المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العبادة في وقت الفتن


حور العين
05-25-2015, 05:40 PM
الأخ / محمد الخواص
العبادة في وقت الفتن
النبذة :

إن للعبادة -بمفهومها الشامل- في أيام الهرج والفتن منزلة عظيمة؛ منها:

أنها كهجرة إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، كما أن لها أثر في دفع

البلاء. وفي أيام الفتن يخفى الحق على كثير من الناس؛ عندئذ يتأكد

اللجوء إلى أهل العلم الصدور عن فتاويهم فإن ذلك من أسباب الثبات.

وليكن يقيننا بأن هذه الفتن مهما عظمت فإن العاقبة للمتقين.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا

وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً

عبده ورسوله، أما بعد ..

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله،

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وشر الأمور محدثاتها،

وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فضل العبادة في الهرج وأوقات الفتن :

عباد الله، الحمد لله الذي خلقنا لعبادته، وأوجب علينا أن نعبده وحده

لا شريك له، وهذه العبادة بقلوبنا وجوارحنا، نعيشها حضراً وسفرا،

براً وبحراً وجواً، أمناً وسلما، وحرباً وخوفا، والعبادة في الهرج وأوقات

الفتن من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل،

كما قال عليه الصلاة والسلام :

( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ) .

هذا الحديث العظيم الذي يرويه الصحابي الجليل معقل بن يسار

رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (العبادة)،

وهذا لفظ مستغرق يشمل جميع أنواع العبادات، العبادة في الهرج؛

والهرج كما قال أهل العلم ومنهم الإمام النووي رحمه الله في شرح

الحديث، الفتنة وأيام الفتن واختلاط أمور الناس، كذلك في حال القتل

والحرب، كذلك في حال الخوف والذعر، في حال اختلاط أمور الناس

من الفوضى الاقتصادية أو الفوضى الاجتماعية، أو الفوضى في الفتوى،

الفوضى بحيث لا تنتظم أمورهم، ويكونون في أمرٍ مريج، فالذي يجمع

قلبه على ربه، في حال اختلاط أمور الناس وفي حال الخوف والذعر

وفي حال الفوضى والاضطراب في حال اختلاط الأمور وفي حال

اضطرابها، في حال الخفاء والجهالة من كثير من الناس لدينهم،

تكون العبادة في هذا الجو في هذه البيئة في هذه الأوساط في هذه الحال

(كهجرةٍ إلي)، يقول عليه الصلاة السلام، ومعلوم أجر الهجرة إلى النبي

صلى الله عليه وسلم، ما هو أجر المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم

وأموالهم وأهليهم، الذين تركوا البلاد والأهل والمال، وتركوا الوطن لله،

وخرجوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان أجرهم،

هؤلاء الذين أتعبوا من بعدهم، فلا يصل إلى درجتهم أحد مما بعدهم

ولا هجرة بعد الفتح

{ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ }

الحديد: من الآية10

. مع الذي أنفق من بعد الفتح وقاتل، والهجرة بهذا الأجر العظيم ليست

فقط من بلاد الكفر إلى بلد الإسلام، وإنما إلى النبي عليه الصلاة والسلام،

ولذلك قال (كهجرةٍ إلي)، فالعبادة في الهرج في فضله وأجرها ذات ثواب

عظيم، لمن ؟ لهذا الإنسان الذي عبد الله تعالى في زمن الفتن، في زمن

اختلاط الأمور، في زمن ثوران الشهوات والغرائز، في زمن خفاء أمر

الحلال، وخفاء كثيرٍ من الأحكام على الناس، ولكنه يعبد ربه ويعرف دينه

ولذلك فهو يتمكن بالعلم الذي معه، في وقت الاضطراب والجهل والخفاء،

يتمكن به من معرفة الله تعالى وعبادته، والناس في حال الفتن

و الاضطراب ينشغلون عن العبادة، ويشتغلون بأنفسهم، تطيش أحلامهم

تغيب عقولهم، ويعيشون في غفلة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم

لما أخبر عن سبب إكثاره من الصيام في شهر شعبان، قال

( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ).

