المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البخاري .. أمير رجال الحديث (1)


adnan
03-13-2015, 08:22 PM
الأخت / الملكة نـــور



البخاري .. أمير رجال الحديث (1)

لأنه الدين الخاتم، ولأنه الدين الذي ارتضاه رب العالمين لعباده على
الأرض، فقد تكفّل سبحانه بحفظه وإلى قيام الساعة، ومن ثم سخّر من
خلقه من يذبّ عنه قرآنًا وسنةً.

و بالنسبة إلى السنة ممثلة في الحديث النبوي الشريف ، فكونها المصدر
الثاني للتشريع الإسلامي ، و المنهل البياني له في تفصيل الأحكام المجملة
التي وردت فيه ، و تقييد المطلق و تخصيص العام ، و تأسيس الأحكام
التي لم ينص عليها القرآن .. فقد انبرى لتدوينها و تمييز صحيحها
من ضعيفها علماء أجلاء ، علموا قيمة العلم ، فبذلوا فيه جهدهم ،
و نذروا له نفوسهم و نفيسَهم ..

اشترك في ذلك العرب وغير العرب، ولم تمنعهم أصولهم من أن يقوموا
بدورهم على أكمل وجه، حتى في ذلك المجال الصعب..

في هذا السياق كان لنا أن نتوقف مع أمير أهل الحديث،
الإمام الجليل والمحدث العظيم ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري
.. أمير أهل الحديث ، وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، والذي
احتل مكانته في القلوب؛ حتى كان يقرأ في المساجد كما تُتلى المصاحف ..
قال هو عنه : " ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك
وصليت ركعتين " ، و قال أيضًا : " صنفت الصحيح في ست عشرة سنة
، و جعلته حجة فيما بيني و بين الله تعالى" [1] .

إنَّ تاريخ الإسلام لم يشهد مثله في قوة الحفظ، ودقة الرواية، والصبر
على البحث، مع قلة الإمكانات، حتى أصبح منارة في الحديث، وفاق
أقرانه وشيوخه على السواء، بل فاق كل العرب مع كونه ليس عربيًّا..!!

البخاري .. تربيةُ أمٍّ صالحة :
كانت البداية في بخارى (إحدى مدن أوزبكستان الآن)، وتحديدًا في ليلة
الجمعة 13من شوال، سنة 194هـ، حيث ولادته [2]..

وقد عرفت أسرته الإسلام عن طريق جده " المغيرة بن بردذبة "، فكان
أول من أسلم من أجداده ، و كان إسلامه على يد وإلى بخارى " اليمان
الجعفي " ؛ و لذلك نُسِب إلى قبيلته ، وانتمى إليها بالولاء ، و أصبح "
الجعفي" نسبًا له و لأسرته من بعده .

وكان قدر الله أن يموت والد البخاري وهو مازال طفلاً صغيرًا، لينشأ يتيمًا
في حجر أمه، التي قامت على تربيته أحسن تربية.. لتُري أمهات
المسلمين -والأرامل منهن خاصة- كيف تكون تربية الأبناء.. وما هو
دور الأم في جهادها لرفعة الأمة والنهوض بها..؟!

لم تكن بداية البخاري الطفل ككل الأبناء؛ إذ ابتلاه الله هز وجل في صباه
بفقدان بصره!! ولكنَّ أمه الصالحة لم تنقطع صلتُها بربها، وكانت تتودد
إليه ليل نهار، وهي تدعوه سبحانه راجية أن يرد على صبيها بصره..
ويشاء الله أن يسمع دعاءها، فيأتيها إبراهيم عليه السلام يبشرها في
المنام يقول لها: "يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره لكثرة دعائك"!!

فأصبح البخاري وقد ردّ الله عليه بصره، بحسن صلة أمه بربها،
وبركة دعائها له [3]..!!

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أنعم الله عز وجل عليه وهو مازال
في طفولته بالنجابة والذكاء، ووهبه سبحانه ذاكرةً قويَّة، قلَّما وهبها
غيرَه، حتى كان آية في الحفظ ..

وقد زادت أمه من العناية به ، و تعهدته بالرعاية والتعليم والصلاح،
فكانت تدفعه إلى العلم وتحببه فيه ، وتزين له أبواب الخير.. فنشأ البخاريُّ
مستقيمَ النفس، متين الخلق، محبًا للعلم، مقبلاً على الطاعة .. حتى ما كاد
يتم العاشرة إلا وكان قد حفظ القرآن الكريم ، و بدأ يتردد على الشيوخ
و المحدثين ..

