المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحافظ ابن حجر العسقلاني (2)


adnan
03-10-2015, 08:20 PM
الأخت / الملكة نـــور



الحافظ ابن حجر العسقلاني (2)

رحلة ابن حجر العسقلاني في طلب العلم :
كان ابن حجر رحمه الله مع صغر سنه لا يألو جهدا في الرحلة إلى طلب
العلم وتحصيله، مهما كلفه ذلك من بعدٍ عن أهله وأولاده وأصحابه،
ومهما عانى من سفره من تعب ونصب . وقد عبَّر عن ذلك ابن حجر
نفسه بقوله :

وإذا الديار تنكرت سافرت في *** طلب المعارف هاجرا لدياري
وإذا أقمت فمؤنسي كتبي، فلا *** أنفك في الحالين من أسفاري [12]

فكانت أول رحلته إلى قوص وهو في العشرين من عمره، وبالتحديد سنة
793 هـ، حيث حطت رحاله في قوص في صعيد مصر [13].

وفي أواخر سنة 793 هـ كانت لابن حجر رحمه الله رحلة إلى الإسكندرية،
والتقى فيها ابن حجر بمجموعة من المحدثين والمسندين، منهم ابن
الخراط، وابن شافع الأزدي، وابن الحسن التونسي، والشمس الجزري.
وقد أورد ابن حجر ما لقيه من العلماء وما سمعه منهم وما وقع له من
النظم والمراسلات وغير ذلك في كتاب سماه "الدرر المضيئة من
فوائد إسكندرية" [14].

ثم كانت له رحلة إلى بلاد اليمن، وقد طاف ابن حجر رحمه الله معظم
بلاد اليمن طلبا للعلم وملاقاة لعلمائها، ومنهم شيخ اللغويين في زمانه
الفيروزآبادي، وقرأ عليه أشياء، وأعطاه النصف الثاني من تصنيفه
"القاموس المحيط"، لتعذر وجود باقيه حينئذٍ، وأذن له مع المناولة
في روايته عنه. ويذكر السخاوي أن ابن حجر رحمه الله كانت له رحلة
ثانية إلى اليمن وذلك سنة 806هـ، بعد أن جاور بمكة، فلقي فيها كثير
من العلماء، فحمل عنهم وحملوا عنه [15].

وكانت لابن حجر رحلة إلى الحجاز للحج والمجاورة، حيث الفرصة
سانحة للاشتغال والمذاكرة على ما يصادفونه هناك من العلماء والشيوخ
والمحدثين والمسندين، وكان آخر حجة حجها –رحمه الله- سنة 824هـ،
وفيها نزل بالمدرسة الأفضلية، أنزله فيها قاضي مكة المحب بن ظهيرة.
والتقى ابن حجر رحمه الله في منى ومكة والمدينة جمعا كبيرا من العلماء
والمحدثين والقضاة والأعيان، فقرأ عليهم وقرءوا عليه، وأخذوا عنه
بعض تصانيفه، وأجاز لهم بالرواية عنه [16].

ورحل ابن حجر –رحمه الله- إلى بلاد الشام في سنة 802هـ، وحثه على
الرحلة إليها شيخه محمد بن محمد بن محمد الجزري، وصحبه فيها قرينه
الزين شعبان، وسمع بسرياقوس وغزة ودمشق ونابلس وبيت المقدس
والخليل والصالحية، وغيرها من بلاد الشام، والتقى هناك بعدد غفير
من العلماء والمسندين، وفي رحلته لبيت المقدس يقول:

إلى البيت المقدس جئت أرجو *** جنان الخلد نزلا من كريم
قطعنا في مسافته عقابا *** وما بعد العقاب سوى النعيم

وفد برهن الحافظ ابن حجر رحمه الله في رحلته إلى الشام على كفاءة
نادرة تثير الدهشة، فلقد حصّل مع قضاء أشغاله- ما بين قراءة وسماع
من الكتب والمجلدات، منها: المعجم الكبير والأوسط للطبراني، والمعرفة
لابن منده، والسنن للدارقطني، وصحيح ابن خزيمة وابن حبان،
والاستيعاب لابن عبد البر وفضائل الأوقات للبيهقي ومكارم الأخلاق
للخرايطي والطهور لأبي عبيد، ومسند أبي يعلى. وغير ذلك كثير [17].

شيوخ ابن حجر العسقلاني :
قدّر للحافظ ابن حجر رحمه الله أن يجتمع له من العلماء والشيوخ
والحفاظ ما لم يجتمع لأقران زمانه، وأدرك من الشيوخ جماعة كل واحد
رأس في فنه الذي اشتهر به، "فالتنوخى في معرفَة القراءات، والعراقي
في الحَدِيث، والبلقيني فِي سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقن في
كثرة التصانيف، والمجد الفيروزآبادي صاحب القاموس في حفظ اللغة،
والعز بن جماعة في تفننه في علوم كثيرة، بحيث كان يقول: (أنا أقرأ
في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها " ([18].