العبادة في أوقات الغفلة لها ميزة :

فالعبادة في أوقات الغفلة لها ميزة، ولذلك كان القيام في هدئة الليل

والناس نائمون فيه ميزة، وأيضاً استحب كثير من السلف إحياء ما بين

المغرب والعشاء بصلاة النافلة وذكر الله، لأنه من أوقات الغفلة عند

الناس، فالمتمسك لطاعة الله، إذا قصّر فيها الناس وشغلوا عنها كالكّار

بعد الفار، فيكون الذي يطيع ربه في هذه الحال له ثواب كثواب الذي يكر

في الغزو بعد أن فر الناس من أرض المعركة،

الناس إذا كثرت الطاعة فيهم وكثر المقتدون والمقتدى بهم سهل أمر

الطاعة، ولكن إذا كثرت الغفلة وصار الجهل مسيطر، وترك الطاعات هو

العنوان، وقلة المقتدى به وقلة العاملين، فإن الأجر عند ذلك يكون عظيم

والناس إذا كثرت الطاعة فيهم وكثر المقتدون والمقتدى بهم سهل أمر

الطاعة، ولكن إذا كثرت الغفلة وصار الجهل مسيطر، وترك الطاعات هو

العنوان، وقلة المقتدى به وقلة العاملين، فإن الأجر عندذلك يكون عظيم،

بل إن المنفرد بالطاعة عن أهل الغفلة قد يدفع البلاء عنهم،

قال بعض السلف :

ذاكرُ الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا

من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس.

والله يدفع بالرجل الصالح عن أهله، وولده وذريته ومن حوله، فقد يكون

في العائلة واحد والآخرون غافلون، عابد والآخرون في غيهم سادرون،

صاحب علمٍ والآخرون في جهلهم يعمهون، وهكذا يتفرد هذا الواحد بالعلم

والعبادة، حينما انشغل من حوله وغفلوا عن الطاعة، ونحن في هذا

الزمان نعيش أزمات متعددة، فهذه أزمة اقتصادية، وهذه أزمة صحية،

وهذه أزمة فتنٍ وتغلّب للعدو، وكثير من الناس إذا رأوا غلبة سوق النفاق

وارتفاع ألوية أهل الكفر يئسوا، وقالوا فيم العمل ؟ بل وربما ساروا

في تيار الركب الذي هو مشابهة الغالب والذي يسيطر على الأمور في

الظاهر، وهذه يا أيها الأخوة من أشد حالات الكرب التي يمر بها أهل

الإسلام عندما يقول الواحد من الناس: لماذا أمر الدين اليوم في حال

ضعفٍ ولماذا صار أمر أهل الإسلام في حال هزيمة، ولماذا هذا الذل

المضروب ولماذا هذا الضعف الشامل، وعند ذلك يحدث الاحباط في

المعنويات، والانصراف عن العبادات، والتولي عن العلم، والانشغال

عن الطاعة، وخصوصاً إذا رافق هذا الجو المشحون بالهزيمة وغلبة

العدو في الظاهر من أهل الكفر والنفاق إذا صاحبه جاذبية المال والانشغال

بالشهوات وثوران الغرائز وعموم المحرمات وانفتاح أبواب المحظورات.

وعند ذلك يرى المؤمن من خلال غيوم الغفلة نور الإيمان، ويتوجه

ببصيرته للواحد الديان، ولا يهمه حينئذٍ أن يرى حوله كثيراً من العابدين

أو قليلا، لأنه يريد أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ويشبه هذا الحال من

جهة ذكر الله في الأسواق، فهؤلاء في أنواع من الانصراف والانشغال

والإنهماك في الدنيا والإلهاء الذي يحصل لهم بالتجارة والبيع والحلف

الكاذب وأنواع الغش والتدليس، مع ما يرافق هذا من حال السوق

من حصول اختلاط الرجال بالنساء والتبرج وأنواع المعاصي وشيوع

المنكرات، فعند ذلك يكون ذاكر الله في السوق في حالٍ عظيمة عند ربه،

{ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ

وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ

وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }

النور:37 .
أسباب الثبات على الحق في زمن الفتن :

وحينما يرى المؤمن ما يحل بالناس من الإغراق في الماديات والانشغال

بالملهيات، وأنواع الترفيه والألعاب والسياحات، وهكذا هذه الآلات

والأجهزة المسيطرة على الحواس من السمع والبصر والفؤاد، فإنه

في هذه الحالة يعود إلى ربه وهو يريد الأجر والثواب ليكون من الأقلين،

{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }

الأنعام آية: 116 .

