المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان : داعش بين الإفساد وخدمة مصالح الأعداء


حور العين
06-06-2015, 09:56 PM
خُطَبّ الحرمين الشريفين
خُطَبّتي الجمعة من المسجد الحرام
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن محمد آل طالب - يحفظه الله

خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
داعش بين الإفساد وخدمة مصالح الأعداء

والتي تحدَّث فيها عن هذه الجماعة التي اشتُهرت باسم داعش،

مُنبِّهًا على ما تكتنِفُها من شُبُهاتٍ، وما نشؤوا عليه من غلُوٍّ وتطرُّفٍ،

مُحذِّرًا من سُلوك هذا السبيل؛ لمخالفته للمنهج الصحيح،

ومُندِّدًا بما حدثَ في المنطقة الشرقية في الأيام السابِقة من اعتِداءاتٍ على المُصلِّين،

وما فيه من سفكٍ للدماء المعصُومة .

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه،

ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،

من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزَّ عن الشَّبيه،

وعن الندِّ، وعن المثيل، وعن النَّظير

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }

[ الشورى: 11 ]

وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه السراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه،

وعلى آله وصحبِه والتابعِين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

فإن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،

وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.

ثم إن خيرَ الوصايا: الوصيةُ بتقوى الله تعالى؛ فاتَّقوا الله وأصلِحوا العمل،

{ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

[ الأعراف: 35 ]

من اتَّقى الله كفاه، ومن اتَّقى الناسَ فلن يُغنُوا عنه من الله شيئًا.

أيها المسلمون :

لما بزغَ نورُ الإسلام، ووردَت هداياتُه على نفوس أتباعه، أُشرِبَت قلوبُهم محبَّتَه،

وتعلَّقَت أفئِدتُهم بخدمته. فتعلَّموه وعلَّموه، وامتثَلُوه ونصرُوه،

وبذلُوا لأجلِه مُهجَهم وأرواحَهم، وهجَروا في سبيلِه الأوطانَ،

ساحُوا به وله في أرضِ الله.

وفي أخبار السِّيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استشارَ أصحابَه يوم بدرٍ

قال سعدٌ - رضي الله عنه -:

[ والذي نفسي بيده؛ لو أمرتَنا أن نُخيضَها البحر لأخَضناها،

ولو أمرتَنا أن نضرِبَ أكبادَها إلى بَركِ الغِماد لفعَلنا ]

رواه مسلم.

فكانت التضحياتُ والفِداءُ سِمةً بارِزةً في الجيل الأول من عصر الإسلام،

وكذلك كانت في أتباعِهم بعد ذلك. وكان الجهادُ الذي يحمِلُ رجالُه هذه المعاني

هو السَّيلُ الذي لا يُوقِفُه سدٌّ، والنازِلةُ التي لا تنتهِي عند حدٍّ.

ومن رحِم هذه المعاني وُلِدت كلمةُ خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى ملكِ فارِس:

[ فقد جِئتُكم بقومٍ يُحبُّون الموتَ كما تُحبُّون الحياة ]

وكان جِهادُهم هدايةً ورحمةً وعدلاً، وطبَّقوا شريعةَ الإسلام بعبادة الله حقًّا،

وبتحقيق المصالِح وتكثيرِها، ودرءِ المفاسِد وتقليلِها، وحفظِ الضرورات للإنسان؛

بحماية دينِه، ونفسِه، وعِرضِه، وعقلِه، ومالِه. وهذه أصولٌ ومُسلَّماتٌ لا مِراءَ فيها.

وقامَت حضارةُ الإسلام بهذه الوظيفة الشريفة خيرَ قيامٍ،

وسبقَت كلَّ الحضارات بترسيخِ هذا المبدأ، عبر تقريرات فُقهائِها، وتطبيقات وُلاتِها؛

استِشعارًا لقولِ الله تعالى:

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }

[ الأنبياء: 107 ]

وقوله - سبحانه -:

{ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }

[ القصص: 77 ].

واستظلَّ تحت جناح الأمة أقوامٌ من البشر، على اختِلاف أديانهم وطوائِفِهم،

ينعَمون بالأمن والعدل، ويعيشُون في الوطنِ الذي يحتضِنُهم جميعًا.