يقول محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله (البخاري) : كيف كان بدء
أمرك؟ قال: أُلهِمتُ حفظ الحديث وأنا في المكتب (الكُتَّاب). فقلت: كم كان
سنك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من المكتب بعد العشر، فجعلت
أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: سفيان
عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت له : إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم،
فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل ، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي :
كيف هو يا غلام؟ قلت : هو الزبير بن عدي عن إبراهيم ، فأخذ القلم مني
وأحكم (أصلح) كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخاري : ابن كم كنت حين
رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة!![4] .

وما كاد البخاري يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى حفظ كتب
ابن المبارك ووكيع ، وغيرها من كتب الأئمة المحدثين ، حتى بلغ
محفوظه آلاف الأحاديث و هو لا يزال غلامًا .. و كانت بخارى آنذاك
مركزًا من مراكز العلم ، تمتلئ بحلقات المحدِّثين و الفقهاء [5] .

رحلة العلم .. و ما زال دور الأم :
في مرحلة جديدة .. و في دور جديد لأمه في إحكام تربيته و نشأته..
أخذته وهو في سن السادسة عشرة هو و أخًا له يدعى أحمد إلى
مكة للحج ..

كانت فرصة عظيمة عند البخاري الصغير ليحج، ثم تتفتح له آفاقٌ أوسع
من أبواب العلم ينهل منها .. و قد تمَّ له ذلك ؛ فلما أَدَّوا جميعًا مناسك
الحج ، تخلَّف هو لطلب الحديث و الأخذ عن الشيوخ ، ورجعت أمه
و أخوه إلى بخارى [6] ..

وعلى ما يبدو ؛ فإن أمه هي التي كانت صاحبة هذه الفكرة، في أن يحج ،
ثم يظل يأخذ العلم بلسان العرب ومن منبعه ورافده الأول .. فهي بصدد
إعداده لا ليرجع فيعلم قومه و أهل بلده فقط، و إنما ليعود فيُعلِّم الدنيا

وفي الحرمين الشريفين، كانت بداية رحلة البخاري في طلب العلم،
وقد ظل بهما ستة أعوام، ينهل من الشيوخ والعلماء، انطلق بعدها متنقلاً
بين حواضر العالم الإسلامي.. يجالس العلماء ويحاور المحدِّثين، ويجمع
الحديث، ويعقد مجالس للتحديث، ويتكبد مشاق السفر والانتقال.. لم يترك
حاضرة من حواضر العلم إلا نزل بها وروى عن شيوخها، وربما حلَّ
بالبلد الواحد مرات عديدة، يغادره ثم يعود إليه مرة أخرى ..

وكان من الحواضر الإسلامية التي نهل منها وأخذ من شيوخها غير مكة
والمدينة، بغداد و واسط، و البصرة ، و الكوفة، ودمشق، و قيسارية،
وعسقلان، و خراسان، وبلخ، ونيسابور، ومرو، و هراة ،
و مصر، وغيرها ..

وفي مثال يدل على عجب أقرانه منه وهو خارج موطنه، يقول محمد
بن أبي حاتم الوراق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان
أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب،
حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما
تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: إنكما قد أكثرتما عليّ وألححتما،
فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة
عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا
من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرًا وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه
لا يتقدمه أحد [7] .

وعن رحلاته في طلب العلم يقول البخاري: "دخلت إلى الشام ومصر
والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام،
ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد" [8] .

شيوخ الإمام البخاري :
فلم يكن غريبًا إذن أن يزيد عدد شيوخ البخاري عن ألف شيخ من الثقات
الأعلام!! وتراه هو يعبر عن ذلك فيقول: "كتبت عن ألف شيخٍ وأكثر،
ما عندي حديث إلا أذكر إسناده"!! [9].

ويحدد عدد شيوخه فيقول: "كتبت عن ألف وثمانين نفسًا، ليس فيهم إلا
صاحب حديث، كانوا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" [10] .

وكان من شيوخ الإمام البخاري المعروفين والذين روى عنهم :
أحمد بن حنبل، ويذكره البخاري ممتنًا فيقول : " قال لي في آخر
ما ودَّعته: يا أبا عبد الله، تدع العلم والناس وتصير إلى خراسان ؟ قال:
فأنا الآن أذكر قوله. وكان من شيوخه أيضًا يحيى بن معين ، وإسحاق
بن راهويه، وعلي بن المديني، وقتيبة بن سعيد ، و أبو بكر بن أبي
شيبة، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم [11]..

المراجع :
[1] أبو الحجاج المزي: تهذيب الكمال 24/443،449.

[2] الذهبي: الكاشف 2/156.

[3] ابن حجر: فتح الباري 1/478.

[4] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/7،6.

[5] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/7،6.

[6] ابن حجر: فتح الباري 1/478.

[7] ابن حجر: فتح الباري 1/478.

[8] ابن حجر: فتح الباري 1/ 478.

[9] ابن عساكر: تاريخ دمشق 52/58.

[10] ابن حجر: فتح الباري 1/ 479.