وقد بلغ عدد شيوخه بالسّماع وبالإجازة وبالإفادة على ما بيَّن بخطه نحو
أربعمائة وخمسين نفسا، وإذا استثنينا الشيوخ الذين أجازوا عموما فقد
ترجم في "المجمع المؤسس" لأكثر من ستمائة شيخ، وذكر بعضهم أن
عدد شيوخه بلغ ستمائة نفس سوى من سمع منه من الأقران [19]. .

تلاميذ ابن حجر العسقلاني :
ظل ابن حجر –رحمه الله- في تفرده حتى أجمع العلماء على أنه حافظ
الإسلام وأمير المؤمنين في الحديث، الذي انتهت إليه معرفة الرجال
واستحضارهم، ومعرفة علل الحديث، وغير ذلك، وصار هو المعوّل
عليه في هذا الشأن في سائر الأقطار [20]، فأقبل عليه طلبة العلم
ينهلون من علمه ونهره، ولقد سرد السخاوي في الجواهر والدرر أسماء
جماعة كبيرة ممن أخذوا العلم على يد ابن حجر –رحمه الله- دراية
ورواية، وقد بلغوا ستمائة وست وعشرين اسما، وكان يذكر ما قرأه أو
ما سمعه التلميذ على الحافظ ابن حجر –رحمه الله [21]. .

وأبرز ما يلاحظ على هذه الأسماء التي أوردها السخاوي وغيره، أنهم
جاءوا من بقاع شتى من العالم الإسلامي، فمنهم المكي والشيرازي
والهروي والغرناطي والبغدادي، فضلا عن الشاميين والمصريين.
كما يلاحظ أنهم من مختلف المذاهب الفقهية، فمنهم الحنفي والمالكي
والشافعي والحنبلي، علمًا بأنه الحافظ ابن حجر شافعيّ المذهب .

ويمكن أن نبرز أشهر من تتلمذ على يد الحافظ ابن حجر رحمه الله
وشاع علمه في الآفاق، ومنهم:
ابن قاضي شهبة (ت 851 هـ)، صاحب طبقات الشافعية.

ابن فهد المكي (ت 871 هـ) صاحب لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ .

ابن تغري بردي (ت 874 هـ) صاحب النجوم الزاهرة في ملوك مصر
والقاهرة والمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي.

محمد الكافيجي الحنفي (ت 879 هـ)، صاحب المختصر في علم التاريخ،
والتيسير في قواعد علم التفسير.

وأخيرا تلميذه الوفي النبيه شمس الدين السخاوي (ت 902 هـ)، صاحب
الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، وكتاب الضوء اللامع لأهل القرن
التاسع، والجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر [22]. .

وظائف ابن حجر :
تصدر ابن حجر رحمه الله للإقراء والإملاء والتدريس والخطابة والقضاء،
على هذا النحو:

أولًا: الإملاء
شرع ابن حجر رحمه الله الإملاء في سنة 808 هـ، حيث أملى كتاب:
""الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع"، من حديثه عن شيوخه،
في ستة عشر مجلسا بالشيخونية. وكان آخر مجلس أملاه سنة 850 هـ.
بدار الحديث الكاملية، وجملة ما أملاه 1150 مجلسا، وبلغت عدد مجلدات
ما أملاه عشرة مجلدات، أملاه من حفظه مهذبة محررة متقنة [23].

ثانيًا: التدريس
اختص ابن حجر –رحمه الله- بالتدريس في أماكن متعددة كانت محلا
لتداريس في علوم شرعية، منها:

اشتغل بتدريس التفسير بالمدرسة الحسينية، والقبة المنصورية، وتدريس
الحديث بالشيخونية، وقبة الخانقاة البيبرسية، والمدرسة الجمالية
المستجدة، ودرّس الحديث كذلك بجامع ابن طولون سنة 833 هـ،
والقبة المنصورية، ومشيخة الحديث بالمدرسة الزينية سنة 851 هـ.
وتدريس الفقه بالشيخونية والمدرسة الشرفية الفخرية ، والمؤيدية سنة
822 هـ، والمدرسة الخروبية البدرية بمصر، والمدرسة الصالحية
المجاورة للإمام الشافعي سنة 846 هـ [24].

ثالثًا: الإفتاء والخطابة
ولي ابن حجر –رحمه الله- إفتاء دار العدل سنة 811 هـ، واستمرت هذه
الوظيفة معه حتى مات، فكان إلى فتاويه النهاية في الإيجاز مع حصول
الغرض، ولا سيما في المسائل التي لا نقل فيها. وكان يكتب في اليوم أكثر
من ثلاثين فتيا، وكان يكتب فتاويه ويجب على الأسئلة حتى وهو على
راحلته، دليل على تمكنه [25]. وأما الخطابة فقد تولى ابن حجر
–رحمه الله- الخطابة بالجامع الأزهر سنة 819 هـ، عوضا عن خطيبه
تاج الدين بن رزين، ثم تولى الخطابة بجامع عمرو بن العاص سنة
838هـ، وخطب بجامع القلعة بالسلطان، وخطب بـ الجامع
الأموي بدمشق.

