المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأناة " التأنِّي من الله والعجلة من الشيطان "


vip_vip
12-08-2010, 12:10 PM
الأناة " التأنِّي من الله والعجلة من الشيطان " (http://www.ataaalkhayer.com/)



عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال : ((التأنِّي من الله والعجلةُ من الشيطان))؛ رواه أبو يعلي
(7/4256)
والأناةُ والتأنِّي بمعنى. والأناة خُلُقٌ يحبه الله - تبارك وتعالى -
ويتصف به العقلاءُ الموفَّقون، فلا يقدمون على أمر إلا بعد دراسة
وتحقق، ولا يتلفَّظون بكلام إلا بعد تروٍّ ونظر، فيوفَّقون غالباً إلى
الصواب، فيَسْعَدون ويُسْعِدون.
وقديما قالت العرب: "دعوا الأمر يَغِبَّ" (http://www.ataaalkhayer.com/)، كما جاء في كلمة
عبدالله بن وهب الراسبي الأزدي لما عزم الخوارج على بيعته
فقال: "يا قوم استبيتوا الرأي"؛ أي: دعوا رأيكم تأتي عليه ليلة،
ثم تعقبوه. وقال: "إياكم والرأيَ الفطيرَ، والكلامَ القضيب،
دعوا الرأي يَغِبُّ، فإن غُبوبه يكشف للمرء عن فَصِّه..
وليس الرأي بالارتجال، ولا الحزم بالاقتضاب".
قال المرصفي: "والرأي الفطير: مستعار من قولهم
" فطرتُ العجينَ أفطره فطراً إذا أعجلته عن إدراكه؛
فهو فطير ضد الخمير. والقضيب في الأصل: الناقة التي تُركَب ولم تُرَضْ،
استعارة للكلام من غير تهيئة ولا إعداد. وغبَّ: بمعنى: بات[1]".
والأناة مطلوبة في كل شيء،
وهي مطلوبة فيمن يُعِدُّ كلاماً جميلاً سواء كان خُطبة أو قصيدة،
وهذا يقتضي من المُعِدِّ أن ينفق وقتاً طويلاً ينظر فيما أعد ويكرر
النظر فيه. وقد كان هناك نفر من الشعراء يفعلون هذا، ويبالغون فيه،
وعُرِفوا في أدبنا العربي بـ(عبيد الشعر)، كان الشاعر منهم ينظِم
القصيدة وينظر فيها، ويعيد النظر فيها سَنَة كاملة قبل أن
يَعرِضها على الناس وسُميتْ هذه القصائد بـ(الحوليات)[2].
والأناة مطلوبة في العلماء وذوي الرأي والوجاهة إذا تكلموا
أو كتبوا، فمنَ المفروض فيهم أن يتأنَّى الواحدُ منهم في الإجابة
إذ سئل عن حكم شرعيٍّ ، أو حادثة تاريخية، أو موقف من
المواقف.. فلا يتسرع؛ بل يُعْنى بفَهم السؤال أولاً، وهل هو بريء،
ثم يرجع إلى الكتب والمصادر العلمية حتى إذا استوثق من وقوفه
على جلية الأمر نظر مرة أخرى في الجواب، وسأل نفسه:
هل من المصلحة أن أُجيب أم من المصلحة أن أُعرِض عن ذلك؟
وإذا ترجَّح لديه أن المصلحة أن يُجيب نظر في الأسلوب الذي
ينبغي أن يكون عليه الجواب.
إن ذلك يستغرق وقتاً ليس باليسير.. وهو بذلك ينجو من
المسؤولية أمام الله، وينجو من الحَرَج أمام الناس.
