المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية


حور العين
05-21-2015, 05:05 PM
الأخ / مصطفى آل حمد
ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله

وفيها‏:‏
عزم الهادي على خلع أخيه هارون الرشيد من الخلافة وولاية العهد لابنه
جعفر بن الهادي فانقاد هارون لذلك ولم يظهر منازعة بل أجاب،
واستدعى الهادي جماعة من الأمراء فأجابوه إلى ذلك، وأبت ذلك أمهما
الخيزران، وكانت تميل إلى ابنها هارون أكثر من موسى، وكان الهادي قد
منعها من التصرف في شيء من المملكة لذلك، بعدما كانت قد استحوذت
عليه في أول ولايته، وانقلبت الدول إلى بابها والأمراء إلى جانبها‏.‏

فحلف الهادي لئن عاد أمير إلى بابها ليضربن عنقه ولا يقبل منه شفاعة،
فامتنعت من الكلام في ذلك، وحلفت لا تكلمه أبداً، وانتقلت عنه
إلى منزل آخر‏.‏

وألح هو على أخيه هارون في الخلع وبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك –
وكان من أكابر الأمراء الذين هم في صف الرشيد - فقال له‏:‏ ماذا ترى
فيما أريد من خلع هارون وتولية ابني جعفر ‏؟‏

فقال له خالد‏:‏ إني أخشى أن تهون الأيمان على الناس، ولكن المصلحة
تقتضي أن تجعل جعفراً ولي العهد من بعد هارون، وأيضاً فأني أخشى
أن لا يجيب أكثر الناس إلى البيعة لجعفر، لأنه دون البلوغ، فيتفاقم
الأمر ويختلف الناس‏.‏

فأطرق ملياً - وكان ذلك ليلاً - ثم أمر بسجنه ثم أطلقه‏.‏

وجاء يوماً إليه أخوه هارون الرشيد فجلس عن يمنيه بعيداً، فجعل الهادي
ينظر إليه ملياً ثم قال‏:‏ يا هارون ‏!‏ تطمع أن تكون ولياً للعهد حقاً ‏؟‏

فقال‏:‏ إي والله، ولئن كان ذلك لأصلن من قطعت، ولأنصفن من ظلمت،
ولأزوجن بنيك من بناتي‏.‏

فقال‏:‏ ذاك الظن بك‏.‏

فقام إليه هارون ليقبل يده فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس
معه، ثم أمر له بألف ألف دينار، وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد،
وإذا جاء الخراج دفع إليه نصفه‏.‏

ففعل ذلك كله ورضي الهادي عن الرشيد‏.‏

ثم سافر الهادي إلى حديثة الموصل بعد الصلح، ثم عاد منها فمات
بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول، وقيل‏:‏ لآخر سنة سبعين
ومائة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت خلافته ستة أشهر
وثلاثة وعشرون يوماً‏.‏

وكان طويلاً جميلاً، أبيض، بشفته العليا تقلص‏.‏

وقد توفي هذه الليلة‏:‏
خليفة وهو الهادي، وولي خليفة وهو الرشيد، وولد خليفة
وهو المأمون بن الرشيد‏.‏

وقد قالت الخيزران أمهما في أول الليل‏:‏ إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت
خليفة ويولى خليفة‏.‏

يقال‏:‏ إنها سمعت ذلك من الأوزاعي قبل ذلك بمدة، وقد سرها ذلك جداً‏.‏

ويقال‏:‏ إنها سمت ولدها الهادي خوفاً منه على ابنها الرشيد، ولأنه كان قد
أبعدها وأقصاها وقرب حظيته خالصة وأدناها، فالله أعلم‏.‏

وهذا ذكر شيء من ترجمة الهادي
هو‏:‏ موسى بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد
بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو محمد الهادي‏.‏

