المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثم دخلت سنة ثنين وعشرين ومائة


adnan
03-27-2015, 02:45 PM
الأخ / مصطفى آل حمد



ثم دخلت سنة ثنين وعشرين ومائة
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله

ففيها
كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك
أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة
بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك‏.‏

فانطلق رجل يقال له‏:‏ سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق
فأخبره - وهو بالحيرة يومئذ - خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل
الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه‏.‏

فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له‏:‏ ما قولك
يرحمك الله في أبي بكر وعمر‏؟‏فقال‏:‏ غفر الله لهما، ما سمعت أحداً من
أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيراً‏.‏قالوا‏:‏ فلم تطلب إذا بدم
أهل البيت‏؟‏فقال‏:‏ إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا
به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، قد ولوا فعدلوا، وعملوا
بالكتاب والسنة‏.‏قالوا‏:‏ فلم تقاتل هؤلاء إذا‏؟‏ قال‏:‏ إن هؤلاء ليسوا كأولئك،
إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة
نبيه صلى الله عليه وسلم، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن
خيراً لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل‏.‏فرفضوه وانصرفوا عنه
ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا‏:‏ الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من
الناس على قوله سموا‏:‏ الزيدية‏.‏

وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب
الزيدية، وفي مذهبهم حق، وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم
علي عليهما، وليس علي مقدماً عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي
أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة، وقد ذكرنا ذلك
في سيرة أبي بكر وعمر فيما تقدم‏.‏

ثم إن زيداً عزم على الخروج بمن بقي معه من أصحابه، فواعدهم ليلة
الأربعاء من مستهل صفر من هذه السنة‏.‏فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب
إلى نائبه على الكوفة وهو‏:‏ الحكم بن الصلت يأمره بجمع الناس كلهم
في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم الثلاثاء سلخ المحرم، قبل
خروج زيد بيوم‏.‏وخرج زيد ليلة الأربعاء في برد شديد، ورفع أصحابه
النيران وجعلوا ينادون‏:‏ يا منصور يا منصور، فلما طلع الفجر إذا قد
اجتمع معه مائتان وثمانية عشر رجلاً‏.‏فجعل زيد يقول‏:‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏
أين الناس‏؟‏ فقيل‏:‏ هم في المسجد محصورون‏.‏ وكتب الحكم إلى يوسف
يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش
مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضاً في طائفة كبيرة من الناس،
فالتقى بمن معه جرثومة منهم فيهن خمسمائة فارس، ثم أتى الكناسة
فحمل على جمع من أهل الشام فهزمهم، ثم اجتاز بيوسف بن عمر وهو
واقف فوق تل، وزيد في مائتي فارس ولو قصد يوسف بن عمر لقتله،
ولكن أخذ ذات اليمين، وكلما لقي طائفة هزمهم‏.‏

وجعل أصحابه ينادون‏:‏ يا أهل الكوفة اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا،
فإنكم لستم في دين ولا عز ولا دنيا‏.‏ ثم لما أمسوا انضاف إليه جماعة من
أهل الكوفة، وقد قتل بعض أصحابه في أول يوم‏.‏فلما كان اليوم الثاني
اقتتل هو وطائفة من أهل الشام فقتل منهم سبعين رجلاً، وانصرفوا عنه
بشرِّ حال‏.‏ وأمسوا فعبأ يوسف بن عمر جيشه جداً، ثم أصبحوا فالتقوا مع
زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى
بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله حتى أخذوا على المسناة ثم اقتتلوا
هناك قتالاً شديداً جداً، حتى كان جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب
جهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل
الشام أنهم رجعوا إلا لأجل المساء والليل‏.‏

وأدخل زيد في دار في سكة البريد، وجيء بطبيب فانتزع ذلك السهم من
جبهته، فما عدا أن انتزعه حتى مات في ساعته رحمه الله‏.‏ فاختلف
أصحابه أين يدفنونه، فقال بعضهم‏:‏ ألبسوه درعه وألقوه في الماء‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ احتزوا رأسه واتركوا جثته في القتلى‏.‏ فقال ابنه‏:‏ لا والله
لا تأكل أبي الكلاب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ادفنوه في العباسية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏
ادفنوه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين ففعلوا ذلك، وأجروا على قبره
الماء لئلا يعرف‏.‏ وانفتل أصحابه حيث لم يبق لهم رأس يقاتلون به، فما
أصبح الفجر ولهم قائمة ينهضون بها، وتتبع يوسف بن عمر الجرحى هل
يجد زيداً بينهم، وجاء مولى لزيد سندي قد شهد دفنه فدل على قبره فأخذ
من قبره، فأمر يوسف بن عمر بصلبه على خشبة بالكناسة، ومعه نضر
بن خزيمة، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، وزياد
النهدي‏.‏ويقال‏:‏ إن زيداً مكث مصلوباً أربع سنين، ثم أنزل بعد ذلك
وأحرق، فالله أعلم‏.‏

وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الطبري‏:‏
أن يوسف بن عمر لم يعلم بشيء من ذلك حتى كتب له هشام بن عبد الملك‏:‏
إنك لغافل، وإن زيد بن علي غارز ذنبه بالكوفة يبايع له، فألح في طلبه
وأعطه الأمان، وإن لم يقبل فقاتله‏.‏

فتطلبه يوسف حتى كان من أمره ما تقدم، فلما ظهر على قبره حز رأسه
وبعثه إلى هشام، وقام من بعده الوليد بن يزيد فأمر به فأنزل وحرق
في أيامه، قبح الله الوليد بن يزيد‏.‏ فأما ابنه يحيى بن زيد بن علي فاستجار
بعبد الملك بن بشر بن مروان، فبعث إليه يوسف بن عمر يتهدده حتى
يحضره‏.‏ فقال له عبد الملك بن بشر‏:‏ ما كنت لآوي مثل هذا الرجل وهو
عدونا وابن عدونا‏.‏ فصدقه يوسف بن عمر في ذلك، ولما هدأ الطلب عنه
سيَّره إلى خراسان فخرج يحيى بن زيد في جماعة من الزيدية إلى
خراسان فأقاموا بها هذه المدة‏.‏

قال أبو مخنف‏:‏
ولما قتل زيد خطب يوسف بن عمر أهل الكوفة فتهددهم
وتوعدهم وشتمهم‏.‏

وقال لهم فيما قال‏:‏ والله لقد استأذنت أمير المؤمنين في قتل خلق منكم،
ولو أذن لي لقتلت مقاتلكم وسبيت ذراريكم، وما صعدت لهذا المنبر
إلا لأسمعكم ما تكرهون‏.‏ ‏

قال ابن جرير‏:‏
وفي هذه السنة قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض
الروم، ولم يزد ابن جرير على هذا، وقد ذكر هذا الرجل الحافظ
ابن عساكر في تاريخه الكبير فقال‏:‏عبد الله أبو يحيى المعروف‏:‏ بالبطال
كان ينزل إنطاكية، حكى عنه أبو مروان الأنطاكي، ثم روى بإسناده أن
عبد الملك بن مروان حين عقد لابنه مسلمة على غزو بلاد الروم، ولى
على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطال، وقال لابنه‏:‏ سيره على طلائعك،
وأمره فليعس بالليل العسكر، فإنه أمين ثقة مقدام شجاع‏.‏وخرج معهم
عبد الملك يشيعهم إلى باب دمشق‏.‏قال‏:‏ فقدم مسلمة البطال على عشرة
آلاف يكونون بين يديه ترساً من الروم أن يصلوا إلى جيش المسلمين‏.‏

قال محمد بن عائذ الدمشقي‏:
‏ ثنا الوليد بن مسلمة، حدثني أبو مروان، - شيخ من أهل إنطاكية - قال‏:‏
كنت أغازي مع البطال وقد أوطأ الروم ذلاً‏.‏قال البطال‏:‏ فسألني بعض ولاة
بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي فيهم، فقلت له‏:‏ خرجت
في سرية ليلاً فدفعنا إلى قرية فقلت لأصحابي‏:‏ أرخوا لجم خيلكم ولا
تحركوا أحداً بقتل ولا بشيء حتى تستمكنوا من القرية ومن سكانها،
ففعلوا وافترقوا في أزقتها‏.‏

فدفعت في أناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت
ابنها من بكائه، وهي تقول له‏:‏ لتسكتنَّ أو لأدفعنك إلى البطال يذهب بك،
وانتشلته من سريره وقالت‏:‏ خذه يا بطال، قال‏:‏ فأخذته‏.‏

وروى محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم،
عن أبي مروان الأنطاكي، عن البطال، قال‏:‏
انفردت مرة ليس معي أحد من الجند، وقد سمطت خلفي مخلاة فيها
شعير، ومعي منديل فيه خبز وشواء، فبينا أنا أسير لعلي ألقى أحداً
منفرداً، أو أطلع على خبر، إذا أنا ببستان فيه بقول حسنة، فنزلت و أكلت
من ذلك البقل بالخبز والشواء مع النقل، فأخذني إسهال عظيم قمت
منه مراراً‏.‏