وكان لخطبه وقع في القلوب وتأثير بعيد المدى،جعل السخاوي يقول:
"وأما خطبه فكان لها صدعا في القلوب، وتزداد وهو على المنبر في
المهابة والنور.. ما لا أستطيع وصفه بحيث كنت إذا نظرت إليه
وهو على المنبر يغلبني البكاء" [26].

رابعًا: القضاء
عرض على ابن حجر رحمه الله القضاء قبل انقضاء القرن، أي وله من
العمر سبع وعشرون سنة، إلا أنه امتنع؛ لأنه حينئذ كان لا يؤثر على
الاشتغال بالحديث شيئًا. وقد فوّض إليه الملك المؤيد القضاء بالشام
مرارا فأبى وأصر على الامتناع [27]. بيد أن موقفه –رحمه الله- تغير
نتيجة لإسناد بعض المهام المتعلقة بالقضاء إليه، وأيًا ما كان الأمر فقد
تولى الحافظ ابن حجر رحمه الله القضاء نيابة، وثم ما لبث أن تولاه
استقلالا في السابع والعشرين من المحرم سنة 827هـ ، وذلك بتفويض
من الملك الأشرف برسباي [28].

فباشر ذلك الحافظ ابن حجر –رحمه الله- بنزاهة وعفة وتواضع زائد،
واستجلاب لخاطر الصغير قبل الكبير، وتصميم في الأمور، وإحسان
للفقراء والطلبة، لكن كان بنكدٍ وعنادٍ وتعب وكثرة مُعارض وقلة إنصاف.
إلا أنه أحس بالندم بعد توليه القضاء؛ لأن أرباب الدولة لا يفرقون بين
أولي الفضل وغيرهم، ويبالغون في اللوم حيث ردت إشاراتهم .. واحتياج
القاصي إلى مداراة الكبير والصغير، بحيث لا يمكن مع ذلك القيام بكل ما
يرومه على وجه العدل [29]. ولم تدم مدة ولايته الأولى هذه في القضاء،
فقد صرف نفسه في ذي القعدة 827هـ، ويعلق ابن فهد المكي على ذلك
فيقول: " ولو استمر على ذلك لكان خيرا له في دينه ودنياه" [30].

وعلى كلٍ فإن ابن حجر رحمه الله ظل يولّى ثم يُصرف في منصب قاضي
القضاة، حتى صرف نفسه في السنة التي مات فيها، وذلك في يوم الاثنين
الثامن من ربيع الآخرة سنة 852هـ [31].

تبيَّن لنا أنا الحافظ ابن حجر رحمه الله كان يقوم بدور إصلاحيّ كبير
في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح ما أفسد في الحياة
الاجتماعية والسياسية والعامة، كل ذلك يحمله شعور بالمسئولية عظيم،
حتى أنه إذا رأى مع شخص وظيفة لا يستحقها اجتهد في استنزاله عنها،
و يباشرها قليلا ثم يرغب عنها لمن يستحقها ممن يكون فقيرا [32].

المراجع :
[12] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 142.

[13] ابن حجر: إنباء الغمر بأبناء العمر، جـ1/ 419.

[14] السخاوي: الجواهر والدرر، جا1/ 145- 146.

[15] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 146- 151.

[16] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 151- 154. محمد كمال الدين
عز الدين: التاريخ والمنهج التاريخي لابن حجر العسقلاني، الناشر:
دار اقرأ للنشر والتوزيع-يبروت، الطبعة: الأولى 1984م، ص126-127.

[17] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 176- 190. شاكر محمود
عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده
في كتابه الإصابة، جـ1/ 89- 91.

[18] البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، جـ1/88. ابن العماد
الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، جـ1/74.

[19] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ1/ 240. شاكر محمود عبد المنعم:
ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه
الإصابة، جـ1/93-94.

[20] ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 19.
ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، جـ1/ 74.

[21] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ3/ 1064- 1179.

[22] شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة
في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 107- 108.

[23] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ 2/ 581- 584. شاكر محمود
عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده
في كتابه الإصابة، جـ1/ 133.

[24] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 588- 600. محمد كمال الدين
عز الدين: ابن حجر مؤرخا، ص58- 62.

[25] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 600، 614.

[26] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 605- 609، 617.

[27] ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، جـ 1/ 212.

[28] ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 20.

[29] السخاوي: الجواهر والدرر، جـ2/ 620.

[30] ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، جـ1/ 212.

[31] ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جـ2/ 22.

[32] شاكر محمود عبد المنعم: ابن حجر العسقلاني – مصنفاته ودراسة
في منهجه وموارده في كتابه الإصابة، جـ1/ 156.