ولي الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة‏.‏

ومات في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنة سبعين ومائة، وله من
العمر ثلاث، وقيل‏:‏ أربع، وقيل‏:‏ ست وعشرون سنة، والصحيح الأول‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لم يل الخلافة أحد قبله في سنه، وكان حسناً جميلاً طويلاً،
أبيض، وكان قوي البأس يثب على الدابة وعليه درعان، وكان أبوه
يسميه‏:‏ ريحانتي‏.‏

ذكر عيسى بن دأب قال‏:‏ كنت يوماً عند الهادي إذ جيء بطست فيه رأس
جاريتين قد ذبحا وقطعا، لم أر أحسن صوراً منهما، ولا مثل شعورهما،
وفي شعورهما اللآلئ والجواهر منضدة، ولا رأيت مثل طيب ريحهما‏.‏
فقال لنا الخليفة‏:‏ أتدرون ما شأن هاتين ‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ إنه ذكر أنه تركب إحداهما الأخرى يفعلان الفاحشة، فأمرت الخادم
فرصدهما ثم جاءني فقال‏:‏ إنهما مجتمعتان، فجئت فوجدتهما في لحاف
واحد وهما على الفاحشة، فأمرت بحز رقابهما‏.‏

ثم أمر برفع رؤوسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الأول كأنه
لم يصنع شيئاً‏.‏

وكان شهماً خبيراً بالملك كريماً، ومن كلامه‏:‏ ما أصلح الملك بمثل تعجيل
العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات، ليقل الطمع عن الملك‏.‏

وغضب يوماً من رجل فاسترضى عنه فرضي، فشرع الرجل يعتذر
فقال الهادي‏:‏ إن الرضا كفاك مؤنة الاعتذار‏.‏

وعزى رجلاً في ولده فقال له‏:‏ سرك وهو عدو وفتنة، وساءك
وهو صلاة ورحمة‏.‏

وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي
قصيدة له منها قوله‏:‏

تشابه يوماً بأسه ونواله * فما أحد يدري لأيهما الفضل

فقال له الهادي‏:‏ أيما أحب إليك‏؟‏ ثلاثون ألفاً معجلة أو مائة
ألف تدور في الدواوين ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أو أحسن من ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ ما هو ‏؟‏

قال‏:‏ تكون ألفاً معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين‏.‏

فقال الهادي‏:‏ أو أحسن من ذلك، نعجل الجميع لك‏.‏

فأمر له بمائة ألف وثلاثين ألفاً معجلة‏.‏

قال الخطيب البغدادي‏:‏
حدثني الأزهري، ثنا سهل بن أحمد الديباجي، ثنا الصولي، ثنا الغلابي،
حدثني محمد بن عبد الرحمن التيمي المكي، حدثني المطلب بن عكاشة
المزني، قال‏:‏ قدمنا على أبي محمد الهادي شهوداً على رجل منا أنه شتم
قريشاً وتخطى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس لنا مجلساً
أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ومن كان بالحضرة على بابه، وأحضر
الرجل وأحضرنا فشهدنا عليه بما سمعنا منه‏.‏

فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه ثم قال‏:‏ إني سمعت أبي المهدي
يحدث عن أبيه المنصور، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، قال‏:‏ من
أهان قريشاً أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن آذيت قريشاً حتى
تخطيت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏

اضربوا عنقه، فما برحنا حتى قتل‏.‏

توفي الهادي في ربيع الأول من هذه السنة، وصلى عليه أخوه هارون،
ودفن في قصر بناه وسماه‏:‏ الأبيض بعيساباذ من الجانب الشرقي من
بغداد، وكان له من الولد تسعة‏:‏ سبعة ذكور وابنتان، فالذكور‏:‏ جعفر،
وعباس، وعبد الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى الأعمى،
الذي ولد بعد وفاته فسمي باسم أبيه‏.‏

والبنتان هما‏:‏ أم عيسى التي تزوجها المأمون،
وأم العباس تلقب‏:‏ توبة‏.‏