فخفت أن أضعف من كثرة الإسهال، فركبت فرسي والإسهال مستمر على
حاله، وجعلت أخشى إن أنا نزلت عن فرسي أن أضعف عن الركوب،
وأفرط بي الإسهال في السير حتى خشيت أن أسقط من الضعف، فأخذت
بعنان الفرس ونمت على وجهي لا أدري أين يسير الفرس بي‏.‏ فلم أشعر
إلا بقرع نعاله على بلاط، فأرفع رأسي فإذا دير، وإذا قد خرج منه نسوة
صحبة امرأة حسناء جميلة جداً، فجعلت تقول بلسانها‏:‏ أنزلنه، فأنزلنني
فغسلن عني ثيابي وسرجي وفرسي، ووضعنني على سرير وعملن لي
طعاماً وشراباً، فمكثت يوماً وليلة مستوياً، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى
ترد إلي حالي‏.‏

فبينا أنا كذلك إذ أقبل البطريق وهو يريد أن يتزوجها، فأمرت بفرسي
فحول وعلق على الباب الذي أنا فيه، وإذا هو بطريق كبير فيهم، وهو
إنما جاء لخطبتها، فأخبره من كان هنالك بأن هذا البيت فيه رجل وله
فرس، فهمَّ بالهجوم عليَّ فمنعته المرأة من ذلك، وأرسلت تقول له‏:‏ إن
فتح عليه الباب لم أقض حاجته، فثناه ذلك عن الهجوم عليَّ، وأقام
البطريق إلى آخر النهار في ضيافتهم، ثم ركب فرسه وركب معه
أصحابه وانطلق‏.‏

قال البطال‏:‏
فنهضت في أثرهم فهمَّت أن تمنعني خوفاً عليَّ منهم فلم أقبل، وسقت
حتى لحقتهم، فحملت عليه فانفرج عنه أصحابه، وأراد الفرار فألحقه
فأضرب عنقه واستلبته وأخذت رأسه مسمطاً على فرسي، ورجعت إلى
الدير، فخرجن إلي ووقفن بين يدي، فقلت‏:‏ اركبن، فركبن ما هنالك من
الدواب وسقت بهن حتى أتيت أمير الجيش فدفعتهن إليه، فنفلني ما شئت
منهن، فأخذت تلك المرأة الحسناء بعينها، فهي أم أولادي‏.‏

والبطريق في لغة الروم‏:
‏ عبارة عن الأمير الكبير فيهم، وكان أبوها بطريقاً كبيراً فيهم - يعني‏:‏ تلك
المرأة - وكان البطال بعد ذلك يكاتب أباها ويهاديه‏.‏

وذكر أن عبد الملك بن مروان لما ولاه المصيصة بعث البطال سرية إلى
أرض الروم، فغاب عنه خبرها فلم يدر ما صنعوا، فركب بنفسه وحده على
فرس له وصار حتى وصل عمورية، فطرق بابها ليلاً، فقال له البواب‏:‏
من هذا‏؟‏ قال البطال‏:‏ فقلت أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق، فأخذ
لي طريقاً إليه، فلما دخلت عليه إذا هو جالس على سرير فجلست معه
على السرير إلى جانبه، ثم قلت له‏:‏ إني قد جئتك في رسالة فمر هؤلاء
فلينصرفوا، فأمر من عنده فذهبوا‏.‏قال‏:‏ ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي
وعليه، ثم جاء فجلس مكانه، فاخترطت سيفي وضربت به رأسه صفحاً‏.‏
وقلت له‏:‏ أنا البطال فأصدقني عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا
ضربت عنقك الساعة، فأخبرني ما خبرها‏.‏فقال‏:‏ هم في بلادي ينتهبون ما
تهيأ لهم، وهذا كتاب قد جاءني يخبر أنهم في وادي كذا وكذا، والله لقد
صدقتك‏.‏ فقلت‏:‏ هات الأمان، فأعطاني الأمان‏.‏ فقلت‏:‏ إيتني بطعام، فأمر
أصحابه فجاؤوا بطعام فوضع لي، فأكلت فقمت لأنصرف‏.‏

فقال لأصحابه‏:‏ اخرجوا بين يدي رسول الملك، فانطلقوا يتعادون بين
يدي، وانطلقت إلى ذلك الوادي الذي ذكر فإذا أصحابي هنالك، فأخذتهم
ورجعت إلى المصيصة‏.‏ فهذا أغرب ما جرى‏.‏

