المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ذكر من توفي سنة سبع وثمانين ومائة من الأعيان‏


حور العين
06-10-2015, 05:50 PM
الأخ / مصطفى آل حمد
ذكر من توفي سنة سبع وثمانين ومائة من الأعيان‏
من كتاب البداية و النهاية لابن كثير يرحمه الله

جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك

أبو الفضل البرمكي، الوزير ابن الوزير، ولاه الرشيد الشام وغيرها من

البلاد، وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران بحوران بين قيس

ويمن، وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد الإسلام، كان

خامداً من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الأوان، فلما قدم جعفر بجيشه

خمدت الشرور وظهر السرور، وقيلت في ذلك أشعار حسان، قد ذكر ذلك

ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه، منها‏:‏

لقد أوقدت في الشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش سوج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانجبارها

هو الملك المأمول للبر والتقى * وصولاته لا يستطاع خطارها

وهي قصيدة طويلة، وكانت له فصاحة وبلاغة، وذكاء وكرم زائد، كان

أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه، وصار له اختصاص

بالرشيد، وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج

في شيء منها عن موجب الفقه‏.‏

وقال عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ قال جعفر للرشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قال لي

أبي يحيى‏:‏ إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط، وإذا أدبرت فأعط، فإنها لا تبقى،

وأنشدني أبي‏:‏

لا تبخلن لدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف

فإن تولَّت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

قال الخطيب‏:‏ ولقد كان جعفر من علوِّ القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل

وجلالة المنزلة عند الرشيد على حالة انفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد‏.‏

وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه، ظاهر البشر‏.‏

أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر‏.‏

وكان أيضاً من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة‏.‏

وروى ابن عساكر، عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة

العباس والعباسية‏:‏ أنه أصابته فاقة وضائقة، وكان عليه ديون، فألح عليه

المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف، فأتى به جعفراً

فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بإلحاح المطالبين

بديونهم، وأنه لم يبق له سوى هذا السفط‏.‏

فقال‏:‏ قد اشتريته منك بألف ألف، ثم أقبضه المال وقبض السفط منه،

وكان ذلك ليلاً‏.‏ ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر

تلك الليلة، فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضاً‏.‏

قال‏:‏ فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لأتشكر له فوجدته مع أخيه الفضل

على باب الرشيد يستأذنان عليه، فقال له جعفر‏:‏ إني قد ذكرت أمرك

للفضل، وقد أمر لك بألف ألف، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك،

وسأفاوض فيك أمير المؤمنين‏.‏

فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار‏.‏

وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه، فجاءت الخنفساء فركبت

ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر، وقال‏:‏ إن الناس يقولون‏:‏ من قصدته

الخنفساء يبشر بمال يصيبه، فأمر له جعفر بألف دينار‏.‏ ثم عادت

الخنفساء، فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى‏.‏

وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه‏:‏ انظر

جارية اشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، ففتش الرجل

فوجد جارية على النعت فطلب سيدها فيها مالاً كثيراً على أن يراها جعفر،

فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها، فلما غنته أعجبته

أكثر، فساومه صاحبها فيها‏.‏

فقال له جعفر‏:‏ قد أحضرنا مالاً فإن أعجبك وإلا زدناك‏.‏

فقال لها سيدها‏:‏ إني كنت في نعمة وكنت عندي في غاية السرور، وإنه قد

انقبض علي حالي، وإني قد أحببت أن أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده

كما كنت عندي‏.‏

فقالت له الجارية‏:‏ والله يا سيدي لو ملكت منك كما ملكت مني لم أبعك

بالدنيا وما فيها، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ولا تأكل من ثمني‏.‏

فقال سيدها لجعفر وأصحابه‏:‏ أشهدكم أنها حرة لوجه الله،

وأني قد تزوجتها‏.‏ فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا

الحمال أن يحمل المال‏.‏

فقال جعفر‏:‏ والله لا يتبعني‏.

وقال للرجل‏:‏ قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك، وذهب وتركه‏.‏

هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل، إلا أن الفضل

كان أكثر منه مالاً‏.‏

وروى ابن عساكر من طريق الدارقطني بسنده‏:‏ أنه لما أصيب جعفر

وجدوا له في جرة ألف دينار، زنة كل دينار مائة دينار، مكتوب

على صفحة الدينار جعفر‏:‏

وأصفر من ضرب دار الملوك * يلوح على وجهه جعفر

يزيد على مائة واحداً * متى تعطه معسراً يوسر

وقال أحمد بن المعلى الرواية‏:‏ كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب

منه أن يقول لأبيه يحيى أن يشير علي الرشيد بشرائها، وكتبت إليه

هذه الأبيات من شعرها في جعفر‏:‏

يا لائمي جهلاً ألا تقصر * من ذا علي حر الهوى يصبر

لا تلحني إذا شربت الهوى * صرفاً فممزوج الهوى سكر

أحاط بي الحب فخلفي له * بحر وقدامي له أبحر

تخفق رايات الهوى بالردى * فوقي وحولي للهوى عسكر

سيَّان عندي في الهوى لائم * أقلَّ فيه والذي يكثر

أنت المصفى من بني برمك * يا جعفر الخيرات يا جعفر

لا يبلغ الواصف في وصفه * ما فيك من فضل ولا يعشر

من وفر المال لأغراضه * فجعفر أغراضه أوفر

ديباجة الملك على وجهه * وفي يديه العارض الممطر

سحت علينا منهما ديمة * ينهل منها الذهب الأحمر

لو مسحت كفاه جلمودة * نضر فيها الورق الأخضر

لا يستتم المجد إلا فتى * يصبر للبذل كما يصبر

يهتز تاج الملك من فوقه * فخراً ويزهى تحته المنبر

أشبهه البدر إذا ما بدا * أو غرة في وجهه يزهر

والله ما أدري أبدر الدجى * في وجهه أم وجهه أنور

يستمطر الزوار منك الندى * وأنت بالزوار تستبشر

وكتبت تحت أبياتها حاجتها، فركب من فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة

فأشار عليه بشرائها فقال‏:‏ لا ‏!‏ والله لا أشتريها، وقد قال فيها الشعراء

فأكثروا، واشتهر أمرها، وهي التي يقول فيها أبو نواس‏:‏

لا يشتريها إلا ابن زانية * أو قلطبان يكون من كانا

وعن ثمامة بن أشرس، قال‏:‏ بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد

، فانتبه من منامه يبكي مذعوراً، فقلت‏:‏ ما شأنك ‏؟‏

قال‏:‏ رأيت شيخاً جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال‏:‏

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

قال فأجبته‏:‏

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر

قال ثمامة‏:‏ فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر،

ثم خرج الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول‏:‏

تقاضاك دهرك ما أسلفا * وكدر عيشك بعد الصفا

فلا تعجبن فإن الزمان * رهين بتفريق ما ألفا

قال‏:‏ فنظرت إلى جعفر وقلت‏:‏ أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت

في الكرم والجود غاية‏.‏

قال‏:‏ فنظر إلي كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول‏:‏

ما يعجب العالم من جعفر * ما عاينوه فبنا كانا

من جعفر أو من أبوه ومن * كانت بنو برمك لولانا

ثم حول وجه فرسه وانصرف‏.‏

وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين

ومائة، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة، ومكث وزيراً سبع عشرة سنة‏.‏

وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد

كبش تدفأ به، فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت‏:‏ لقد أصبحت

في مثل هذا اليوم وإن على رأسي أربعمائة وصيفة، وأقول

إن ابني جعفراً عاق لي‏.‏

وروى الخطيب البغدادي بإسناده‏:‏ أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد

جعفراً وما أحل بالبرامكة، استقبل القبلة وقال‏:‏ اللهم إن جعفراً كان

قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة‏.‏

حكاية غريبة

ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلاً يأتي كل يوم إلى

قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم، فبعث من جاء به فدخل عليه وقد

يئس من الحياة‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك ‏!‏ ما يحملك على صنيعك هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنهم أسدوا إلي معروفاً وخيراً كثيراً‏.‏

فقال‏:‏ وما الذي أسدوه إليك ‏؟‏

فقال‏:‏ أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق، كنت بدمشق في نعمة عظيمة

واسعة، فزالت عني حتى أفضى بي الحال إلى أن بعت داري، ثم لم يبق

لي شيء‏.‏

فأشار بعض أصحابي عليَّ بقصد البرامكة ببغداد، فأتيت أهلي وتحملت

بعيالي، فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة فأنزلتهن في مسجد

مهجور ثم قصدت مسجداً مأهولاً أصلي فيه‏.‏

فدخلت مسجداً فيه جماعة لم أر أحسن وجوهاً منهم، فجلست إليهم فجعلت

أدبر في نفسي كلاماً أطلب به منهم قوتاً للعيال الذين معي، فيمنعني

من ذلك السؤال الحياء‏.‏

فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم، فدخلوا

داراً عظيمةً، فإذا الوزير يحيى بن خالد جالس فيها فجلسوا حوله، فعقد

عقد ابنته عائشة على ابن عم له ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر، ثم

جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار،

ومعها فتات المسك‏.‏

فأخذها القوم ونهضوا وبقيت أنا جالساً، وبين يدي الصينية التي وضعوها

لي، وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها في نفسي، فقال لي بعض

الحاضرين‏:‏ ألا تأخذها وتذهب ‏؟‏