المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان : التحذير من سفك الدماء المعصومة


حور العين
05-30-2015, 08:52 PM
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خُطَبّتي الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين

ألقى فضيلة الشيخ الدكتور أسامة بن عبد الله خياط - يحفظه الله

خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
التحذير من سفك الدماء المعصومة

والتي تحدَّث فيها عن الأحداث الدائرة في الوقت الحالي؛

من اعتداء بعض الجماعات الإرهابية على الآمِنين من المُسلمين،

مُبيِّنًا مُنافاة هذه الأعمال التخريبية للمنهج الصحيح الواجِب على كل مسلمٍ اتباعه،

كما أبرزَ أهم سِمات هذا النَّهج السديد، مع تحذير المسلمين من سفك الدماء الحرام،

مُورِدًا ما يدلُّ على حرمةَ ذلك وعِظَم جُرمها في الدنيا والآخرة .


الحمد لله نهى عن العُدوان، وأخبرَ أنه لا يُحبُّ المُعتَدين،

أحمدُه - سبحانه - حرَّم الفسادَ في الأرض، وتوعَّد بأنه لا يُصلِح عملَ المُفسِدين،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُعزُّ المؤمنين،

ويُذِلُّ الكافرين، ويُخزِي الظالمين الباغِين،

وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه،

وخيرتُه من خلقه، سيِّد الأولين والآخرين، المبعوثُ رحمةً للعالمين،

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين،

وارضَ اللهم عن صحابتِه الغُرِّ الميامين، وزوجاته أمهات المؤمنين،

والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .


فاتقوا الله - عباد الله -، وأخلِصُوا له العمل؛ فطُوبَى لمن أخلصَ دينَه لله،

واتَّبع رِضاه، وسلكَ سبيل كل مُخبتٍ أوَّاه .

عباد الله:

إنَّ من كريم صفات المؤمن، وحُلوِ شمائله، وجميلِ سَجَاياه:

كمالَ الحرص على التخلُّق بأخلاقِ المتَّقين، ودوامَ النُّفرة من خِصال أهل الخِسَّة

والضَّعَة والفُجورِ، الذينَ صغُرَت نفوسُهم، ولؤُمَت طِباعُهم، وقَسَت قلوبُهم،

وعتَوا عن أمرِ رَبهم، وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم،

فحسَّن لهم ما قبَّحه الله ورسولُه، وأغراهم به، وجرَّأهم عليه، فخفَّ على قلوبهم،

وحسُنَ موقِعُه في نفوسِهم.

فتردَّوا في وَهدةِ الباطِل، وتلوَّثوا بأرجاسِ الخطايا بالمُسارَعة في الإثم والعُدوان،

وسُلوك سبيل البغي والطُّغيان.

إنها مُسارعةٌ إلى الشرِّ في كل دُروبِه؛ تحقيقًا للأغراض الخَبيثَة،

وتوصُّلاً للأطماع الخسيسة، التي يسلُكُون إلى بُلوغها كلَّ سبيل،

وبركَبُون إليها كلَّ مركَب، وهم كما وصفَ ربُّنا - سبحانه -:

{ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ }

[ التوبة: 10 ]

أي: لا يرعَون في مؤمنٍ حقَّ قرابةٍ، ولا يحفَظون عهدًا،

ولا يُبقُون على أحدٍ لو كُتِب لهم الظهور فيهم جُرأةٌ على الدماء لا تعدِلُها جُرأة،

واستِهانةٌ للأنفس المعصُومة التي حرَّم الله قتلَها إلا بالحقِّ لا تعدِلُها استِهانة.

إنها سُنَّةٌ قديمةٌ، استنَّها أحدُ ابنَيْ آدم حين سوَّلَت له نفسُه،

وزيَّن له شيطانُه بسطَ يدِه إلى أخيه ليقتُلَه ظُلمًا وعُدوانًا،

وانسِياقًا وراءَ أطماعٍ يذهبُ بريقُ سِحرها بالأبصار، وقد تلا علينا ربُّنا من نبأ ابنَيْ آدم؛

تبصِرةً وذِكرى للذاكرين، وهُدًى وموعظةً للمُتقين.

فقال - عز وجل -:

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ

قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

[ المائدة: 27- 30 ].

وإن شرَّ ألوان العُدوان - يا عباد الله -: سَفكُ الدم الحرام،

وقتلُ النفس التي حرَّم الله قتلَها، وجعلَ الاجتِراء عليها بغير جنايةٍ مُحادَّة لله ورسولِه،

وارتِكابًا لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، واجتِراحًا لخطيئةٍ من أعظم الخطايا

بعد الشركِ بالله - عز وجل -.

ولذا قرَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حُرمةَ الدماء والأموال،

مُؤكَّدةً أشدَّ توكيدٍ حين قال في خُطبة حجة الوداع:

( إن دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحُرمة يومِكم هذا،

في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا .. الحديث )

أخرجه مسلم في "الصحيح"، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

وحين قال - صلواتُ الله وسلامُه عليه -:

( كلُّ المُسلم على المُسلم حرام: دمُه ومالُه وعِرضُه .. الحديث )

أخرجه مسلم في "صحيحه".
ولذا كان جزاءُ الولوغ في هذا الإثم المُبين غضبَ الله ولعنتَه،

ودخولَ النار التي أعدَّ الله له فيها أشدَّ العذاب

كما قال تعالى:

{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا

وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }

[ النساء: 93 ].