قال الوليد‏:‏
وأخبرني بعض شيوخنا أنه رأى البطال وهو قافل من حجته، وكان قد
شغل بالجهاد عن الحج، وكان يسأل الله دائماً الحج ثم الشهادة، فلم يتمكن
من حجة الإسلام إلا في السنة التي استشهد فيها رحمه الله تعالى‏.‏
وكان سبب شهادته أن اليون ملك الروم خرج من القسطنطينية في مائة
ألف فارس، فبعث البطريق - الذي‏:‏ البطال متزوج بابنته التي ذكرنا أمرها
- إلى البطال يخبره بذلك، فأخبر البطال أمير عساكر المسلمين بذلك، وكان
الأمير مالك بن شبيب‏.‏

وقال له‏:‏ المصلحة تقتضي أن نتحصن في مدينة حران، فنكون بها حتى
يقدم علينا سليمان بن هشام في الجيوش الإسلامية‏.‏ فأبى عليه ذلك
ودهمهم الجيش، فاقتتلوا قتالاً شديداً والأبطال تحوم بين يدي البطال
ولا يتجاسر أحد أن ينوه باسمه خوفاً عليه من الروم‏.‏

فاتفق أن ناداه بعضهم وذكر اسمه غلطاً منه، فلما سمع ذلك فرسان الروم
حملوا عليه حملة واحدة، فاقتلعوه من سرجه برماحهم فألقوه إلى
الأرض، ورأى الناس يقتلون ويأسرون، وقتل الأمير الكبير مالك
بن شبيب، وانكسر المسلمون وانطلقوا إلى تلك المدينة الخراب
فتحصنوا فيها‏.‏

وأصبح ليون فوقف على مكان المعركة فإذا البطال بآخر رمق، فقال له
ليون‏:‏ ما هذا يا أبا يحيى‏؟‏ فقال‏:‏ هكذا تقتل الأبطال‏.‏ فاستدعى ليون
بالأطباء ليداووه فإذا جراحه قد وصلت إلى مقاتله‏.‏ فقال له ليون‏:‏ هل
من حاجة يا أبا يحيى‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فأمر من معك من المسلمين أن يلوا
غسلي والصلاة علي ودفني‏.‏ ففعل الملك ذلك وأطلق لأجل ذلك أولئك
الأسارى‏.‏ وانطلق ليون إلى جيش المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم،
فبينما هم في تلك الشدة والحصار إذ جائتهم البرد بقدوم سليمان بن هشام
في الجيوش الإسلامية، ففر ليون في جيشه الخبيث هارباً راجعاً إلى
بلاده، قبحه الله، فدخل القسطنطينية وتحصن بها‏.‏

قال خليفة بن خياط‏:‏
كانت وفاة البطال ومقتله بأرض الروم في سنة إحدى وعشرين ومائة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏
في سنة ثنتين وعشرون ومائة‏.‏

وقال ابن حسان الزيادي‏:‏
قتل في سنة ثلاث عشرة ومائة‏.‏

وقيل‏:‏ قد قال غيره‏:‏ وإنه قتل هو والأمير عبد الوهاب بن بخت في سنة
ثلاث عشر ومائة كما ذكرنا ذلك، فالله أعلم، ولكن ابن جرير لم يؤرخ
وفاته إلا في هذه السنة، فالله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ فهذا ملخص ابن عساكر في ترجمة البطال مع تفصيلة للأخبار
واطلاعه عليها، وأما ما يذكره العامة عن البطال من السيرة المنسوبة
إلى دلهمة والبطال والأمير عبد الوهاب والقاضي عقبة، فكذب وافتراء
ووضع بارد، وجهل وتخبط فاحش، لا يروج ذلك إلا على غبي أو جاهل
ردي‏.‏ كما يروج عليهم سيرة عنترة العبسي المكذوبة، وكذلك سيرة
البكري والدنف وغير ذلك، والكذب المفتعل في سيرة البكري أشد إثماً
وأعظم جرماً من غيرها، لأن واضعها يدخل
في قول النبي صلى الله عليه و سلم‏:

‏ ‏(‏‏ ‏من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار‏ ‏‏)‏‏.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏
إياس الذكي
وهو إياس بن معاوية بن مرة بن إياس بن هلال بن رباب بن عبيد
بن دريد بن أوس بن سواه بن عمرو بن سارية بن ثعلبة بن ذبيان
بن ثعلبة بن أوس بن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة بن إلياس
بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هكذا نسبه خليفة بن خياط،
وقيل غير ذلك في نسبه‏.‏

وهو أبو واثلة المزني قاضي البصرة، وهو تابعي، ولجده صحبة، وكان
يضرب المثل بذكائه‏.‏ روى عن‏:‏ أبيه، عن جده، مرفوعاً في الحياء، وعن
أنس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ونافع، وأبي مجلز‏.‏ وعنه‏:‏
الحمادان، وشعبة، والأصمعي، وغيرهم‏.‏