عباد الله :

ولما كان الجهادُ والفِداءُ هو عزُّ الأمة وذُلُّ أعدائِها،

ولما أعجزَت الأعداءُ الحيلةَ في مواجهته من الخارِج،

لم يكُن بُدٌّ من التسلُّل إليه في الداخل. فاندسَّ في مراحِل من التاريخ

بين صُفوف المُسلمين جماعاتٌ من أعدائِه، فاستطاعُوا حرفَ بعض مساراته،

والتأثيرَ على مآلاتِه .

ومنذُ أوائل هذا القرن الهِجريِّ، وعلى كثرةِ التضحِيات التي بُذِلَت،

والدماء التي أُرِيقَت، من أشخاصٍ يغلِبُ على أكثرهم صِدقُهم،

ورغبتِهم نُصرةَ هذا الدين، إلا أن النهايات لم تقتصِر على عدم تحقُّق النتائِج

المرجُوَّة فحسب؛ بل آلَ الأمرُ إلى أن تكون النتائِجُ عكسيَّة، فيذوقَ المُسلمون

ويلاتِ هذه التضحِيات، ويكونون هم ضحايا ذلك الفِداء.

ولما كان التسلُّل بين مجموعاتٍ قامَت في أصلِها لنُصرة الدين،

لُعبةً أتقنَها الأعداءُ ونجَحُوا، فقد انتقَلُوا للُعبةٍ أكبر، ومشروعٍ أخطَر،

وهو: إقامةُ كِيانٍ أُسِّس في أصلِه لاستِئصال شأفَة المُسلمين، وهدم ما تبقَّى من دُولهم،

ولمُواجهة كل مُحاولةٍ لتحرُّر المُضامِين ممن ضامَهم،

ولاستِقطابِ مُحبِّي نُصرة الدين، وحرقِهم في معارِك عبَثِيَّة.

فألبَسَ الأعداءُ ذلك الكِيانَ المِسخَ رِداءَ الخلافة الإسلامية،

وسمَّوها "دولة الخلافة"، ووصفُوا جرائِمَهم بأنها تنفيذٌ لشرع الله؛

لتكتمِلَ صُورةُ الإساءة للإسلام، وباسمِ الإسلام، وليس له منه أدنَى نصيب.

فإن كِيانًا أُسِّس على خفر العهود، ونقض العقود، وسفكِ الدماء،

وحِراسة الأعداء، والاستِيلاءُ على الأراضي التي حرَّرها أهلُها ممن ظلمَهم،

وسامَهم سُوءَ العذاب، لا يُمكن أن يكون من الإسلام في شيءٍ،

ولو تسمَّى بأجلِّ الأسماء وأعظمِها.

إن عصابات "داعش"، التي نشأَت في الشام وفي العراق، قادتُها ومُؤسِّسُوها مجاهِيل،

ومن عُرِف منهم باسمِه، فإنه لا يُعرفُ بسابِقةٍ في الإسلام،

والشُّكوكُ والشُّبُهات قائمةٌ حول أدوارِهم وعمالاتهم .

وإن شاؤُوا عصابات "داعش" هي النُّقلة الكُبرى لأعداء المُسلمين وأعداء العرب،

من التسلُّل للجماعات المُسلمة، إلى إنشاء كِيانٍ خالصٍ مُستقلٍّ، مصنوعٍ على أعينهم،

لعِبَت في إنشائِه مُخابراتٌ إقليميَّةٌ وعالميَّة، وتكوَّنَت مجاميعُه من ثلاثة أصناف:

القادةُ والمُحرِّكون، وهم أعداءُ خالِصون.

والثاني: خوارِجُ مارِقون مُغفَّلون.

والثالث - وهم الوقود -: مُستغفَلون انتهَضُوا لنُصرة الدين، سُفهاءُ الأحلام،

حُدثاءُ الأسنان، خالُون من العلم الشرعيِّ والإدراك السياسيِّ.

وكما في مبادئ السياسة: فإن أيَّة مُؤامرةٍ يستلزِمُ لنجاحها ألا يعلمَ أكثرُ المُشارِكين

فيها بأنها مُؤامرة.

