المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :التفاؤل والاستبشار بالنصر


حور العين
05-23-2015, 03:07 PM
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خُطَبّتي الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس - يحفظه الله
خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
التفاؤل والإستبشار بالنصر

والتي تحدَّث فيها عن التفاؤُل وضرورة تعميمه بين المسلمين،

مُورِدًا الأدلة من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك .

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه،

نحمدُه - سبحانه - حمدًا يكون لإنعامِه مُجازِيًا، ولإحسانِه مُوازِيًا.

الحمدُ لله كم فينا لخالِقِنا مواهِبُ ليس يُحصِي شُكرَها أحَدُ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعلَ للبأساء آفاقًا سِهالاً،

وللضرَّاء يقينًا سيَّالاً، وللشدائِد آمادًا وآجالاً،

وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أُسوةُ البريَّة رجاءً وفَالاً،

وبِشرًا وآمالاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه بُكَرًا وآصالاً،

وعلى آله وصحبِه المُستبِقين مكارِم وأفضالاً،

والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومٍ يكونُ للعالمين مآلاً.

فيا عباد الله :
أُوصِيكم ونفسي بتقوَى الله - تبارك وتعالى -؛ فإن الله جعلَ لمن اتَّقاه المخرجَ مما يكرَه،

والرزقَ من حيثُ لا يحتسِب

{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }

[ الطلاق: 2، 3 ].

عليك بتقوى الله في كل لحظةٍ تجِد غِبَّها يوم الحسابِ المُطوَّلِ

ولا خيرَ في طولِ الحياةِ وعيشِها إذا أنت منها بالتُّقَى لم تَرحَّلِ

معاشِر المسلمين :
في ظلِّ الأزماتِ المُتراكِمة، وأمواجِ التحديَّات الحالِكة المُتلاطِمة،

وانتِشار أضالِيل الهوَى، وأباطِيل المُنَى، تبرُز قضيَّةٌ مُؤرِّقةٌ فاتِكة،

للنفوسِ مُمزِّقةٌ هاتِكة، تحدُو بفِئامٍ من الناس إلى الوُلوجِ في غياهِبَ معدومة الرَّغائِب،

من اليأس والقُنوط، والإدلاجِ في سرادِيبِ الإحباط،

وبين هذا وذاك يتقلَّبُ أناسٌ نصَبُوا أشرِعتَهم لرياح التشاؤُم واليأس،

وزوابِع الإحباط والبأس.

هذا الداءُ العُضال الذي ما ألَمَّ بأُممٍ إلا أوبقَها، ولا بأفرادٍ إلا في التَّبَارِ أوهَقَها،

ومما يزيدُ الطينَ بِلَّة، والداءَ عِلَّة في إذكاء خطرِه وانتِشار ضرَره:

ضحالةُ الوعي والفهم، وانصِرافُ كثيرٍ من الناسِ عن العلمِ وأهلِه،

وانسِياقُ كثيرين خلفَ الشائِعات المُغرِضة، والأراجِيف المُضلِّلة.

لذا لزِمَت - يا عباد الله - وقفةٌ جادَّة، بعزيمةٍ مُتماسِكةٍ صادَّة،

لرياحِ اليأس العاتِية، التي تضرِبُ بجَنَبَات الأمة،

وتكادُ تعصِفُ بكثيرٍ من شبابها وفتيَاتِها، وتذهبُ بهم مذاهِبَ شتَّى بلا أينَ ولا حتَّى !

إذا اشتملَت على اليأسِ القلوبُ وضاقَ لِما به الصدرُ الرَّحيبُ

وأوطأَت المكارِهُ واطمأنَّت وأرسَت في أمـــــــاكِنِها الخُطوبُ

أتــــــــــاكَ على قُنوطٍ منك غوثٌ يمُنُّ به اللطيفُ المُستجِيبُ

معاشر المؤمنين:

اليأسُ والقنوطُ سُدفةٌ من حُلَك الظلام، لذلك زجَرَ القرآنُ الكريمُ

عن هذه الصِّفة القاتِمة المُخلخِلة، وهذه الخَصلةِ البئِيسَة المُزلزِلة،

وحشرَ الموسومين بها في زُمرة الضالِّين، وجعلَ أهلَ اليأس من القوم الكافرين
قال - سبحانه -:
{ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ }
[ الحجر: 56 ]

وقال تعالى :
{ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }
[ يوسف: 87 ].

فيا أيها المُتشائِمون القانِطون ! حنانَيكم بأنفسكم، وإروادًا بأمَّتكم ..

يا من تناوَشَتهم سِهامُ الإحباط والقُنوط، واجتالَتهم رياحُ الضلال والشُّكوك:

هلُمُّوا إلى معينِ الإسلام الرَّقراق، وتوحيده النقيِّ الخفَّاق.

هلُمُّوا إلى أفياء السعادة والبِشر، والتفاؤُل والأمل.

أُعلِّلُ النفسَ بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشِ لولا فُسحةُ الأملِ

فكم في دينِنا من بشائِر وبُشريات، ومفاتِح للتفاؤُل والآمال المُبارَكات

يقول - سبحانه -:
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا }

[ يوسف: 110 ].
وإن من أعظم ما يُجدِّدُ الأملَ في النفوس:

قولَ الحقِّ - سبحانه -:

{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }

[ الشرح: 5، 6 ]

فقد أكَّد وجودَ يُسرَين مع العُسر، ولن يغلِبَ عُسرٌ يُسرَين. نعم !