قال عنه محمد بن سيرين‏:‏
إنه لفهمٌ إنه لفهمٌ‏.‏

وقال محمد بن سعد والعجلي وابن معين والنسائي‏:
‏ ثقة‏.‏

زاد ابن سعد‏:‏
وكان عاقلاً من الرجال فطناً‏.‏

وزاد العجلي‏:‏
وكان فقيهاً عفيفاً‏.‏

وقدم دمشق في أيام عبد الملك بن مروان، ووفد على عمر بن عبد
العزيز، ومرة أخرى حين عزله عدي بن أرطأة عن قضاء البصرة‏.‏

قال أبو عبيدة وغيره‏:‏
تحاكم إياس وهو صبي شاب وشيخ إلى قاضي عبد الملك بن مروان
بدمشق، فقال له القاضي‏:‏ إنه شيخ وأنت شاب فلا تساوه في الكلام‏.‏
فقال إياس‏:‏ إن كان كبيراً فالحق أكبر منه‏.‏ فقال له القاضي‏:‏ اسكت‏.‏
فقال‏:‏ ومن يتكلم بحجتي إذا سكت‏؟‏ فقال القاضي‏:‏ ما أحسبك تنطق بحق
في مجلسي هذا حتى تقوم‏.‏ فقال إياس‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، زاد غيره‏.‏
فقال القاضي‏:‏ ما أظنك إلا ظالماً له‏.‏ فقال‏:‏ ما على ظن القاضي خرجت من
منزلي‏.‏ فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره خبره فقال‏:‏ اقض
حاجته وأخرجه الساعة من دمشق لا يفسد على الناس‏.‏

وقال بعضهم‏:‏
لما عزله عدي بن أرطأة عن قضاء البصرة فرَّ منه إلى عمر بن
عبد العزيز فوجده قد مات، فكان يجلس في حلقة في جامع دمشق، فتكلم
رجل من بني أمية فرد عليه إياس، فأغلط له الأموي فقام إياس، فقيل
للأموي‏:‏ هذا إياس بن معاوية المزني، فلما عاد من الغد اعتذر له الأموي
وقال‏:‏ لم أعرفك، وقد جلست إلينا بثياب السوقة وكلمتنا بكلام الأشراف
فلم نحتمل ذلك‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏
حدثنا نعيم بن حماد، ثنا ضمرة، عن أبي شوذب، قال‏:‏ كان يقال‏:‏ يولد
في كل مائة سنة رجل تام العقل، فكانوا يرون أن إياس بن معاوية منهم‏.‏
وقال العجلي‏:‏ دخل على إياس ثلاث نسوة فلما رآهن قال‏:‏ أما إحداهن
فمرضع، والأخرى بكر، والأخرى ثيب، فقيل له‏:‏ بم علمت هذا‏؟‏
فقال‏:‏ أما المرضع فكلما قعدت أمسكت ثديها بيدها، وأما البكر فكلما دخلت
لم تلتفت إلى أحد، وأما الثيب فكلما دخلت نظرت ورمت بعينها‏.‏

وقال يونس بن صعلب‏:‏
ثنا الأحنف بن حكيم بأصبهان، ثنا حماد بن سلمة، سمعت إياس
بن معاوية، يقول‏:‏ أعرف الليلة التي ولدت فيها، وضعت أمي على
رأسي جفنة‏.‏

وقال المدائني‏:
‏ قال إياس بن معاوية لأمه‏:‏ ما شيء سمعتيه وأنت حامل بي
وله جلبة شديدة‏؟‏ قالت‏:‏ ذاك طست من نحاس سقط من فوق الدار
إلى أسفل، ففزعت فوضعتك تلك الساعة‏.‏

وقال أبو بكر الخرائطي‏:‏
عن عمر بن شيبة النميري، قال‏:‏ بلغني أن إياساً قال‏:‏ ما يسرني أن أكذب
كذبة يطلع عليها أبي معاوية‏.‏ وقال‏:‏ ما خاصمت أحداً من أهل الأهواء
بعقلي كله إلا القدرية، قلت لهم‏:‏ أخبروني عن الظلم ما هو‏؟‏ قالوا‏:‏ أخذ
الإنسان ما ليس له‏.‏ قلت‏:‏ فإن الله له كل شيء‏.‏ قال بعضهم‏:‏ عن إياس،
قال‏:‏ كنت في الكتاب وأنا صبي فجعل أولاد النصارى يضحكون من
المسلمين ويقولون‏:‏ إنهم يزعمون أنه لا فضلة لطعام أهل الجنة، فقلت
للفقيه - وكان نصرانياً - ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء
البدن‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قلت‏:‏ فما ينكر أن يجعل الله طعام أهل الجنة كله غذاء
لأبدانهم‏؟‏ فقال له معلمه‏:‏ ما أنت إلا شيطان‏.‏