عباد الله:
وبيانًا للحقائِق: فلو جرَدنا حسابَ "داعش" في عُمرها القصير

والمشؤُوم على المُسلمين، لوجَدنا ألا هدفَ لهم إلا دماءَ المُسلمين،

والاستيلاءَ على أراضِيهم، أما أعداؤُها المُفترَضُون فهم سالِمون منها،

عدا مُناوشاتٍ يُحيُون بها صِراعاتٍ طائفيَّة أو عِرقيَّة،

ويُوهِمون بها الجهلَة من أتباعهم، أو يُحقِّقون بها المقصِد الأعظمَ من مشروعهم،

وهو التنفيرُ من الإسلام وتشويهُ صُورته، واستِعداءُ العالم على المُسلمين.

ومن مكائِد "داعش" المكشُوفة والمُتكرِّرة:

استِقطابُ الصادقين المُتحمِّسين من شباب المُسلمين في كل مكان؛

ليكُونوا هم مِحراثَ النار، الذي يُحرِّكون بهم جمرَهم الذي أوقَدُوه،

ثم إذا كثُر عددُهم تخلَّصُوا من بعضهم، بإقحامِهم في معارِك يائِسة لا غايةَ عُليا

تستحِقُّ تلك التضحيات، كما فعلُوا في معركة "عين العرب - كوباني".


ولك أن تتأمَّل عصابات "داعش" وهي تلتفُّ على كل نجاحٍ يُحقِّقُه المُضامُون،

لتُجهَض أحلامُهم، ولتستمرَّ وظيفتُهم في حمايةِ أنظمةٍ يُفترضُ منهم

عداؤُها إن كانوا صادِقين. وكلما تلقَّينا في بلادِنا تهديدًا

كان التنفيذُ على يدِ عصابات "داعش"، وكان التناغُم بينهم ظاهِرًا في كل حدث.

عباد الله :

إنه لا مصلحةَ للإسلام ولا للمُسلمين، أفرادًا ودُولاً من الإساءة

أو الاعتِداء على أيَّة طائفةٍ أخرى، ولم تأمُر به شريعةُ الإسلام،

{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ

أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

[ الممتحنة: 8 ].

وإنه في اعتِقاد المُسلمين أن مُجرَّد اختلافِ الدين - فضلاً عن المذهب والمنهج –

لا يُبيحُ الاعتِداء أو الإساءة، ولقد ساكنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم –

اليهودَ في المدينة، وجاورَهم حتى مات.

وما الأفعالُ الإجراميَّةُ التي حدثَت في شرق المملكة في الأسبوعين الماضِيَين،

وذهبَ فيها ضحايا، إلا واحدةٌ من سلسلة اعتِداءاتٍ حدثَت في بلادِنا،

نتيجتُها الوحيدةُ مُحاولةُ الإخلال بأمن هذه البلاد،

ورغبةُ إلحاقِها برَكبِ الدُّول المُضطربةِ حولَنا؛ لتزهَقَ الأنفسُ بمئاتِ الأُلوف،

ويكون التهجيرُ بالملايِين.

إن المُستهدَفَ بما حدث هو الدولةُ والمُجتمع كلُّه،

والمُرادُ بتلك الدماء التي أُريقَت أن تكون الوَقودَ الذي يَطالُ الكلَّ بلا استِثناء.

وإن ألمَنا على تلك الاعتِداءات في شرق المملكة مُستحقٌّ، وإنكارَها واجِب،

ومُدافَعَتها ومُكافحَتَها فرض، والجريمةُ قد وقعَت على الوطن كلِّه لا على طائفةٍ منه.

وقد سبقَت هذه العصاباتُ باستِهداف رِجال الأمن في أنحاء بلادِنا،

وقتلِ بعضِهم، واستِهداف المُنشآت العامَّة وغيرِها.

وإن ما سفَكَته عصاباتُ الدواعِش من دماء المُسلمين هو بحرٌ بالنسبة لدماء غيرهم،

وما استلَبَته من أراضِي السنَّة في الشام والعراق هو كل سلَبِها، ولم تسلِب سِواهم.

وعليه؛ فإن من يُقرِّر أن أولئك الدواعِش هم نَتاجُ عقائِدنا ومناهِجنا،

إنما هو يُحقِّق مقاصِد تلك العصابات، ويتماهَى مع غايتها التي أُنشِئَت لأجلِها.

إن خطابَنا الشرعيَّ في هذه البلاد، وإن صحَّح عقائِد وخطَّأَ أخرى،

فإنه ليس فيه ما يُشيرُ من قريبٍ أو بعيدٍ إلى جواز الاعتِداء على المُخالِف؛