وبيَّن رسولُ الهُدى - صلواتُ الله وسلامُه عليه - عِظَم هذا الجُرم عند الله تعالى فقال:

( والذي نفسي بيدِه؛ لقتلُ المُسلم أعظمُ عند الله من زوال الدنيا )

أخرجه الإمام الترمذي في "جامعه"، والإمام النسائي في "سننه" بإسنادٍ صحيح.

وأوضحَ - صلى الله عليه وسلم - أن العقوبةَ المُترتِّبة على قتل المؤمن بغير الحقِّ

تعُمُّ كلَّ من كان له مُشارَكةٌ فيه

فقال - عليه الصلاة والسلام -:

( لو أن أهل السماوات وأهل الأرض اشترَكوا في دم مؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار )

أخرجه الإمام النسائي في "سننه" بإسنادٍ صحيح.

وأخبرَ - صلواتُ الله وسلامُه عليه - أن المؤمنَ يظلُّ في سعَةٍ من دينه،

فينتفِعُ بصالِح أعماله، فإذا أوبَقَ نفسَه بقتل النفس التي حرَّم الله قتلَها،

ذهبَت تلك السَّعَة، وضاقَ عليه صالحُ عمله،

فلم يفِ بما ترتَّب عليه من أوزار هذا الإثمِ العظيمِ،

وقدِمَ على ربِّه ينُوءُ بحِملِ ظُلمه وعُدوانه

فقال - عليه الصلاة والسلام -:

( لا يزالُ المُؤمن في فُسحةٍ من دينِه ما لم يُصِب دمًا حرامًا )

أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".

ولذا كان من صفات المُؤمن وكريم سَجَاياه:

إيمانٌ صادق أورثَه ورعًا يعصِمُه من الفَتْكِ بعباد الله، باستِباحة ما حرَّم الله من دمائِهم،

وما عصَمَ من أنفُسهم

كما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
( الإيمان قيدُ الفَتْك، لا يفتِكُ مؤمن )

أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه" بإسنادٍ صحيح.

وعلى العكس من ذلك؛ من لم يكُن له في هذه النصوص الوارِدة عن الله ورسولِه،

وما تضمَّنَته من وعيدٍ صارِخٍ تقضُّ له المضاجِعُ، وتهتزُّ له الأفئِدة،

لم يكُن له فيها من رادِعٍ يردعُه، أو زاجِرٍ يزجُرُه عن التردِّي في حَمئَة هذا الإثم،

والتلوُّث بأرجاسِ هذه الكبيرة.

شأنَ من أمرَ وخطَّط، ومن ساعَدَ وجهَّز، ومن باشَرَ ونفَّذ تلك الجريمةَ البشِعَة،

والعُدوان الآثِم الذي حدثَ على بلدة القُدَيح،

والذي هو في واقعِه ضربٌ من ضُروب الفساد في الأرض،

الذي يستحِقُّ مُقترِفوه العقوبةَ الرادِعةَ والنَّكالَ.

ألا وإن من أوجَب الواجِبات تُجاهَ هذه النازِلة الأليمة - يا عباد الله -:

وقوفَ كافَّة أهل هذه الديار المُبارَكة، ديار الحرمين الشريفين - زادَها الله عزًّا وشرفًا ،

وقوفَهم في وجه هذا البغي والعُدوان الذي لا يرقُبُ مُقترِفُه في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذِمَّة،

إنكارًا لهذا المُنكَر العظيم؛ إذ هو جديرٌ - والله - بالإنكار، حقيقٌ على أن يُكشَف عُوارُه،

وتُهتَك أستارُه، وتُوضَّح أخطارُه وأضرارُه، ويُماطَ اللِّثام عمن يقِفُ خلفَه،

ويُلهِبُ جذوتَه.

ومن لوازِم هذا الإنكار - يا عباد الله - كمالُ البراءة إلى الله تعالى

من ضلال هؤلاء الضالِّين، وتمام التجافِي عنهم، وكذا المُبايَنة لهم،

وعدم إعانتهم بأي لونٍ من ألوان الإعانة،

ورفعُ أمر من يبدُرُ منه شيءٌ من هذا الضلال إلى ذوي الشأن والاختِصاص؛

ليُنظَر في أمره، ويُذادَ عن المُسلمين شرُّه وضررُه.

فإن هذا من التعاوُن على البرِّ والتقوى الذي أمرَنا الله به

وحثَّنا عليه بقولِه :

{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ

وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

[ المائدة: 2 ].

ولأن هذا هو شأنُ المؤمن مع أخيه المؤمن،

الذي صوَّر واقِعَه رسولُ الهُدى - صلواتُ الله وسلامُه عليه - بقوله:

( المؤمنُ للمُؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا وشبَّك بين أصابِعِه )

أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه.

وإنه إذا كان اتِّحادُ الصفِّ، واجتِماع الكلمة، ونبذُ التفرُّق، والاعتِصامُ بحبل الله،

الذي أثمِرنا به في كتابِ الله بقولِ ربِّنا - سبحانه -:

{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا

وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ

فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا }

[ آل عمران: 103 ].

إذا كان هذا أمرًا عامًّا شامِلاً لا يختصُّ بزمانٍ دون غيره،

فإن الاستِمساك بهذا الاتِّحاد والاجتِماع والألفَة أشدُّ تأكُّدًا وقت النوازِل، وزمن الشدائِد،

وتتجلَّى هذه المعاني حيَّةً نابِضة في التِفاف أهل هذه الديار المُبارَكة حول قادَتهم،

وفي اصطِفافهم خلفَ وُلاة أمرهم، وكونِهم معهم يدًا واحدةً في الخير،

ونصر الحقِّ، ودَحر الباطِل، وإغاظَة الأعداء،