وهذا الذي قاله إياس وهو صغير بعقله قد ورد به الحديث الصحيح كما
سنذكره إن شاء الله في أهل الجنة أن طعامهم ينصرف جشاء وعرقاً
كالمسك، فإذا البطن ضامر‏.‏ وقال سفيان‏:‏ وحين قدم إياس واسط فجاءه
ابن شبرمة بمسائل قد أعدها، فقال له‏:‏ أتأذن لي أن أسألك‏؟‏ قال‏:‏ سل‏.‏
وقد ارتبت حين استأذنت، فسأله عن سبعين مسألة يجيبه فيها، ولم يختلفا
إلا في أربع مسائل، رده إياس إلى قوله‏.‏ ثم قال له إياس‏:‏ أتقرأ القرآن‏؟‏
قال‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ أتحفظ قوله‏:

‏ ‏{ ‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ }‏
‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ وما قبلها وما بعدها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ فهل أبقت هذه الآية
لآل شبرمة رأياً‏؟‏

وقال عباس‏:‏
عن يحيى بن معين، حدثنا سعيد بن عامر بن عمر بن علي، قال‏:‏ قال رجل
لإياس بن معاوية‏:‏ يا أبا واثلة حتى متى يبقى الناس‏؟‏ وحتى متى يتوالد
الناس ويموتون‏؟‏ فقال لجلسائه‏:‏ أجيبوه‏.‏ فلم يكن عندهم جواب‏.‏
فقال إياس‏:‏ حتى تتكامل العدتان‏:‏ عدة أهل الجنة، وعدة أهل النار‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ اكترى إياس بن معاوية من الشام قاصداً الحج، فركب معه
في المحارة غيلان القدري، ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثاً لا يكلم
أحدهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما
من اجتماعه مع صاحبه، لمباينة ما بينها في الاعتقاد في القدر‏.‏
فقال له إياس‏:‏ هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة‏:‏

‏{‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ‏ }‏
‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏

ويقول أهل النار‏:‏

‏{‏ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏ }‏
‏[‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏

وتقول الملائكة‏:‏

‏{ ‏سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ‏}
‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏

ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه إثبات القدر، ثم اجتمع
مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن عبد العزيز فناظر بينهما فقهره
إياس، ومازال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر
التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذباً، فاستجاب الله منه
فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك، ولله الحمد والمنة‏.‏

ومن كلام إياس الحسن‏:‏ لأن يكون في فعال الرجال فضل عن مقاله خير
من أن يكون في مقاله فضل عن فعاله‏.‏

وقال سفيان بن حسين‏:‏ ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر
في وجهي، وقال‏:‏ أغزوت الروم‏؟‏ قلت‏:‏ لا ‏!‏ قال‏:‏ السند والهند والترك‏؟‏
قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أفسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك
المسلم‏؟‏ قال‏:‏ فلم أعد بعدها‏.‏

وقال الأصمعي، عن أبيه‏:‏
رأيت إياس بن معاوية في بيت ثابت البناني، وإذا هو أحمر طويل الذراع
غليظ الثياب، يلون عمامته، وهو قد غلب على الكلام فلا يتكلم معه أحد
إلا علاه‏.‏ وقد قال له بعضهم‏:‏ ليس فيك عيب سوى كثرة كلامك‏.‏ فقال‏:‏
بحق أتكلم أم بباطل‏؟‏ فقيل‏:‏ بل بحق‏.‏ فقال‏:‏ كلما كثر الحق فهو خير‏.‏
ولامه بعضهم في لباسه الثياب الغليظ فقال‏:‏ إنما ألبس ثوباً يخدمني
ولا ألبس ثوباً أخدمه‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏
قال إياس بن معاوية‏:‏ إن أشرف خصال الرجل صدق اللسان، ومن عدم
فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ سأل رجل إياساً عن
النبيذ فقال‏:‏ هو حرام‏.‏ فقال الرجل‏:‏ فأخبرني عن الماء‏؟‏ فقال‏:‏ حلال‏.‏
قال‏:‏ فالكسور، قال‏:‏ حلال‏.‏ قال‏:‏ فالتمر، قال‏:‏ حلال‏.‏ قال‏:‏ فما باله إذا
اجتمع حرم‏؟‏ فقال إياس‏:‏ أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب
أتوجعك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهذه الحفنة من التبن‏؟‏ قال‏:‏ لا توجعني‏.‏
قال‏:‏ فهذه الغرفة من الماء‏؟‏ قال‏:‏ لا توجعني شيئاً‏.‏