أيها المسلمون يا عباد الله، كثير من أهل الإسلام أو من أولادنا يعيشون

وهم محاطون بأنواع من الشهوات والشبهات في أماكن مختلفة في الداخل

والخارج، ويرى الإنسان نفسه غريبا، وخصوصاً إذا توجهت إليه سهام

الانتقاد ممن حوله وهو يرى نظرات الاستنكار وهم يدعونه : كن معنا،

ولكن في الشر فهو يأبى، ولا يستجيب لجاذبياتهم ونداءاتهم وإغراءاتهم،

ويقاوم هذا كله ولو كان من حوله في بعدٍ عن الدين، فإنه في هذه الحالة

يعظم أجره عند ربه وترتفع منزلته عند الله سبحانه وتعالى، فيستفيد أيما

فائدة، إذا بلغت القلوب الحناجر، وخرجت العيون من المحاجر، وحشر

الناس إلى الله فإن الذين عبدوا لله في أوقات الفتن والذين تمسكوا بدين

الله لما عصى الناس فإنهم في حالٍ من الفخر والأجر والثواب والإكرام

والتكريم عند رب العالمين، وحق لهم أن يفخروا بذلك في ذلك اليوم عندما

ينادون بفخرٍ

{ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ }

الحاقة الآية: 19-20 .

وعندما يقل الناصر والمعين، ولا تكاد ترى من يبين الحكم الشرعي،

أو من ينكر المنكر الحاصل فإن الأجر يعظم،

ولذلك قال الإمام علي بن المديني رحمه الله :

"ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن

حنبل! قيل: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصديق؟!. قال :إن أبا بكر الصديق

كان له أصحاب وأعوان، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب".


وعندما يقل الأعوان، ويقل الناصر فلا شك أن من يثبت حينئذٍ ويضرب

المثل للآخرين بثباته ويكون معلماً وعلماً ورايةً مرفوعةً في خضم الباطل

له شأن عند ربه، وهذا يذكرنا أيها الأحبة بأن نثبت على ديننا مهما كثرت

الفتن، وأن نستمسك بما نعرفه من الحق، مهما كثر الأعداء، وأن لا يكون

لكلامهم وهم يزبدون ويتهددون، ويتواعدون ويتفاخرون، عند ذلك لا بد

أن يُري المسلم ربه من نفسه خيرا، وأنما يعظم سوق النفاق وينجم كل

ما قويت شوكة أعداء الإسلام وقل سلطان أهل الخير، ولذلك فإن البقاء

على الحق، والدعوة إليه وبيان الأحكام الشرعية والذب عن هذا الدين

وإزالة الشبهات وتنبيه العامة لا شك أن في هذه الحال الأجر عظيم لمن

قام به،

كل ما صعبت المهمة كل ما زاد الشرف،

كلما زادت التحديات كلما عظم الأجر

كل ما صعبت المهمة كل ما زاد الشرف، كلما زادت التحديات كلما عظم

الأجر، وهكذا فإن وفاء المسلم لدينه واستمساكه بالحق الذي جاءه من

ربه، يثبته ولو ضل أكثر الناس، ومن الأدعية العظيمة التي كان

النبي صلى الله عليه وسلم يرددها:

( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ).

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا

من السالكين سبيل الحق، المدافعين عنه الحاملين لرايته، أحينا مسلمين

وتوفنا مؤمنين والحقنا بالصالحين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي

ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية :

الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله،

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه

أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم بارك