لنـــــــــا الله مولانا نُؤمِّلُه عند الرخاءِ وفي الشِدَّات والنُّوَبِ

ربٌّ يغارُ ومن يطلُبه يُدرِكه لا أرضٌ تَقِيهِ ولا قصدٌ إلى هرَبِ

إخوة الإسلام:

لا بُدَّ أن نعيشَ الأملَ والتفاؤُل، عملاً بتعالِيم دينِنا الحنيف،

وتحقيقًا لمقاصِد شريعتِنا الغرَّاء، من تحقيق المصالِح وتكثيرها، ودرءِ المفاسِد وتقليلِها،

وتأسِّيًا بهدي المُصطفى العظيم - صلى الله عليه وسلم -.

لقد كانت حياةُ رسولِنا الكريم - عليه الصلاة والسلام - أسمَى أنمُوذجٍ عمليٍّ

للتدرُّع بالتفاؤُل والأمل، والاستِبشار في أحلَك الأزمات، والنوازِل والمُلِمَّات،

حتى كان - صلى الله عليه وسلم - ليُبشِّرُ أصحابَه، ويقول:

( ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهار،

ولا يترُكُ الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَرٍ إلا أدخلَه الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليل،

عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يُذِلُّ الله به الكفر )

أخرجه الإمام أحمد في "المسند".
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُعجِبُه الفألُ الحسن

فعن أنسٍ - رضي الله عنه -، قال:

قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

( لا عدوَى ولا طِيَرة، ويُعجِبُني الفأْلُ

قالوا: وما الفأْلُ يا رسول الله؟

قال: الكلِمةُ الطيبةُ )
متفق عليه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ بعضَ أصحابِه في أمرٍ، يُوصِيهم بقولِه:

( بشِّروا ولا تُنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا )

أخرجه الإمام مسلم.

وعن أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه -، قال:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

( بشِّر هذه الأمة بالسَّناء والرِّفعة، والنصر والتمكين في الأرض )

أخرجه الإمام أحمد في "المسند" بسندٍ صحيحٍ.

نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُّسْلِ والأوثانُ في الأرضِ تُعبَدُ

فأمسَى سِراجًا مُستنيرًا وهــــــــادِيًا وعلَّمَنا الإسلامَ فاللهَ نحمَدُ

أمة الأمل والتفاؤُل :

ليكُن منكم بُحسبان أن الأمل والتفاؤُل مُفرداتٌ أخاَّذة، لمدلولِها أثرٌ واعتِبار،

ولفَحوَاها كُنهٌ واختِبار، وإلا كانت ضربًا من الأوهام، وأضغاثِ الأحلام،

وذلك بألا يشُوبُها رَنَقُ الخُمولِ والتعطُّل، ولا كدَرُ التواكُل والتبطُّل،

وإنما تتواشَجُ فيها أعمالُ القلوب بأعمال الجوارِح .

فالأملُ - عباد الله - نِبراسٌ في مجاهِل الحياة، وفجرٌ ساطِعٌ في دياجِير الكُرُبات.

وهل حقَّق الأنبياءُ الكرامُ - عليهم أفضلُ صلاةٍ وأزكَى سلام - النصرَ والتمكين

إلا بالتفاؤُل والأمل، والصبر واليقين والعمل؟!

وهم صفوةُ الأنام، وما لقُوا من الأوصاب أشقُّ من الصَّاب. فبلَّغوا الرسالات،

ونشَروا الهدايات، مكثَ نوحٌ ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا في دعوة قومِه،

ولم يفقِد الأمل، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدٌ - صلوات الله وسلامُه عليهم

لم يفقِدوا الأمل مع أقوامِهم.
ومكثَ يونسُ - عليه السلام - في الظلمات، ولم يفقِد الأمل،

ونادى:

{ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }

[ الأنبياء: 87، 88 ].

وهل بلغَ عباقِرةُ التأريخ، ونوابِغ الزمان،

وفلَتَات بني الإنسان ذُرَى الحضارات والأمجاد، إلا بحُداءات التفاؤُل الشفيف،

ونجاوَى الأمل المُعشوشِبِ الورِيف.

إلام تظلُّ في قلقٍ تُلاحِي أما لليأسِ عندك من رَواحِ

فلا يُنجِيكَ من شَرَكِ الليالي إذا نُصِبَت كآمالٍ فِساحِ

فاطَّرِحوا - عباد الله - عن أنفسكم الكسَلَ والوَنَى، وخُذُوا بأسبابِ الفلاح والنجاح،

من التوكُّل والجِدِّ والاجتهاد، فغوالِي الأماني لا تُدرَكُ بالتوانِي،

وأنَّى يُدرِكُ العوالِي الفَدِمُ العالِي.

فالأملُ رسالةٌ وعمل، لا تلاوُمٌ وكسَل، ولا جدَل،

وفُقدانُه باعِثٌ على مُجافاة الاعتِدال والوسطيَّة، والوقوع في الغُلُوِّ والتكفير والتدمير،

والأعمال والإرهابية، أو الجفاء والتنصُّل من الثوابِتِ والمُحكَمات الشرعية،

والمُسلَّمات الدينية والقِيَميَّة.

متفائِلٌ يا قوم رغم قُنوطِكم إن السمَا تهمِي فيحيَا الوادِي

هذا يقيني وهو لِي بَلُّ الصدَى والكأسُ غامِرةٌ لغلَّة صادِي