والأناة مطلوبة من الطالب الذي يدخل قاعة الامتحان ويُعطى
ورقةَ الامتحان.. إن عليه أن يتأنَّى، وينظر فيها بتأملِ واعٍ،
ويفهم الأسئلة، ثم يشرَع بالإجابة، ولا يَعجَل. ذلك أن واضعي
الأسئلة يقدِّرون الوقت الذي تحتاج إليه الإجابة.. فعلى الطالب
أن يتأنَّى ويستوفي حقَّه كاملاً.. ولا يستعجل.. ويعيد نظره في
الإجابة.. إن هذا التأني يضمن له السداد في الرأي والنجاح في الامتحان.
والأناة مطلوبة من الفتى الذي يريد الزواج، ومطلوبة من أهل
الفتاة المخطوبة، ومنها أيضاً؛ فلا يجوز أن يتسرَّع أيٌّ منهما في
إبرام الأمر؛ بل على كل من الطرفين السؤالُ والبحث،
والاستشارة، والاستخارة، والتثبت من صلاحية هذا الاختيار.
فإذا تأنَّي كلٌّ منهما ودَرَس الوضع بتعمُّق، وبنى على ذلك القرار
بالسلب أو بالإيجاب كان ذلك - إن شاء الله - محققاً للسعادة
والنجاح في بناء الأسرة الفاضلة.
أما إذا كان تسرُّعٌ في هذا الأمر واستعجالٌ كان احتمالُ الإخفاق
في ذلك وارداً.. إن التأني محمودة نتائجُه في هذا الموضوع،
وفي غيره من الموضوعات.. وتكاليف الزواج أضحتْ في هذه الأيام مُرهِقةً.
والأناة مطلوبة من الزوجين بعد الزواج؛ ذلك لأن الخلاف أمر
متوقَّع، فإذا حدث فليعالَجْ بالأناة، والصبر، والحوار، ومراجعةِ
كلِّ من الزوجين نفسَه، ومراجعةِ موقفه، وليَستَرْضِ كلٌّ صاحبه،
وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام، ولا نَخَفْ من الخلاف فهو أمر
طبيعي بحكم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو موجود
بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين الشريك وشريكه،
وبين الإمام وتلامذته، وبين الصديق وصديقه، وبين الزوج وزوجه
؛ قال تعالى:
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *
إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }
[هود 118 -119]،
إن الخطير والمخيف هو تصعيد الخلاف.
نَعَم؛ لا ينبغي أن يستبدَّ الغضب بواحد من الزوجين فيَعمَد إلى هدم
الحياة الزوجية لمجرد حدوث الخلاف، أو لأي سبب آخر،
والقوي هو من يملك نفسه عند الغضب.
وقد يَعْمَد الرجل المتسرِّع وهو في سَوْرة الغضب إلى إيقاع
الطلاق دون تبصُّر لعواقب الأمر، فيندم، ويسارع إلى العلماء
والفقهاء يطلب إليهم أن يجدوا له حَلا، ويدرك - بعد فوات الأوان
- أنه بهذا التسرع خرَّب بيته، ودمَّر حياته، وكان في غِنًى عن
ذلك لو أنه تأنَّى وصبر.
والشرع المطهَّر حدد كيفية الطلاق ووقتَه، وجعل إيقاعه في وقت
معين محرَّماً، وهذا يقتضي التريُّثَ، والتفكيرَ في عواقب الطلاق
وفي آثاره عليه وعلى أولاده خلال المدة التي يحظر فيها الطلاق.
والأناة مطلوبة من الإنسان في تعامله مع الآخرين، فقد يسمع
كلمة مسيئة له، أو شتيمة تُوجَّه إليه، فلا يتسرَّعِ العاقلُ في الرد
على المسيء، ولا يستسلم للانفعال؛ بل يقف ويفكر في الموقف
السليم الذي ينبغي أن يقفه، فقد يكون الإعراض عن هذا المسيء
أفضل، وقد يكون الرد عليه بحكمة أفضل. إن عليه أن يتأنى
ولا يعجل.
هذا والمنتصر غالباً في الخصومات والمجادلات هو المتأني،
والخاسر هو المتسرِّع، وهذا واقع ملموس.