قال‏:‏ أفرأيت إن خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طيناً ثم تركته حتى
استحجر ثم رميتك أيوجعك‏؟‏ قال‏:‏ أي والله وتقتلني‏.‏ قال‏:‏ فكذلك تلك
الأشياء إذا اجتمعت‏.‏

وقال المدائني‏:‏
بعث عمر بن عبد العزيز عدي بن أرطأة على البصرة نائباً وأمره أن
يجمع بين إياس والقاسم بن ربيعة الجوشني، فأيهما كان أفقه فليوله
القضاء‏.‏ فقال إياس وهو يريد أن لا يتولى‏:‏ أيها الرجل سل فقيهي
البصرة‏:‏ الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما، فعرف القاسم أنه
إن سألهما أشارا به - يعني‏:‏ بالقاسم - لأنه كان يأيتيهما‏.‏

فقال القاسم لعدي‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو إن إياساً أفضل مني وأفقه
مني، وأعلم بالقضاء، فإن كنت صادقاً فولِّه، وإن كنت كاذباً فما ينبغي أن
تولي كاذباً القضاء‏.‏ فقال إياس‏:‏ هذا رجل أوقف على شفير جهنم فافتدى
منها بيمين كاذبة يستغفر الله‏.‏ فقال عدي‏:‏ أما إذ فطنت إلى هذا فقد وليتك
القضاء‏.‏ فمكث سنة يفصل بين الناس ويصلح بينهم، وإذا تبين له الحق
حكم به، ثم هرب إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق فاستعفاه القضاء، فولى
عدي بعده الحسن البصري‏.‏ قالوا‏:‏ لما تولى إياس القضاء بالبصرة فرح
به العلماء حتى قال أيوب‏:‏ لقد رموها بحجرها‏.‏ وجاءه الحسن
وابن سيرين فسلما عليه، فبكى إياس وذكر الحديث‏:‏

‏(‏‏ القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار وواحد في الجنة‏ ‏‏)‏‏.‏

فقال الحسن‏:‏

‏{ ‏وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ‏ }‏

إلى قوله‏:

‏ ‏{‏ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً‏ }
‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78-79‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما
قام حتى فصل سبعين قضية، حتى كان يشبه بشريح القاضي‏.‏ وروي أنه
كان إذا أشكل عليه شيء بعث إلى محمد بن سيرين فسأله منه‏.‏ وقال
إياس‏:‏ إني لأكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إلي اثنان جمعت لهما
عقلي كله‏.‏ وقال له رجل‏:‏ إنك لتعجب برأيك، فقال‏:‏ لولا ذلك لم أقض به‏.‏
وقال له آخر‏:‏ إن فيك خصالاً لا تعجبني‏.‏ فقال‏:‏ ما هي‏؟‏ فقال‏:‏ تحكم قبل أن
تفهم، ولا تجالس كل أحد، وتلبس الثياب الغليظة‏.‏ فقال له‏:‏ أيها أكثر
الثلاثة أو الاثنان‏؟‏ قال‏:‏ الثلاثة‏.‏ فقال‏:‏ ما أسرع ما فهمت وأجبت‏.‏ فقال‏:‏ أو
يجهل هذا أحد‏؟‏ فقال‏:‏ وكذلك ما أحكم أنا به، وأما مجالستي لكل أحد فلأن
أجلس مع من يعرف لي قدري أحب إلي من أن أجلس مع من لا يعرف لي
قدري، وأما الثياب الغلاظ فأنا ألبس منها ما يقيني لا ما أقيه أنا‏.‏ قالوا‏:‏
وتحاكم إليه اثنان فادَّعى أحدهما عند الآخر مالاً، وجحده الآخر، فقال
إياس للمودع‏:‏ أين أودعته‏؟‏ قال‏:‏ عند شجرة في بستان‏.‏ فقال‏:‏ انطلق إليها
فقف عندها لعلك تتذكر‏.‏

