظائر. 6- النَّاسِخ والمنسوخ. 7- جَامع المسانيد. 8- فنون الأفنان
في عيون علوم القرآن. 9- تذكرة المنتبه في عيون المشتبه. 10- العلل
المتناهية في الأحاديث الواهية. 11- المسلسلات. 12- مناقب أحمد
بن حنبل. 13- صفوة الصفوة. 14- تلقيح فهوم أهل الأثر. 15- تلبيس
إبليس. 16- ذم الهوى. 17- صيد الخاطر. 18- الموضوعات. 19- الثبات
عند الممات. 20- التبصرة. 21- غريب الحديث. 22- المنتظم في تاريخ
الملوك والأمم. 23- بستان الواعظين ورياض السامعين .