من أجل ذلك وجدنا في كتاب الله ذمَّ العجلة؛ فمن ذلك قوله تعالى:
{ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}
[الأنبياء: 37]
يبدو أن الكفرة كانوا يستعجلون الآيات، وهذا قد ورد في أكثرَ من
موضع من كتاب الله، فذكر ربُّنا أن الإنسان مخلوق من عجل،
وهدَّدهم سبحانه بأنه سيريهم آياتِه المعجزات التي سيرونها،
وهي تدلُّ على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -
وما جعل الله له من العاقبة المحمودة، وقد يراد بالآيات نِقماتٌ
الله في الدنيا والآخرة. وعلى كل حال فهو ينهاهم عن الاستعجال.
ومن ذلك قوله تعالى:
{ وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً }
[الإسراء: 11].
ويدعو الإنسان على نفسه بالشرِّ إذا ما أصابته مصيبةٌ من فقر
أو مرض.. يدعو على نفسه بالشر كما كان يدعو لها بالخير؛
وذلك لأن الإنسان بفطرته عجول:
{ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً }؛
فعليه أن يغالب ذلك، ويتصف بالأناة.
ومن أجل ذلك كانت التُّؤَدَة - وهي الأناة - جزءاً من النبوة،
كما جاء في حديث عبد الله بن سَرْجِس المزني رضي الله عنه
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((السَّمتُ الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء
من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة))؛
رواه الترمذي برقم (2010).
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه،قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((الأناة من الله والعجلة من الشيطان))؛
رواه الترمذي برقم (2012).
ويتبيَّن لنا أن الأناة ثمرةٌ لتوفُّر صفات كريمة في الإنسان،
ومن أهمها: الحلم والصبر، وقد كان سيدنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدَ الحلماء،
وسيد الصابرين.

قال القاضي عياض في كتابه "الشفا في حقوق المصطفى":
"وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال في بعض كلامه:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال:
{ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }،
ولو دعوتَ علينا بمثلها لهلكنا من عن آخرنا، فلقد وُطِيء ظهرُكَ،
وأُدْمِيَ وجهُكَ، وكُسِرتْ رباعيتُكَ، فأبَيْتَ أن تقول إلا خيراً،
فقلت: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ))".
قال القاضي: "انظر ما في هذا القول من جماع الفضل،
ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم؛
إذ لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - على السكوت عنهم حتى
عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم؛ فقال:
((اغفر)) ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: ((لقومي))
ثم اعتذر عنهم بجهلهم؛ فقال: ((فإنهم لا يعلمون))"[3].
وبسبب العجلة يُحرَم المرء من استجابة الدعاء،
وهذا يدل على فضل التأني:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :
(( يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل يقول: دعوتُ فلم يستجب لي ))؛
رواه البخاري برقم (6340) ومسلم رقم (2735) وأبو داود
(1484) وغيرهم.
والأناة المطلوبة ينبغي أن تكون في الحدود المقبولة،
وإلا انقلبت إلى ضدها؛ فليس من الأناة المحمودة أن يبطئ المرءُ
في أمر تحققتْ له مصلحته وللمسلمين، ولا في أداء واجب
افترضه الله عليه حتى يفوت وقته.
حدث لأحد العلماء المعاصرين أن حضر مؤتمراً هاماً، فوجد داعياً
لأن يتقدم باقتراح فيه مصلحةٌ للمسلمين، فجلس يُعِدُّه ويعيد
النظر فيما يكتب ويردد النظر فيه حتى انقضى المؤتمر
ولم ينته من كتابة الاقتراح، ففات بذلك خير كثير.
وبعد،، فإن الخوف من الله، ورجاء الحصول على ثوابه، وحسن
الظن بالناس وتفسير تصرفاتهم التفسير الحسن.. كل ذلك
وأمثاله يعين المسلم على التحلِّي بالرفق بأنواعه التي ذكرناها،
وعلى التحلي بالأناة. وبالله التوفيق،
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.