وفي رواية‏:‏
أنه قال له‏:‏ هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورق منها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏
قال‏:‏ فانطلق، وجلس الآخر فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه، ثم
استدعاه فقال له‏:‏ أوصل صاحبك بعد إلى المكان‏؟‏ فقال‏:‏ لا بعد أصلحك الله‏.‏
فقال له‏:‏ قم يا عدو الله فأدِّ إليه حقه وإلا جعلتك نكالاً‏.‏ وجاء ذلك الرجل
فقام معه فدفع إليه وديعته بكمالها‏.‏ وجاء آخر فقال له‏:‏ إني أودعت عند
فلان مالاً وقد جحدني‏.‏ فقال له‏:‏ اذهب الآن وائتني غداً‏.‏ وبعث من فوره
إلى ذلك الرجل الجاحد فقال له‏:‏ إنه قد اجتمع عندنا ههنا مال فلم نر له
أميناً نضعه عنده إلا أنت، فضعه عندك في مكان حريز‏.‏ فقال له‏:‏ سمعاً
وطاعةً‏.‏ فقال له‏:‏ اذهب الآن وائتني غداً‏.‏ وأصبح وذلك الرجل صاحب
الحق فجاء فقال له‏:‏ اذهب الآن إليه، فقل له‏:‏ أعطني حقي وإلا رفعتك إلى
القاضي‏.‏ فقال له ذلك فخاف أن لا يودع إذا سمع الحاكم خبره، فدفع إليه
ماله بكماله، فجاء إلى إياس فأعلمه، ثم جاء ذلك الرجل من الغد رجاء أن
يودع فانتهره إياس وطرده، وقال له‏:‏ أنت خائن‏.‏ وتحاكم إليه اثنان في
جارية فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل‏.‏ فقال لها إياس‏:‏ أي رجليك
أطول‏؟‏ فقالت‏:‏ هذه‏.‏ فقال لها‏:‏ أتذكرين ليلة ولدت‏؟‏ فقالت‏:‏ نعم‏.‏ فقال
للبائع‏:‏ رد رد‏.‏ وروى ابن عساكر‏:‏ أن إياساً سمع صوت امرأة من بيتها
فقال‏:‏ هذه امرأة حامل بصبي، فلما ولدت ولدت كما قال، فسئل‏:‏ بم عرفت‏؟‏
قال‏:‏ سمعت صوتها ونفسها معه فعلمت أنها حامل، وفي صوتها ضحل
فعلمت أنه غلام‏.‏ قالوا‏:‏ ثم مر يوماً ببعض المكاتب فإذا صبي هنالك، فقال‏:‏
إن كنت أدري شيئاً فهذا الصبي ابن تلك المرأة، فإذا هو ابنها‏.‏

وقال مالك‏:‏ عن الزهري، عن أبي بكر، قال‏:‏
شهد رجل عند إياس فقال له‏:‏ ما اسمك‏؟‏فقال‏:‏ أبو العنفر،
فلم يقبل شهادته‏.‏

وقال الثوري‏:‏
عن الأعمش‏:‏ دعوني إلى إياس فإذا رجل كلما فرغ من حديث أخذ
في آخر‏.‏

وقال إياس‏:‏
كل رجل لا يعرف عيب نفسه فهو أحمق، فقيل له‏:‏ ما عيبك‏؟‏ فقال‏:
‏ كثرة الكلام‏.‏ قالوا‏:‏ ولما ماتت أمه بكى عليها فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ كان
لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما‏.‏ وقال له أبوه‏:‏ إن الناس يلدون
أبناء وولدت أنا أباً‏.‏

وكان أصحابه يجلسون حوله ويكتبون عنه الفراسة، فبينما هم حوله
جلوس إذ نظر إلى رجل قد جاء فجلس على دكة حانوت، وجعل كلما مر
أحد ينظر إليه، ثم قام فنظر في وجه الرجل ثم عاد، فقال لأصحابه‏:‏ هذا
فقيه كتاب قد أبق له غلام أعور فهو يتطلبه‏.‏ فقاموا إلى ذلك الرجل
فسألوه فوجدوه كما قال إياس‏.‏ فقالوا لإياس‏:‏ من أين عرفت ذلك‏؟‏
فقال‏:‏ لما جلس على دكة الحانوت علمت أنه ذو ولاية، ثم نظرت فإذا هو
لا يصلح إلا لفقهاء المكتب، ثم جعل ينظر إلى كل من مر به فعرفت أنه قد
فقد غلاماً، ثم لما قام فنظر إلى وجه ذلك الرجل من الجانب الآخر، عرفت
أن غلامه أعور‏.‏

وقد أورد ابن خلكان أشياء كثيرة في ترجمته، من ذلك أنه شهد عنده رجل
في بستان فقال له‏:‏ كم عدد أشجاره‏؟‏ فقال له‏:‏ كم عدد جذوع هذا المجلس
الذي أنت فيه من مدة سنين‏؟‏ فقلت‏:‏ لا أدري وأقررت شهادته‏.